أقلام

نواة العنصرية

د. حسين العيسى

يُعنى المقال الحالي بواحدة من أهم العصارات التي دفَقَ بها تجولي في كتاب المفكر التونسي فتحي المسكيني المعنون بــ ” الهجرة إلى الإنسانية ” .

لقد حفزني على طرق الموضوع جملة من الأسباب ، أولها : لاعتقادي بأهمية الموضوع في تعميق فكرة الإنسانية فينا ، وثانيها : لأن موضوع العنصرية ، والذي سنحفر فيه مضاد لفكرة الإنسانية ، وكما يقال الأشياء تعرف بأضدادها ، أما ثالث الأسباب : فيتمثل في القيمة الجوهرية التي يمكن اقتناصها من طرح الدكتور المسكيني ، خاصة وأن لغة الرجل ليست ميسورة ، يكفي أن نتذكر بأنه مترجم”الكينونة والزمان “، أي مترجم ومؤوّل لهايدجر ، حيث أنت على موعد مع فلسفة رجل من أكثر الفلسفات عسراً في الاستيعاب والتأويل .

إن أول تساؤل قد يعتري ذهني ويشدني كقارئ ، لو كنت مكانك ، لماذا جاء العنوان : ” نواة العنصرية ” ، لماذا لم يقتصر على ” العنصرية ” فقط ؟

لعلني من البداية أكفيك المؤونة حينما أخبرك بأني لم أشاركك المقال لكي أسوق إليك بعض تمثلات أو مظاهر العنصرية كنظرة الرجل الدونية للمرأة ، أو كالتنمر النسوي الذي كشّر عن أنيابه مؤخراً ، أو كازدراء وكراهية المخالف في الملة ، أو كاستماتة الأبيض لإثبات مركزيته قبال هامشية باقي البشر .

نعم ، كل ما سبق ، من مظاهر العنصرية ، ونحن نرمي إلى ماهو أعمق ، نسعى معك في جولة فكرية للتأمل في نواة العنصرية .

إنك حينما تحفر في منطقة أعمق ، محاولاً أن تتّبع أساس هذه المظاهر ، ستنتهي إلى أن نواة العنصرية عبارة عن ” خصومة لدودة ، ومستترة مع فكرة الانتماء ذاتها ” ، وبعبارة أوضح ، إنها رفض غير معلن للانتماءات التي يفرضها الوجود على الكينونة الإنسانية ذاتها .

أريدك فقط أن تلاحظ معي واقع العنصريين الذي لا محيص عنه ، فمع أن كل مرء فينا ، يوجد دون أن يختلِق ذكورته من أنوثته ، أو ينتخب سلالته التي سينحدر منها ، أو يُصوّت للغة التي سيتعالق بها مع الوجود ويدرك بها الموجودات ، أو ينتقي الدين الذي سيشكل رؤيته الوجودية ، وباختصار دون أن يكون لأي مرء سابق جهد ، أو كبير فضل في تشكيل هويته ، وانتماءاته ، والتي أيضاً ، لا يمكن له أن يعي ذاته بمعزل عنها ، يأتيك العنصري ، لا لكي يدينك بما ما هو خلل في سلوكك أو فكرك ، كإدانته لمخالفتك لقواعد سلامة البيئة ، أو لاعتقادك بوجود مربع دائري ؛ بل يأتي لكي يدينك بأفضل ما يمكن أن تتصور به ذاتك ، أعني يدينك بانتمائك .

فالعنصري من الذكور ليس هو الذي يطالب بامتيازات خاصة على زميلته في العمل نظير إنجازه وجهوده وإنتاجه ، بل هو الذي لا يطالب بذلك إلا بما هو ذكر ، وهي أنثى ، وكأن الأنوثة مصدر إدانة .

وكذلك فالعنصري من الأمم هي كل أمة تستحسن احتكار سمة التقدم لنفسها ، فتصنف نفسها كمتقدمة وغيرها كنامية ؛ لا كتقدم وتأخر حكَم وبرهن عليه مسار التاريخ ، بل لانحياز منشؤه عرقي وقومي ليس إلا .

وهكذا العنصري من أصحاب الملل ، لا يعمل لديه إن ” رحمة الله قريب من المحسنين ” ، أو ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” لا بل ” إن كل مخالف لي من الضالّين ” .

إذا نجحت السطور السابقة في إيصال الفكرة ، نكون قد اقتربنا من مفهوم نواة العنصرية . أعيدها أنها أكبر من نظرة فوقية ، أو سلوك غير عادل .

إنها ” خصومة لدودة مع فكرة الانتماء ذاتها ” ، وبتعبير آخر ، إنها خصومة مع قدر الكينونة الإنسانية الخارج عن إرادتها ، إنها شرخ لدى العنصريين في فكرة الإنسانية ذاتها .

الآن ، وبعد كل ذلك ، وفي نهاية الكلِم ، اعتقد أنه بات لديك من الجهوزية ما يكفي لكي تتّفهم المسكيني أكثر حينما يقول :” العنصرية هي سياسة الجنس البشري ضد تصور معين لذاته ، ضد تصور معين لفكرة الإنسانية فينا ” .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى