توصلت دراسة إلى أن الأطفال الذين تُقدم لهم “أجهزة رقمية” لتهدئة فورات غضبهم يفشلون في تعلم كيف يتحكمون في إدارة انفعالاتهم في وقت لاحق من حياتهم
المترجم: عدنان احمد الحاجي
قدم له رضي حسن المبيوق، البرفسور السابق في علم النفس التربوي، جامعة شمال أيوا
مقدمة البرفسور رضي حسن المبيوق
الأطفال الذين تقدم لم أجهزة رقمية لتهدئة فورات غضبهم يفشلون في تعلم كيف يتحكمون في إدارة انفعالاتهم في وقت لاحق من حياتهم.
الأستاذ عدنان أحمد الحاجي ينتقي الدراسات والمقالات المفيدة ويترجمها للقارئ العربي، وكمتابع للمقال اليومي الذي يترجمه، المس فائدته العامة والخاصة. والدراسة أدناه هي، في رأيي، من أهم الدراسات التربوية التي تناولها بالترجمة. وذلك لأنها ركزت على المسؤلية التربوية لأولياء الأموروتبعاتها الآنية والبعيدة الأمد على الطفل. ادراك الآباء والأمهات لهده التبعات الطويلة الأمد لأساليب تعاملهم مع سلوك وتصرفات أطفالهم هو الهدف الرئيس لهذه الدراسة. بعبارة أخرى، الدراسة يحمل في طياته تنبيهًا للآباء والأمهات بخصوص النتائج الإيجابية أو السلبية لتعاملهم المقصود والواعي والآني والإنفعالي وغير المدروس مع أطفالهم. ومع انتشار الأجهزة الرقمية وفرص استعمالها ففي مرحلة الطفولة المبكرة، فقد بدأنا بملاحظة لاعب جديد قد دخل بقوة لينافس أولياء الأمور، او على الأقل يشاركهم، في العملية التربوية.
الأجهزة الرقمية تعج بألعاب وبرامج مسلية كثيرة للأطفال وقذ تكون ذات قيمة تعليمية. لكن، كُتب الكثير عن التبعات السلبية التي تتركها الأجهزة الرقمية على نموهم الجسدي والإدراكي والعاطفي والإجتماعي والروحي. التركيز في هذه الدراسة المترجمة أدناه هو على التحكم الذاتي للطفل على انفعالاته ومشاعره، خاصة في حالة الغضب. ماذا يجب على الوالدين ان يعملا في حالة غضِب الطفل ودخوله في حالة مزاجية تغير من جو الهدوء السائد في المنزل والتي قد تنعكس سلبًا على الأبوين.
ماهي الاستراتيجية المطلوبة لحل هذه المشكلة؟ بعض الآباء يلجأون إلى التغاضي عن تصرفات أطفالهم والتسامح معها حتى يهدأوا ويعودوا إلى حالاتهم الطبيعية بأنفسهم. وقد يستخدم بعض الآباء أسلوب الترغيب والترهيب. احد أساليب الترغيب هو إلهاء الطفل بلعبة تأسر إنتباه الطفل وتشغله لفترة. قد يبدو هذا الحل، للوهلة الأولى، سحريًا ومغريًا وسريعًا يلجأ إليه الأبوان في اي وقت تنتاب طفلهما فورة غضب. ما يحدث هنا هو عملية إشراطية [اشراط كلاسيكي]: الطفل يغضب فيلجأ الأب او الأم إلى إعطاء الجهاز الرقمي إياه ليتلهى ويهدأ به غضبه، وبه يرتاح الأبوان من حالة الإزعاج الناتجة عن حالة غضب طفلهما. وقد يترجم الطفل هذا التصرف بأنه اذا رغب في ان يستعمل الجهاز الرقمي، ما عليه الا ان يغضب ويتصرف بشكل مزعج إلى درجة تجبر أبويه، أو أحدهما، على الاستسلام وإعطائه الجهاز الرقمي كلهاية. وهكذا. يصبح الطفل في مركز التحكم في سلوك أبويه.
ما تهدف إليه الدراسة هو عكس ذلك تمامًا، وذلك بالتنبه إلى عدم الوقوع في فخ عملية الإشراط السلبي، والمتمثل في “الغضب للحصول على الجهار”. مكافئة غضب الطفل بإتاحة وقت لإستخدام الأجهزة الرقمية يحرم الطفل من اكبر الدروس وأكثرها فعالية، والتي يجب أن يتعلمها ويكتسبها في هذه المرحلة من الطفولة المبكرة كمهارة نافعة للطفل نفسه على الأمد القصير والطويل. تلك المهارة هي التحكم الذاتي في الانفعالات، اي ان الطفل يكتسب مهارة التحكم في مشاعره وانفعالاته بنفسه إلى درجة لا يحتاج فيها إلى مهدئ خارجي والذي سرعان ما يزول تأثيره. لذلك ركزت الدراسة أدناه، كبديل، على طبيعة الطفل في حب الإكتشاف والإبداع واكتساب العادات والمهارات التي تساعده على حل المشكلات. مما يتطلب فطنة من الأبوين ليهيئا البيئة المناسبة لهذه الطبيعة.
من ناحية أخرى، فقد أفاد كثير من علماء النفس التربوي بالجوانب السلبية لإستخدام الأجهزة الرقمية على الأطفال. وبين هؤلاء العلماء أنها تدريجيًا تسبب الإدمان على استخدام هذه الأجهزة، مما يفتح الباب على مصراعيه للآثار السلبية المترتبة على هذه الإدمان، ومنها ضعف او عدم القدرة على التحكم الذاتي في الإنفعلات وتشتت الانتباه وضعف التركيز أثناء الدراسة والعزوف عن اللعب مع الأقران وحرمان الطفل من اكتساب المهارات الاجتماعية المطلوبة للتنشئة الصالحة. وهناك الكثير من التبعات السلبية المترتبة على إستخدام الأجهزة الرقمية تطلب في مظانها.
المحصلة الكبرى من الدراسة هو عدم إستخدام الأجهزة الرقمية، أو على الأقل الحد منها، كوسيلة لتهدئة غضب الطفل؛ لأن ذلك قد يكون فخًا يقع فيه الأبوان، ينجذب له الطفل وبالتالي يدمن تدريجيًا عليه، وهذا مما له تبعات سلبية على تحكم الطفل الذاتي في انفعالاته ومشاعره وقدرته على إدارتها في مرحلة لاحقة من حياته.
الدراسة المترجمة
فورات الغضب هي جزء من فترات النمو والنضج العقلي عند الأطفال. ومع ذلك، فإن طريقة إدارة فورات الغضب هذه يمكن أن تؤثر في النمو العاطفي الاجتماعي للأطفال(1). قام فريق دولي من الباحثين بدراسة أسلوب تأثير تقديم أجهزة رقمية للأطفال وكأنها “لهايات (مصاصات)(2) رقمية” لتجنب أو إدارة فورات الغضب تؤثر في مهارات إدارة الغضب لدى هؤلاء الأطفال لاحقًا في حياتهم [عندما يكبرون]. ووجدوا أن الأطفال الذين قُدمت لهم أجهزة رقمية بشكل روتيني عندما مروا بفورة غضب، واجهوا صعوبة أكثر في تنظيم عواطفهم وانفعالاتهم. وشدد الباحثون أيضًا على أهمية السماح للأطفال بالتعرض للمشاعر السلبية والدور الحاسم الذي يلعبه أولياء الأمور في هذه العملية.
يكتسب الأطفال الكثير عن التنظيم الإنفعالي الذاتي(3) – أي الاستجابات الإنفعالية والعقلية والسلوكية لمواقف وحالات معينة – خلال السنوات القليلة الأولى من حياتهم. تتعلق بعض هذه السلوكيات بقدرة الأطفال على اختيار الاستجابة الإرادية بدلاً من الاستجابة التلقائية (اللاإرادية). وهذا ما يُعرف بضبط الانفعالات المجهد (الذي يتطلب جهدًا)(4)، والذي يُكتسب من المحيط، وأولاً وقبل كل شيء من خلال علاقة الأطفال بوالديهم.
في السنوات الأخيرة، أصبح تقديم أجهزة رقمية للأطفال للتحكم في انفعالاتهم، خاصة إذا كانت سلبية [كالغضب والحزن والكره، بحسب التعريف]، أمرًا شائعًا. في الآونة الأخيرة، قام فريق من الباحثين في المجر وكندا بدراسة ما إذا كانت هذه الإستراتيجية، التي يشار إليها باسم تنظيم المشاعر الرقمي الذي يستخدمه أولياء الأمور، تؤدي إلى عدم قدرة الأطفال على تنظيم انفعالاتهم بشكل فعال في وقت لاحق من حياتهم. النتائج(5) نُشرت في مجلة فرنتيرز في الطب النفسي للأطفال والمراهقين Frontiers in Child and Adolescent Psychiatry.
وقالت الدكتور فيرونيكا كونوك Veronika Konok، المؤلف الأول للدراسة والباحث في جامعة إتڤوش لوراند Eötvös Loránd University: “هنا نثبت أنه لو اعتاد أحد الأبوين أن يعطي جهازًا رقميًا لتهدئة طفله أو إيقاف فورة غضبه، فلن يتعلم الطفل تنظيم وضبط اتفعالاته.” “وهذا يؤدي إلى مشكلات أكثر خطورة في تنظيم وضبط انفعالاته، وعلى وجه التحديد، مشكلات إدارة غضبه، في وقت لاحق من حياته.”
كلما زادت الأجهزة الرقمية كلما انخفض التحكم في الانفعالات.
“كثيرًا ما نلاحظ أن أحد الوالدين يستخدم أجهزة لوحية أو هواتف ذكية لصرف انتباه الطفل عندما يكون منزعجًا أو غاضبًا. وأوضحت البروفيسور كارولين فيتزباتريك Caroline Fitzpatrick، الباحث في جامعة شيربروك Université de Sherbrooke وكبير مؤلفي الدراسة، أن الأطفال مفتونون بالمحتوى الرقمي، لذا فهذا اسلوب سهل لوقف فورات الغضب وفعال جدًا في الأمد القصير. ومع ذلك، توقع الباحثون أن هذه الممارسة لن تكون لها فائدة تذكر في الأمد الطويل. ولتأكيد أطروحتهم هذه، أجروا تقييمًا في عام 2020 لـ 316 طفلًا يتراوح سنهم بين عامين وخمسة أعوام وطلبوا من أولياء أمورهم ملء استبيان لتقييم استخدامهم لوسائل التواصل واستخدام أطفالهم لها . وكما أجروا دراسة متابعة بعد عام واحد، في 2021 على 216 طفلًا منهم.
ووجدوا أن استخدم أولياء الأمور للأجهزة الرقمية لضبط انفعالات أطفالهم في كثير من الأحيان ساهمت في إضعاف مهارات هؤلاء الأطفال في إدارة فورات غضبهم واستيائهم بعد عام. كما مارس هؤلاء الأطفال ممن أُعطوا أجهزة رقمية بشكل روتيني مستوى أقل من الضبط المجهد لانفعالاتهم(4) أثناء دراسة تقييم المتابعة التي أجراها الباحثون في 2021.
مساعدة أولياء الأمور في دعمهم ومساندتهم لأطفالهم.
ووجد الباحثون أيضًا أن مهارات إدارة الغضب الأساسية كانت ضعيفة بسبب منح الأطفال أجهزة رقمية بشكل روتيني كأداة لإدارة انفعالاتهم. وقالت كونوك: “ليس من المستغرب أن يقوم أولياء الأمور باستخدام تنظيم المشاعر الرقمي (المتمثل بإعطاء الأطفال أجهزة رقمية) بشكل روتيني إذا كان الطفل يعاني من مشكلات في تنظيم وضبط انفعالاته، ولكن نتائج دراستنا تسلط الضوء على أن هذه الاستراتيجية يمكن أن تؤدي إلى تفاقم مشكلة موجودة مسبقًا [عدم قدرة الطفل على ضبط انفعالاته من الأول] “.
وأشار الباحثون إلى أنه من المهم عدم تجنب المواقف التي قد تكون محبطة للطفل ومسببة لاستيائه. ولكن يُنصح أولياء الأمور بتدريب أطفالهم على تجاوز المواقف والحالات الصعبة، ومساعدتهم على التعرف على انفعالاتهم ومشاعرهم، وتعليمهم كيف يديرونها.
تزويد ودعم أولياء أمور الأطفال، أعني الأطفال الذين يجدون مشكلات في إدارة فورات غضبهم بنجاح، يعتبر من الأمور المهمة؛ على سبيل المثال، المتخصصون في مجال الصحة الذين يعملون مع العائلات بإمكانهم تقديم معلومات بشأن كيف يمكن لأولياء الأمور مساعدة أطفالهم على إدارة انفعالاتهم بدون الحاجة لإعطاء أجهزة لوحية أو هواتف ذكية لهم. “بناءً على النتائج التي توصلنا إليها، يمكن تطوير أساليب تدريب وتقديم استشارات جديدة لهم في هذا الشأن. وخلصت فيتزباتريك إلى أنه لو زاد وعي الناس بأن الأجهزة الرقمية هي أدوات غير مناسبة لعلاج فورات غضب الأطفال، فإن دلك من شأنه أن يكون نافعًا للصحة العقلية (النفسية) للأطفال ورفاههم في الأمد الطويل .
مصادر من داخل وخارج النص
1- “يمثل التطور العاطفي الاجتماعي مجالًا خاصًا في نمو الطفل. وهو عملية تدريجية وتكاملية يكتسب عبرها الطفل القدرة على فهم المشاعر وممارستها والتعبير عنها وإدارتها وتطوير العلاقات ذات المعنى مع الغير. وبهذا، ينطوي التطور العاطفي الاجتماعي على مجموعة كبيرة من المهارات والبنى، تتضمن ولا تقتصر على ما يلي: وعي الذات والانتباه المشترك واللعب ونظرية العقل (أو فهم رؤى الآخرين) وتقدير الذات والتنظيم العاطفي وعلاقات الصداقة وتطوير الهوية.” مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/تطور_عاطفي_اجتماعي
2- https://ar.wikipedia.org/wiki/لهاية
3- التنظيم الانفعالي الذاتي أو التنظيم العاطفي (emotional self-regulation) هو القدرة على الاستجابة للمطالب المستمرة للخبرة من خلال العواطف بطريقة يمكن تقبلها اجتماعيًا، ومرنة بما فيه الكفاية للسماح بردود فعل عفوية وكذلك القدرة على تأخير ردود فعل عفوية حسب الحاجة. ويمكن أيضا تعريفها بأنها عمليات خارجية وداخلية مسؤولة عن رصد وتقييم وتعديل ردود الفعل العاطفية.”. مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:
https://ar.wikipedia.org/wiki/تنظيم_انفعالي_ذاتي
4- “ضبط الانفعالات المجهد (الدي يتطلب جهدًا) effortful control هو البعد المزاجي الذي يأخذ في الاعتبار الاختلافات الفردية في القدرة على تنظيم الانفعالات والتصرفات في وضع موجه داخليًا أو إرادي. بناء ضبط الانفعالات المجهد أقرب إلى العديد من المفاهيم الأخرى في الأدبيات المنشورة التي تؤكد أيضا على تنظيم الانفعالات. ضبط الانفعالات كمكون تنظيمي مهم للمزاج لما له علاقة بالانتباه وبالمسار التنموي خلال مرحلة الطفولة، والدور المهم الذي يلعبه في التنشئة الاجتماعية للطفل.” ترجمناه بتصرف من نص ورد على هذا العنوان:
https://psycnet.apa.org/record/2012-22484-008
5- https://www.frontiersin.org/journals/child-and-adolescent-psychiatry/articles/10.3389/frcha.2024.1276154/full
المصدر الرئيس
https://www.frontiersin.org/news/2024/06/28/digital-pacifiers-tantrums-emotion-regulation-children