تفل كل المطاعم أمام خبزة من تنور ستي
زكريا أبو سرير
لهذه المقولة التي تحمل عنوان هذا المقال، قصة عمرها قارب على اثنين وثلاثين عاما،وبالتحديد في عام 1992م، عندما كنت أعمل في شركة اتحاد المقاولين بوظيفة كاتبحسابات بقسم المحاسبة فرع مدينة الخبر، وتعد شركة اتحاد المقاولين في وقتها منأكبر الشركات التي تعمل في مجال البناء والأشغال العامة، حيث تأسست عام 1952معلى يد رجال الأعمال سعيد خوري، وحسيب الصباغ وكامل عبد الرحمن في لبنان،وأكثر مشاريعها وأعمالها تتركز أساساً في السعودية وباقي دول العالم العربي.
رست عليها عدة مشاريع منها حكومية، وبعضاً من مشاريع شركة أرامكو السعودية،وكان يعمل فيها مختلف الجنسيات وبمهن مختلفة من مهندسين ومحاسبين وإداريينوفنين بكفاءات عالية، وكانت تتمتع هذه الشركة بسمعة جيدة في السوق حيث لهافروع في غالب دول العربية، ومركزها الرئيس كان في لبنان، وبعد الحرب الأهليةانتقلت إلى أثينا عاصمة اليونان.
أحد موظفيها _وكان يسبقنا بالعمل بمدة طويلة_ المهندس عبد الرؤوف، وكنا نكنيه بـ“أبو العبد” من المملكة الهاشمية الأردنية، ثم إنَّه يكبرني وقتها بنحو عشرين عاماً تقريبا أو أكثر، وكنا كفريق عمل وزملاء بين الفينة والأخرى نجتمع على وجبة إفطار أو غداء على نحو جماعي بمناسبة معينة؛ كترقية موظف، أو زيادة في راتب أحد من الزملاء أو بمن رزق مولود أو أي مناسبة سعيدة كانت. يجتمع الموظفون ونحتفل بهذه المناسبة مع صاحبها، وكان الاحتفال في العادة وجبة غذاء فاخرة من أحد المطاعمالمشهورة في محافظة الخبر.
وصلتني دعوة كريمة من أحد الزملاء على الغذاء، وكانت أول دعوة تصلني منذ تعيينيفي الشركة، فقبلتها ورحبت بها، وشكرت صاحب الدعوة، وحين حان وقت الطعامتفقدت صاحبنا “أبو العبد” فلم أجده، فبادرت بالسؤال عنه فقالوا لي: أبو العبد يحتاجشخص قوي لإقناعه بالأكل معنا! تعجبت من ذلك، وسألتهم عن سبب غيابه عن طاولةالطعام، بهذه المناسبة السعيدة مع زميلنا؟ أجابوا: بكرة تعرف أبو العبد!
بعد الانتهاء من تناول وجبة الطعام كلٌّ ذهب إلى مكتبه، وأنا حينها توجهت إلى مكتب“أبو العبد”، وقد ربطتني به حينها علاقة وثيقة وجيدة، مرحباً “أبو العبد”، خسرنا وجودك معنا على الغداء مع الإخوة الزملاء، سلامات! لماذا لم تشاركنا الطعام؟ فأجابأبو العبد بلهجته الشامية “ تفل كل المطاعم أمام خبزة من تنور ستي”.
أبو العبد كان ضد ثقافة تناول الطعام من خارج البيت العائلي مهما كانت المغريات منالطعام المختلف والمقدم له حتى لو من أشهر المطاعم المعروفة أو المشهورة، وتكبرعنده المشكلة عندما يكون مسافراً، مع أنه شخصية كريمة ودخله الشهري عالي جدّاًإلا أنه يرفض تناول المأكولات الخارجية المطبوخة من خارج بيته، له وجهة نظر يقولفيها: “أنا لا أهجر مطبخ بيتنا”، فكان في الواقع يتمتع بصحة جيدة رغم أنه شارف الخمسون عاماً ونيف حينها.
بعد أن هجر الكثير المطبخ العائلي التي يتميز أولاً بالنظافة العالية والحرص على الزيادةفي الاعتناء بأدوات الطبخ، وبالفوائد التي تحتويها الوجبة الغذائية وبمكوناتها المفيدةوالمتعددة، بعد هجر المطبخ العائلي كثرت الأمراض الدخيلة علينا، كالسمنة المفرطةوالأمراض المزمنة كالسكر والضغط وغيرها من الأمراض التي لم يكن المجتمع يعرفهاأو يألفها في السابق، وذلك لتمسكه بالعادات العائلية والاجتماعية التي تحثه على ألاتقع اختياراته إلا على ما هو صالح له، وكان ضمن تلك الخيارات كيف يختار طعامه، ومنأين يأكله حتى لا يقع فريسة لأصحاب الضمائر الميتة الذي لا تراعي ذمة، ولا ضميراً، ولاخوفاً من الله، ولا حرمة دين، ولا شرع ولا قيمة للإنسانية، المهم عندهم كم يجنون منالأموال حتى لو أدخل الجميع في غرف العناية المركزة، بسبب تسمم غذائي.
بعد حادثة مدينة الرياض الغذائية السوداوية التي فجع بها الجميع، وشكلت صدمةللشعب السعودي الكريم وما جرته هذه الحادثة والفاجعة الإنسانية المؤلمة التي كانضحاياها من المواطنين والمقيمين، بعد تناولهم وجبة غذائية من أحد المطاعمتسببت لهم بحالة من التسمم أدخلتهم غرف العناية المركزة، ولعل بعضهم لم يتعرفعلى معنى غرفة العناية المركزة ووظائفها إلا حين تورط في تناول هذه الوجبة الغذائية،هنا ينبغي أن تكون لنا وقفة جادة للتأمل والتفكر في إعادة التفكير في التحول الثقافيالغذائي الحاصل عندنا، وعند أبنائنا، بسبب هجراننا المطبخ العائلي، عندما تحولتثقافتنا نحو الرغبة في التغيير عن المطبخ العائلي، وكان الخيار السيئ أن نأكل طعاماً لانعلم عنه شيئاً؛ بعد أن كنا نعلم تفاصيل ما نتناوله من طعام، ونحن بنفس مطمئنةوراضية وبصحة جيدة.
حيث أصبح عند الغالب ربما الخيار الأول أمامه عند الشعور بالجوع أو عند دعوة ضيفعزيز هو البحث عن أفضل المطاعم، وليس البحث عن أفضل ما نطبخه في بيتنا، فعلاًأصبح المطبخ العائلي مهجوراً عند الغالب بعد أن كان هو العصب الرئيس للعائلة،فضلاً عمّا يحمله من المذاق المميز التي يتميز به ومستوى النظافة التي لا يعلو عليهفيها أي مطبخ آخر مهما كان شكل أناقته أو مدى مستوى درجة طهيه.
الحل في وجهة نظري لعلاج مثل هذه الثقافات الغذائية غير الصحية أولاً؛ أن نرجع إلىالأصالة في مأكلنا ومشربنا، ومن ثم نبدأ نتصالح مع مطبخنا العائلي والرجوع إليه لكينتجنب مثل هذه المخاطر الصحية، والأمر الآخر أن نثقف أنفسنا وأبناءنا على الثقافةالصحية الصحيحة التي تجنبنا الوقوع في المنزلقات الصحية الخطيرة، وتبعدنا عندهاليز الشكوك التي ترافقنا في رحلة الاختيار عن نوع الطعام، ومن العاملين الذينقاموا بطهيه وإعداده إلينا، ثالثاً أن نتعلم مهارة الطهي والطبخ، ويعد الطبخ أو مهارةالطبخ واحدة من أهم الفنون الحياتية المهمة، وكذلك المهنية، قديماً كان الآباءوالأجداد يشاركون زوجاتهم في عملية الطبخ، بل كان بعضهم يقوم بإعداد الوجبةكاملة وتجهيزها من وإلى، وهم يشعرون بنوع من الفخر بجودة ما صنعوا من طعام.
شخصيّاً كنت حاضراً في حوار مع مجموعة من الآباء، وكلٌّ منهم كان يروي قصصهالمطبخية، حتى إن بعضهم ما زال يتمتع بروحية الطبخ لعائلته وأحفاده، ويبرز تعلمالطبخ حين الشعور بالتحرر من عبودية المطاعم أو التفكير بالطعام الخارجي، بليجعلنا أحرارا فيما نريد من الطعام، حيث إن الحاجة أم الاختراع كما يقال.
في الختام، إن تعلم مهارات الطبخ أصبحت ضرورة ماسة من ضروريات الحياة سواءكنت في وطنك أو خارجه، أنت بذلك حر نفسك متى ما أردت أن تأكل سوف تأكل ولنتكون يوماً أسيراً لمطعم، ناهيك عن ضمان ما تأكله بإذن الله ولا يرميك في غرف العنايةالمركزة، وهذا ما يقصده صديقنا أبو العبد.