بليلة
رباب حسين النمر
أمام عتبة الباب انتصبت طاولة التوزيع شامخة، يغطيها مفرش أبيض نظيف، تصطف فوقه علب البليلة الساخنة، تنتظر مرور المعزين ليلتقط كل واحد منهم حصته من مائدة الحسين عليه السلام.
لم يكن سواد لياليها مظلمًا حيث الفراش والنوم، بل كان نهارا حافلًا بالنشاط. كانت لوحدها خلية تعمر الليل في مطبخها فتنقع أكياس البليلة في قدر كبير، ثم تشعل تحته النار، وتحضر عدة التعليب ريثما تنضج البليلة.
يداها المعرورقتان كانتا تزداد صمودًا كلما تقدم بها السن، لم يثنيها حزنها وانحناء ظهرها عن مواصلة هذه الخدمة الحسينية التي ألفتها وعشقتها وأحبتها.
لم تكن قصص الفقد لأم البنين الأربعة سوى محفزًا جديدًا لها لتكمل حياتها في سبيل الخدمة الحسينية وتشعل من وحدتها شمعة تصهل بالضياء.
تتأمل صور أبنائها الراحلين فتمسح بطرف ملفعها دموعها الساخنة، وتبتهل إلى الله أن تنجح في اختبارين ساقهما الله إليها ليمتحن مدى صبرها، فاختطف الموت غلامين من دفتر وجودها، واختطفت الحرب الأهلية شابين يافعين بدآ مسيرة الرجولة، وطوى الموت رفيق الدرب وشريك الحياة.
الحياة لا تتوقف مهما ماتت الشمس في شعورها ومهما مات القمر، فالضوء ينسرب من الشقوق الصغيرة!
الفراغ والصمت اللذين بدآ ينخران بيتها أثثتهما بصوت آلة الخياطة التي اتخذتها معاشًا وحرفة تسد بها رمق الجوع بعد أن عدمت مصدر إعالتها حتى أوقفها المرض وتقدم السن عن مزاولة الخياطة.
هاتفي لا يتوقف عن الرنين منذ الصباح وحروف اسمها تومض في شاشة هاتفي الجوال.. لا تزال رغبة النوم تنهش جفنيّ الناعسين، وصوتها ينزلق في مسامعي:
( شمسك عالية يا بنت، قومي .. ما عندنا بنت تنام للساعة ثمان الصبح )..
رشقت كلماتها سمعي كما يرشق رذاذ الماء وجه الناعسين. ابتسمت ونهضت، وعلى عجالة من أمري خرجت من بيتي لأؤمن لها طلباتها التي تلزمها لتوزيع البليلة، وترفض رفضًا قاطعًا أن أشاركها بعض المدفوعات التي كانت تتكفل بتدبيرها لهذا التوزيع البسيط أيام عاشوراء.
لما جهزت الطاولة تقدمت مبتسمة وبين يدي هاتفي الجوال، فوقفت لتوثيق هذا الحدث الجميل بالتقاط صورة فوتوغرافية أنشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، فلكزتني بعصاها وقالت معاتبة: (إذا صورتيها بيشفع لي الحسين بزيادة؟)
فأجبت مندهشة: ( لا !! ولكن الصورة تحفز الناس لتشارك بالأجر).
فأنكرت علي ولكزتني بالعصا مرة أخرى قائلة: ( اللي حاب يتبرع بيتبرع من نفسه، وبلا هالحركات وتابعي التوزيع. ولا تهذري. قال تصور قال)!!