أقلام

شهابيات

الشيخ عبدالجليل البن سعد

على مستوى الشعور العام هناك إحساس شعبي بالثلمة في منظومة المشيخة الدينية الاحسائية تسبب فيها فقدُ العالم الجليل والشيخ النبيل أبى صادق محمد الشهاب “أكرم الله نزله”، وهذا ما يعني هزة في المفاهيم، لان هذا الشعور يتكلم صادقا عن أن مفهوم القيمة للرجال من حملة العلم والعنوان لا تتطلب الظهور، ولا ترتهن بألقاب التفخيم، فان شيخ الاحساء الذي ودعها هذه الأيام قد مات معافا من الألقاب والاوصاف وهذه العافية عزيزة في زمننا هذا ؟!!

وما يمكنني أن استجيب به لمشاعري ولنداء بعض أحبتي ممن يحسن الظن في قلمي ــــــ وقد ارسل الي يستدعيني الكتابة حول الفقيد ـــــ هي شهابيات اذا عَبَرَتْ بفضاء نفس طاهرة وذهن نقي زادته شعلة واتقادا بصيرتيا لا بصريا.

الشهاب المخضرم:

يحتفظ ذوي المعرفة بمسيرة الحوزة بنظرة مميزة للطلبة السبعينيين الذين هم ما بين الستين والسبعين فما فوق، فهم مخضرمون عاشوا عيشةَ ممارسةٍ واختلاطٍ مع فترة الخصوبة الحوزية، فقد بلغت كل الحوزات ذروتها سواء النجف او قم او الاحساء التي افتتحت المسجد الجامع بالمبرز في تلك الفترة أيضا.

وان الشيخ محمد الشهاب “حفه الله بالعفو والرضوان”، في تلك الطبقة، وأحد رواتها لو أن رواياته قد حفظت!!

الشهاب المعلم:

يُصنَف أساتذة الحوزة بحسب سلم المراحل الدرسية، وهذا ما يبدي أساتذة السطح او البحث في أعلى الرتب العلمية، دون غيرهم من أساتذة المقدمات مثلا، غير أن وراء هذا التعريف بالاستاذية تعريف بالسمة والقدرة المتناهية فيقال: فلان الشيخ أستاذ مقدمات متقن، وإذا شاءت الحوزة أن تتحدث عن اسرارها فان هؤلاء يثمَنون بطريقة خاصة، لان من هم أساتذة المقدمات يقفون على أول عتبة تربوية لطالب العلم، وهم أساتذة العلوم التي سيبنى عليها المراحل المستقبلية، وقد شاهدنا في حياتنا بقم المشرفة، أروقة يجلس فيها أساتذة في المقدمات مزدحمة ازدحاما كبيرا، وفي قبالها أروقة لتدريس البحوث الخارجة لا تتجاوز عدد أصابع اليدين!

بل كان لبعض معلمي المقدمات سمعة ذائعة ومكانة واسعة، وهذا الاحترام هو ما يترجم أهمية الأستاذ المتقن للمقدمات.

وقد كان الشهاب الأحسائي ممن يشار اليه في هذا المجال لا أقل في تلك الفترة التي لمحته فيها وهو يجلس في القاعة المعروشة من المسجد الجبلي ويغذي فيها حلقته، وقد اصبح بعض حضّاره في عداد الفضلاء اليوم، وقد كان كتاب الشرايع بالذات لذيذا عند طلابه بلذة شرحه وبيانه المتبسط الفاتن.

شهاب القلوب:

هناك من يحقق لنفسه منزلة في قلوب من حوله بحسن الخلق وطيب المعشر، وهناك من يرفعه الناس لعلمه أو لخدماته ولئن كانت هذه وتلك مما تتوافر عليه شخصيته “طيب الله ثراه” فانها ليست من مختصاته، فلدى الاحساء المزيد من هذه الشخصيات البارة.

ولكنه استطاع أن يجعل القلوب تنفرج أمامه وتنشرح الاسارير على واقع ما بدا عليه من جمال مزدوج بين الشعبية والوقار، فقلة هم الذين يجمع الله لشخصيتهم هذين الجمالين..

مجلس الشيخ يمتاز بالشعبية في الصبغة والمضمون، في الحديث والحدث، في الاستقبال والاسترسال، في الطرفة الفكاهية والتحفة العلمية، ولكن كل هذا لا يسمح لذوي المروءة من جلاسه بالجرأة عليه فهو من ذوي الوقار والهيبة الخاصة، هكذا يتحدث انطباع كل من له به صلة.

الشهاب الاجتماعي:

– بعض طلاب العلم انتقلوا من قراهم لانها لم تعجبهم!!

– و من سيرة بعضهم أيضا انهم انسحبوا او انهزموا امام مجتمع لم يعطهم التقدير فتركوا الحبل على الغارب!!

– و رأينا من قد تفاعل وتجاوب مع التصادمات فلم يربح شيئا ان لم يكن قد احرق كل شيء!

هذه هي الشخصيات المتأثرة بالقلق الاجتماعي.. والى هنا فان النتائج كما الواقع طبيعية جدا.

ولكن يبقى من الصور القليلة الغالية رجال يقهرون القلق الاجتماعي بالذكاء الاجتماعي، والذي يتمثل في القدرة على الامتصاص، ومقابلة الإساءة بالاحسان، وتعقب أخطاء الغير بالمحاية الخفية، وفي تعبير اليوم المعارضة بصمت!!!

وقد تعرفت على هذه الحالة من حالاته في منعطفين من منعطفات زمانه لا تأذن النفوس بسماعها ؟!

شهاب الدعوة:

هو الداعية الذي لا تنقصه مقومات الدعوة الى الله، من نقاء السريرة، وطيب السيرة، وذلاقة البيان وفصاحته، ثم الدقة والصواب في المنطق، وما إلى غيره.

ولكن العمل على مدى أربعين سنة او تزيد في حياة هذا الرقم الاجتماعي والديني الكبير، تأتي ناجحة بميزان قضية (التمركز والانتشار في الدعوة).

فان هناك دعاة منتشرين تركوا بصمة في كثير من القرى والبلدان داخل وخارج الاحساء، وهناك دعاة ومرشدون متمزكزون في حدود محلتهم او قراهم وربما لا يتجاوزون مسجدهم المعين.

ان السيرة الطويلة للتبليغ والدعوة والإرشاد شاهدة على أن نجاحها بهذين النموذجين لا تستغني باحدهما عن الاخر، فان وجود الشخصية المتمركزة تعد كالخليفة للشخصية المتنقلة، فان طالب العلم الرحالة لا يمكنه أن يجعل مكانا عامرا بحلوله فيه الا وترك مكانه السابق شاغرا بخروجه منه إلا أن طلبة العلم الذين لم يألفوا سوى مكانهم يؤَمّنون ببقائهم على حاجة تلك الأماكن أن لا تضيع او تتعطل !

وبخصوص شخصيات التمركز الاحسائيين يدين لهم أهالي محلتهم بالابوة وفضل التربية، لان التمركز يجعلك متخصصا ومختصا بهذا الجيل الذي هو أمامك يطلبك فتستجيب له وتطلبه فيستجيب لك، وممن يشار الى تمركزهم بالنجاح اللافت الشيخ صادق الخليفة في محلة السياسب، والسيد كاظم العلي في بلدة الرميلة ومنهم هذا الشيخ الذي سحبه الموت من محلته على حين غرة من محبيه.

شهاب الذكريات والحكايات:

رجل لا يبارى في ذكريات مجتمعه وخواطر ابطال ذلك المجتمع وساداته ووجهائه الماضين والحاضرين، فحينما تجلس اليه ساعة فانه يبث في عقلك مسلسلا تاريخيا تراثيا كوميديا أو مأساويا من عدة حلقات في مجلسك هذا لا غير!!

لذا فاني اعتبره راوية احسائية مفتقرة النظير..

كما انه (بلغه الله رضاه) لا يورد حكاياته ومروياته ايرادا او استيناسا فقط، بل يطرحها شاهدا على فكرة او دعوة تقال، مما يجعلك تفهم مغزاها فهو يوظف حسنات الماضين وطرايفهم في نفوس الحاضرين وشبابهم، وهذه لم اتعرف عليها في كثير من الرجال.

شهاب الادب:

كانت ادابه ـــــ فيما رأيته ـــــ بعيدة عن التكلف، لا أقول هذا طبعه بل هذا هو فهمه ايضا..

والعلامة المائزة بين ثوب الادب الطبعي وثوب الادب الفهمي أن الأخير ذو احاسيس ومشاعر لا يقبل غير المتجانس معه.

ففي يوم من أيام زيارته العابرة لقم المقدسة دخلت مجلسا يجمع بينه وبين ثلة من الطلبة وفيهم من ذوي الفضل، فتحدث احدهم عن جانب من سيرته الاسرية المتكلفة، فنقاشه ابن الشهاب الصادق باسلوبه ودعابته مما أحرج منطق الاخر دون أن يجرح شخصه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى