أقلام

سعد الدوخي .. انموذج الالتزام الأخلاقي تجاه الأسرة

كمال الدوخي

في ذكرى أربعين الراحل العم سعد الدوخي، وهو أحد رجالات المجتمع بمدينة الدمام الذين كان لهم دور في جمع الناس، والتفافهم حول بعضهم البعض، متخذًا من داره مكانًا للتقارب واللقاء، وإحياء المناسبات الدينية والاجتماعية، فكانت تلك الدار للجميع دون تمييز، ودون تفرقة.

العم سعد تلك الشخصية الإيمانية منذ سنوات عمره الأولى كان متمسكًا بأهل البيت عليهم السلام، بل كان ممن يتقدم لقراءة مصارع أهل البيت عليهم السلام في فترة طفولته وشبابه بالأحساء، ولعل هذا التمسك الإيماني والحس الاجتماعي مكناه سريعًا من القدرة على الانخراط في العمل الوظيفي بشركة أرامكو قرابة عشرين عامًا، ثم وزارة المالية والعمل التجاري في آنٍ واحد. ذكاؤه وحضوره الذهني وجرأته انعكست على تقدمه في العمل الوظيفي والتجاري. وذكر لي ابنه علي بأنه كان يتعامل مع بعض الأجهزة النادرة التي كانت تحتاج في وقته لخبراء أجانب بينما هو كان يقوم بهذه المهام بعناية.

الالتزام الأخلاقي تجاه المجتمع:
من أبرز ما يميز دار الحاج سعد الدوخي، بأن لا يوجد طبقية مقيتة قد نراها للأسف في بعض المجالس؛ التي نجد فيها لأهل المال والجاه حيزًا خاصًا بهم؛ يُستقبلون من الباب إلى مقعدهم وكأنهم قد خلقوا من طينة لا تشابه بقية البشر، بينما الفقير أو بقية الناس ممن ليس لهم صفة اعتبارية نخبوية -بحسب تصنيفات بعضهم- يتوسدون الأرض. حتى في عزاءه كان التعامل بهذا المنطق، ووصلني بعض العتب حول ذلك، ولكن بطبيعة الحال هو من أوجد هذه الحالة في التعامل أثناء حياته ولن تتغير بعد مماته.

ولعل ما يقربك منه هو مداومتك على الحضور للمجلس، أما بقية الأمور لا تغير من طريقة تعاملك عند حضورك. بينما تجده هو -على الرغم من كبر سنه- يتنقل بين الحضور، ليجالس هذا بعض الوقت، وينتقل للآخر، كي يقوم بواجب الجميع بما أمكنه.

كذلك لم يتورط مجلسه بانتقاء الخطباء بحسب توجه أو تيار، ولم يتورط هو بذلك، وفي ذروة سنوات المجلس والحضور الكبير فيه، حافظ على علاقات متوازنة مع الجميع ولم يدخل نفسه كطرف في أية قضية اجتماعية حدثت مهما اقتربت منه أو ابتعدت، محافظًا على نقاء العلاقة بكافة أبناء مجتمعه.

وعندما كان يعطي لا يسأل عن مذهب أو تقليد أو منطقة، وكأن عمل الخير لا يكون إلا لفئة من الناس. بل يذكر لي أحد الأخوة أن أحد رجل الدين أنبه -رحمه الله- على عملٍ خيري قام به كونه لا يتفق مع توجه ما، ولكنه تهرب من إجابة رجل الدين بدبلوماسية وهدوء، وأكمل ما أراد القيام به دون تراجع.

الالتزام الأخلاقي تجاه أسرته:
لعل ابتعاده في بداية شبابه عن الأحساء، خلق لديه حالة من الحنين تجاه أبناء عمومته بشكل خاص، فلا يلتقي صغيرًا أو كبيرًا من أبناء عمومته إلا كان حريصًا على أن يقربه لبقية الأسرة، وكأنه يجمع شتات أبناء عمه في الدمام والخبر، وبقية المدن إن استطاع.

بل ويضيق صدره إن حاول أن يقرب بعض أبناء عمومته مهما بعد نسبه ويجد استجابته ضعيفة، حتى أيقن جميع من اقترب منه أنه يمارس دور الأبوة تجاه كافة الأسرة، على رغم أن الأسرة ورثت في جيناتها أطباع “بيتوتية”، فتواصلها الاجتماعي ضعيف، ويمارسون شيء من العزلة، حتى تكاد لا تشعر بوجودهم ولو كانوا يعيشون بجوارك سنوات طويلة. ولكنه كسر هذه القاعدة، فكان الاستثناء بالدمام.

كما أنه -رحمه الله- يحرص على جبر خواطر أسرته ما استطاع ولو على حساب صحته، وأذكر في زواجي وقد كان في وضع صحي لا يسمح له بالحضور إلا أنه حضر وأوقفنا خلال الزفة ليبلغنا أنه لا يستطيع الوقوف معنا لاستقبال المهنئين لكنه سيبقى حاضرًا، تأكيدًا منه على دوره تجاه الأسرة وجبرًا للخواطر ورفعًا لأي لبس قد يبقى في النفوس.

أيضا بحفل تدشين صحيفة بشائر الإلكترونية، حضر متأخرا وقال لي بأنه كان متردد من الحضور بسبب مشكلة في ركبته، لكنه حضر جبرا للخواطر ولا أنسى بأن الشيخ يوسف العيد الذي ترك مكانه للعم بعد أن امتلأ المكان بالحضور فأنقذني من احراج عدم وجود مكان لمن حضر كي لا يرد دعوة ابن من أبناءه.

من حفل تدشين صحيفة بشائر الإلكترونية

كذلك -رحمه الله- عندما يدخل لحل مشكلة أسرية، يحرص أن يسمع لكل الأطراف، فلا تجده يناصر طرفًا على آخر إلا إذا تأكدت له أحقية أحد الأطراف أو تجاوز الطرف الآخر، وأذكر أن أحد المؤمنين قدم له لحل مشكلة زوجية مع أحد أبناء الأسرة فأكد له أنها مشكلة زوجية ودخوله فيها سيكون بحدود معرفة إمكانية حلها “ولا أمر لي على أحد”، على الرغم أنه يملك أن يوجه ولكنه يدرك حساسية المشاكل الزوجية وحدود التدخل فيها.

التزامه أيضًا بجمع الأسرة في الأعياد والمناسبات، فكثير من الناس عندما يقيم مأدبة يحرص على دعوة الأصدقاء والمعارف أكثر من أسرته، ولكن العم سعد تجد حرصه بالدرجة الأولى على ذوي القربى، لذا كان ما يؤلم في رحيله أن لا نجد من تجتمع الأسرة حوله، إلا أن حرصه الذي مارسه في حياته والذي كان في أحيان كثيرة شغله الشاغل، أكمله بعد رحيله بما أوصى به من استمرار اجتماع الأسرة وأوقف لذلك ما يضمن استمرار اجتماع الأسرة، ومجالس الذكر.

ولا شك أن بركات أهل البيت في شخصيته واضحة وتأثيرها على حياته العملية والاجتماعية والأسرية، من مبادرته وحضوره وإقامته للشعائر الدينية فلم يترك الحج حتى وقت قريب فقد رافق سماحة السيد علي الناصر السلمان في غالبية رحلاته للحج.

ويذكر الشيخ زكي العمران بأنه حين لم يتمكن العم سعد من الحج أصبح يتكفل بحج عدد من الأسر سنويًا، وقبل شهرين من رحيله قدم له أحد طلبة العلم يطلب منه التكفل بحج إحدى الأسر فأجابه العم سعد في البداية أن العدد الذي يتكفل به سنويًا قد اكتمل فدعهم للعام القادم، ولكنه في اليوم الثاني اتصل بطالب العلم وأخبره أنه سيتكفل بحج هذه الأسرة هذا العام، وعندما سأله طالب العلم عن سبب تغيير رأيه، قال له: اليوم أنا موجود واستطيع القيام بالأمر ولكن من يضمن أنني سأكون موجود للعام القادم، بالتأكيد حجت هذه الأسرة هذا العام بينما كنا نعيش أيام العيد لأول مرة من دونه.

فقدناه، وأي فقد لعزيز قوم كان يصارع مرضه وتجده واقفًا شامخًا عزيزًا، لا يشكو من ألمه ويسمع شكوى وآلام الآخرين، فقدناه ولا عوض عن رجل يسأل عن أبناء أسرته فردًا فردًا الصغير قبل الكبير وهو أحق بالسؤال عن حاله، رحمك الله أيها المؤمن القدوة، لقد أتعبت من بعدك كل أسرتك وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا عزاء بفقدك إلا أننا على يقين أن من كان قلبك متعلقًا بهم في الدنيا لإقامة ذكرهم هم شفعائك بالآخرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى