أقلام

الأدمغة المتزامنة: لماذا لا يكون الاستماع لكل ما يحتاجه طفلك والاستجابة دائمًا له تربية مثالية

المترجم: عدنان احمد الحاجي

بقلم باسكال فرتيكا، أستاذ مشارك في علم النفس، جامعة إسيكس

من الضروري للنمو الصحي للطفل أن يتمكن من تكوين روابط تعلق(1، 2) آمنة مع والديه. فقد توصلت عقود من البحث إلى مكون رئيس لهذه العملية: التزامن بين أدمغة الآباء (الآباء والأمهات) وبين أدمغة الأطفال وسلوكهم أثناء التفاعلات الاجتماعية.

يتواصل البشر مع بعضهم بعض من خلال المزامنة بين أدمغتهم بعدة طرق. يسمى هذا بالتزامن السلوكي البيولوجي(3)، ويتضمن محاكات الإيماءات ومزامنة دقات القلب وإفراز هرمونات (مثل الكورتيزول والأوكسيتوسين). حتى الأدمغة بإمكانها المزامنة، حيث ينخفض نشاط الدماغ ويرتفع بنفس النسبة في نفس الوقت تقريبًا عندما نقضي وقتًا متفاعلين اجتماعيًا مع الآخرين.

لقد أجريت أنا وزملائي دراسة أثبتت أن التزامن بين أدمغة الوالدين والطفل يمكن أن يكون مفيدًا لتعلق الأطفال(1، 2)، ويرتفع نشاط أدمغتهما عندما يلعب أحد الوالدين والطفل أو يتحدثان أو يعملان على حل أحجيات معًا. ومع ذلك، بدأنا مؤخرًا بالتساؤل عما إذا كان الإفراط في التزامن هو الأفضل دائمًا. تفيد دراستنا الأخيرة، التي نشرت في مجلة علم النمو(4) Developmental Science، إلى أن ذلك قد يكون في بعض الأحيان علامة على وجود صعوبات في العلاقة بين الطفل ووالديه.

هل النصائح التربوية الحالية محدثة؟

الكثير من النصائح التربوية الحالية تحث الوالدين على أن يكونوا “منسجمين” [مستمعين لهم ومستجيبين إلى طلباتهم] باستمرار مع أطفالهم. يُنصح الوالدان بأن يكونا قريبين فيزيائيًا [حميميًا] وأن يكونا متناغمين مع طفلهما وأن يتوقعا كل احتياجاته ويستجيبا لها مباشرةً.

النصائح التربوية بنت على نظرية التعلق والدراسات، التي تثبت أن الحساسية الأبوية(5) العالية والأداء الإنعكاسي(6) مفيدان لنمو الطفل وتكوين التعلق الآمن.

ومع ذلك، وعلى الرغم من حسن النوايا وراء هذه النصائح، إلا أن هذه النصائح تغفل العديد من التفاصيل المهمة. على سبيل المثال، كشفت دراسات أنه في حوالي 50-70% من الحالات(7)، لا يكون الوالدان وطفلهما “متفاعلين بأنسجام”. خلال هذه الأوقات، قد يقوم الطفل بأنشطة منفصلة، مثل انشغاله باستكشاف،شيء ما بمفرده أو انشغال أحد الوالدين بعمله. ولكن ينخرطون في “رقصة اجتماعية” من الإقبال والإدبار تشتمل على التناغم مع بعضهم بعض، والاخفاق في ذلك الانسجام وإصلاح هذا الخلل .

وهذا التدفق من الاتصال والانفصال وإعادة الاتصال هو الذي يوفر للأطفال مزيجًا مثاليًا من دعم الوالدين والشعور بالتوتر المعتدل والنافع الذي يساعد على نمو أدمغة الأطفال الاجتماعية [المترجم: الدماغ إلاجتماعي social brain المصمم للتفاعل اجتماعيًا مع الغير والاعتماد على ذلك التفاعل للبقاء على قيد الحياة، وهي خاصة بالحيوانات الاجتماعية ومنها الإنسان(8)] .

اتفق الباحثون أيضًا على أنه يمكن أن تكون هناك تبعات سلبية على كل من الوالدين وطفلهما الذين بينهم انسجام قائم. على سبيل المثال، يمكن أن يزيد من مستوى التوتر في العلاقة ويزيد من احتمال التعلق غير الآمن للطفل بوالديه [حيث يكون الولدان أو أحدهما عدائياً تجاه طفله ويُكرهه على اتجاه او سلوك معين؛بحيث يجد الطفل أن حاجاته ورغباته لا تلبى]. وينطبق هذا بشكل خاص إذا كان مرتبطًا باثارة الوالدين للحمل الحسي لدى طفلهما أو الاستجابة المفرطة لكل احتياجاته(9).

بالنسبة لانسجام الوالدين والطفل، يبدو أن هناك “نطاقًا متوسطًا(10) مثاليًا”. أو بعبارة أخرى، قد لا يكون الافراط في الانسجام أفضل بالضرورة.

التزامن والتعلق بين الدماغين

ضمن فريق دولي كبير من الباحثين من جميع أنحاء أوروبا، شرعنا أنا وزملائي بدراسة مدى ارتباط التزامن السلوكي البيولوجي بين الوالدين والطفل بالتعلق.

لقد قمنا بدعوة مجاميع ثنائية من الأمهات وللأطفال – 140 من الأمهات وأطفالهن الذين يتراوح سنهم بين 5 إلى 6 سنوات – إلى مختبرنا SoNeAt حيث قاموا بحل أحجية الـ تنغرام tangram الصينية معًا.

قمنا بقياس نشاط الدماغ باستخدام التحليل الطيفي الوظيفي للأشعة تحت الحمراء القريبة (fNIRS) “المسح الفائق”، حيث طُلب من كل من المشاركين ارتداء قبعات رأس متصلة بأجهزة استشعار. وقمنا أيضًا بتسجيل مقاطع فيديو لتفاعلاتهم حتى نتمكن من تقييم مدى التزامن السلوكي البيولوجي الذي ظهر عليهم، ومدى انسجامهم وانتباههم لبعضهم بعض. وأخيرًا، قمنا بتقييم نوع التعلق لدى الوالدين والأطفال – المعروف باسم تمثيلات التعلق(11) [المترجم: تمثيلات التعلق attachment representations هو القدرة على تكوين علاقات والحفاظ عليها، ومدى ما تؤثر هذه العلاقات في نمو الأطفال وفي إحساسهم بالذات وبالآخرين بحسب التعريف].

لقد اكتشفنا سابقًا زيادة في التزامن العصبي في المجموعات الثنائية (ثنائيات) من الأمهات والأطفال ومن الأباء والأطفال أثناء المهام المختلفة. وفي ثنائيات الأمهات والأطفال، ارتبط التزامن العصبي بالتناوب في حل الأحجية أو الحديث بين الأم والطفل . وفي ثنائيات الأب والطفل، ارتبط التزامن أثناء حل الأحجية بكون الأباء واثقين من دورهم كآباء ومستمتعين بلعب هذا الدور. ولكن هل يعني ذلك أن التزامن العصبي العالي بين الوالدين والطفل هو دائمًا مقياس للعلاقة الجيدة بينهم؟

في دراستنا الجديدة هذه، لاحظنا في الواقع أن الأمهات اللاتي لديهن نوع من التعلق غير الآمن أو التعلق القلق(12) أو التعلق التجنبي(13) أظهرن المزيد من التزامن العصبي مع أطفالهن . ومن المثير للاهتمام أن أنواع تعلق الأمهات لم تكن مرتبطة بمدى تزامن الأمهات والأطفال من حيث السلوك. لقد وجدنا أيضًا زيادة في التزامن العصبي ولكن انخفاضًا في التزامن السلوكي البيولوجي في ثنائيات الأباء والأطفال (مقارنة بثنائيات الأمهات والأطفال) بشكل مستقل عن التعلق.

تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن التزامن العصبي العالي قد يكون نتيجة لبذل جهد ذهني متزايد في التفاعل بين الوالدين والطفل. إذا كانت تمثيلات التعلق لدى الأمهات غير آمنة، فقد يكون من الصعب على الأمهات والأطفال التنسيق (التزامن) بينهم ومساعدة بعضهم بعض أثناء القيام بأنشطة مثل حل الأحاجي.

قد ينطبق نفس التفسير على التزامن العصبي أثناء حل الأحاجي بين الأب والطفل. الآباء أكثر دراية باللعب النشط والخشن. وبالتالي فإن الانخراط في أنشطة منظمة ومرهقة ذهنيًًا، مثل حل الأحاجي قد يكون أكثر صعوبة ويتطلب المزيد من التزامن العصبي بين الأب والطفل.

الدروس التي ينبغي أن يستفاد منها

ماذا تعني هذه النتائج التي توصلنا إليها؟ ما هو أكثر أهمية، لا ينبغي للوالدين أن يشعروا بأن عليهم أن يكونوا “منسجمين”مع أطفالهم [يستمعون اليهم ويستجيبون لطلباتهم[ طوال الوقت وبأي ثمن. يمكن أن يعكس الانسجام المفرط بين الوالدين والطفل أيضًا صعوبات في التفاعل ويمكن أن يؤدي في كثير من الأحيان إلى إرهاق (إحتراق) الوالدين(14)، مما يؤثر سلبًا في العلاقة بين الوالدين والطفل. [المترجم: الاحتراق burnout هو “حالة من الإرهاق أو والإحباط الناجم عن التفاني في سبيل تحقيق مهمة ما، بحسب التعريف]

من المفيد بالطبع أن يكون الوالدان حاضرين من الناحية العاطفية، وماهرين في قراءة الاشارات والقرائن الصادرة من طفلهما [مثل أنواع البكاء المختلفة، وتقوس الظهر للدلالة على عدم الراحة، والتحديق في أحد والديه، والإشاحة بوجهه عنه(15)] والاستجابة السريعة والمباشرة لاحتياجاتهم. خاصة عندما يكون الأطفال صغارًا [أي بين السنتين والثمان سنوات، بحسب التعريف]. ومع ذلك، يكفي أن يكون الوالدان “جيدين بما فيه الكفاية” – ليكونا حاضرين عندما يحتاجهما طفلهما لا أن يكونا “حاضرين له على الدوام”.

الأطفال يحتاجون أيضًا أن يلعبوا لوحدهم مستعلين عن والديهم  

كما يمكن للأطفال الاستفادة من الحرية والاستقلال(16) من الناحية العاطفية والاجتماعية والذهنية، خاصة مع كبر الأطفال.

ما هو مهم بالفعل هو أن العلاقة بين الوالدين وطفلهما تؤدي بشكل عام وظيفتها بشكل جيد. أن يتمكن الأطفال من تنمية الثقة في والديهم وأن يتم اصلاح أي خلل في التعلق، وهو ما يقع بشكل طبيعي دائمًا، بنجاح. هذا هو الجوهر الحقيقي لنظرية التعلق، والتي غالبًا ما تحرف عن معناها وتحاك حولها أساطير ومعلومات مضللة، خصوصًا فيما يتعلق بالنصائح التربوية(17).

كتاب بيبيغرو(18) Babygro

لتحديد مسار التربية المثقل بالتحديات والصعوبات بشكل أفضل، يحتاج الآباء إلى مصادر معلومات موثوقة وحديثة. بالتعاون مع مؤسسة Babygro الخيرية في المملكة المتحدة، قمنا بنشر كتاب “بيبيغرو”(18) Babygro المجاني للآباء والأمهات لتزويدهم بالمعرفة القائمة على الأدلة الخاصة بالتربية وتنمية الطفل.

مصادر من داخل وخارج النص

1 ” نظرية التعلق هي نظرية تصف طبيعة العلاقات طويلة الأمد بين البشر، وتعتقد بأن الطفل بحاجة إلى تكوين علاقة مع شخص واحد على الأقل من مُقدمي الرعاية (الوالدين) لكي يحصل على النمو العاطفي والاجتماعي طريقة طبيعية. فهي تشرح كيف تؤثر علاقة الطفل بأبويه في نموه. نظرية التعلق هي دراسة متعددة التخصصات، حيث تشمل نظرية التطور وعلم النفس ونظريات علم السلوك الحيواني.” مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:

https://ar.wikipedia.org/wiki/نظرية_الت

2- https://pvrticka.com/attachment/attachment-theory-a-social-neuroscientists-perspective/

3- “التزامن السلوكي البيولوجي بين الوالدين والرضيع هو مطابقة السلوك والحالات الوجدانية والإيقاعات البيولوجية بين الوالدين والطفل، وتُنظم في نسق منسجم على الدوام لضمان الاستتباب البيولوجي من خلال افراز نواقل عصبية، مثل الأدرينالين والكوريتزول .” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.sciencedirect.com/topics/psychology/biobehavioral-synchrony

4- https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/desc.13504

5- “الحساسية الأبوية parental sensitivity هي القدرة على التفسير الصحيح للإشارات الانفعالية (العاطفية، كالبكاء وتقوية الطفل لجسمه وتحديقه في أحد والديه او الاشاحة بوجهه عنه) التي تأتي من الرضع والاستجابة لها بالشكل المناسب.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/22697468/

6- “التعقيل mentalizing، أو الأداء الإنعكاسي reflective functioning، يعني قدرتنا على فهم أنفسنا وفهم الآخرين من حيث الحالات الذهنية المقصودة، مثل المشاعر والرغبات والأمنيات والأهداف والمواقف التي نحتاجها للتعامل تعاملًا اجتماعبًا.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.ucl.ac.uk/psychoanalysis/research/reflective-functioning-questionnaire-rfq

7- https://psycnet.apa.org/record/1987-15272-001

8- https://www.nature.com/articles/s41562-018-0384-6

9- https://files.eric.ed.gov/fulltext/EJ1293583.pdf

10- https://center-for-attachment.com/wp-content/uploads/2020/08/How-does-microanalysis-of-mother-infant-communication-inform-maternal-sensitivity-and-infant-attachment.pdf

11- https://seasinternational.org/explanations-of-attachment-theoretical-concepts/

12- “غالبًا ما يعتاد الذين يعانون من نمط التعلق القلق anxious attachment الذي يعتبرونه نقصًا في المودة والحميمية على أنهم لا “يستحقون الحب”، ويخشون بشدة من الرفض نتيجة لذلك.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

Anxious Attachment in Relationships – The Complete Guide

13- “يتميز التعلق التجنبي avoidant attachment بعدم الراحة تجاه العلاقة العاطفية الحميمية، والرغبة القوية في الاستقلال، وصعوبة الثقة الكاملة بالآخرين.” ترجمناه من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.verywellmind.com/what-is-avoidant-attachment-in-relationships-8600201

14- https://www.sciencedaily.com/releases/2024/05/240508093726.htm

15- https://magazine.byu.edu/article/catching-childrens-cues/

16- https://theconversation.com/young-people-are-getting-unhappier-a-lack-of-childhood-freedom-and-independence-may-be-partly-to-blame-226933

17- https://pvrticka.com/attachment-myth-busting/

18- https://babygro.org/babygro-book

المصدر الرئيس

https://theconversation.com/synced-brains-why-being-constantly-tuned-in-to-your-childs-every-need-isnt-always-ideal-230223

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى