أقلام

كيف تحض أدوية التخدير على فقدان المرضى للوعي

المترجم: عدنان احمد الحاجي

معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

قدم له غسان علي بوخمسين، صيدلاني أول، مستشفى جونز هوبكنز

مقدمة غسان علي بوخمسين

كانت الجراحة قديمًا محفوفة بمخاطر عديدة، منها التلوث الميكروبي الذي كان سببًا في وفاة الكثيرين بعد العمليات الجراحية، ولكن تطور بعد اكتشاف النظرية الجرثومية وتطور عمليات التطهير والتعقيم قبل العمليات الجراحية واكتشاف المضادات الحيوية لاحقًا، مما خفض نسبة العدوى الجرثومية بشكل كبير وقلل من نسبة الوفيات الناتج من العدوى، وبعد حل مشكلة الوفاة من العدوي الجرثومية بقيت مشكلة أخرى هي الألم المبرح نتيجة الجراحة، حيث كان الجراحون يلجأون لأساليب غير فعالة وقد تكون قاتلة لجعل المريض يفقد وعية وإحساسه بالألم ، لذلك كان الكثير من المرضى يفضلون الموت على الجراحة. ولكن في منتصف القرن التاسع عشر كانت بداية قصة تطور ادوية التخدير. ظهر التخدير الحديث عندما اكتشف العالم الإنجليزي بريستلي غاز أكسيد النيتروز. N2O المسمى بغاز الضحك. ويرجع فضل استخدامه كمخدر إلى أطباء الأسنان الذين كانوا يعانون يوميًّا من شعور مرضاهم بالألم عند خلع أسنانهم. وفي 16 أكتوبر 1846 تمكن أحد الجراحين بمستشفى ماساتشوستش العام في بوسطن من استئصال ورم في رقبة أحد المرضى باستخدام غاز الإيثر الذي اكتشفه طبيب الأسنان الأمريكي ويليام مورتون. فيعد ذلك اليوم علامة فارقة في تاريخ التخدير بمفهومه الحديث؛ حيث يحتفل العالم في هذا اليوم من كل عام باليوم العالمي للتخدير، وقبله كان الألم والجراحة وجهين لعملة واحدة. واستمرت الرحلة بشكلٍ بطيء ومتواصل الى أن وصلنا الى ما وصلنا اليه من ادوية تخدير عديدة، حيث بات في حوزة استشاري التخدير طيفًا واسعًا من الأدوية التي تناسب مختلف الاحتياجات.

ولكن مع هذا التطور الهائل في أدوية التخدير والاستخدام المكثف لها في كل دول العالم، مازالت ميكانيكية عمل هذه الأدوية غير مفهومة بدقة، وهذا يتطلب إجراء مزيد من الدراسات والأبحاث التفصيلية والتخصصية باستغلال التطور الحاصل في العلوم العصبية والفسيولوجية، من اجل تطوير بروتوكولات علاجية أفضل ومحاولة تقليل المشكلات الصحية المصاحبة لهذه الأدوية.

البحث المترجم أدناه يقوم بدور مهم، في محاولة فهم ميكانيكية عمل مخدر البروبوفول بدقة، وهذا قد يساهم في تحسين العلاجات وتقليل الأعراض الجانبية المصاحبة لاستخدام هذا الدواء.

الدراسة المترجمة

هناك الكثير من أدوية التخدير(1) التي بإمكان أطباء التخدير استخدامها للحض على فقدان الوعي في المرضى. لقد كان السؤال الذي يطرح نفسه منذ فترة طويلة هو كيف تجعل أدوية التخدير هذه الدماغَ يفقد الوعي، لكن باحثو علم الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجدوا مؤخرًا إجابة على هذا السؤال لواحد من أدوية التخدير الشائعة الاستخدام

وباستخدام تقنية فريدة لتحليل نشاط الخلايا العصبية، اكتشف الباحثون أن مخدر الـ بروبوفول(2) propofol يسبب فقدان الوعي، وذلك بإحداث خلل في التوازن الطبيعي في الدماغ بين الاستقرار والإثارة. يتسبب المخدر في عدم استقرار نشاط الدماغ بشكل متصاعد، حتى يفقد الدماغ وعيه.

“على الدماغ أن يعمل بحذر شديد بين الإثارة والفوضى في النشاط(3). لا بد أن يكون الدماغ قابلًا للإثارة بدرجة كافية حتى تؤثر خلاياه العصبية في بعضها بعض، ولكن إذا أصبح الدماغ مفرط الإثارة ، فإنه يتحول إلى حالة من الفوضى(3). “يبدو أن البروبوفول يُحدث خللًا في الآليات التي تبقي الدماغ في نطاق ضيق من النشاط هذا”، كما يقول إيرل ك. ميلر Earl K. Miller، برفسور معهد بيكاور Picower لعلم الأعصاب وعضو معهد بيكاور للتعلم والذاكرة التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

النتائج الجديدة، التي نُشرت في مجلة نيورون(4) Neuron في يوليو 15، 2024، قد تساعد الباحثين على تطوير أدوات أفضل لمراقبة المرضى أثناء خضوعهم للتخدير العام.

مصدر الصورة: Medlineplus

فقدان الوعي

البروبوفول هو مخدر يكوِّن رابطة مع مستقبلات الناقل العصبي غابا(5) GABA في الدماغ، مما يثبط الخلايا العصبية التي تضم تلك المستقبلات. تعمل أدوية التخدير الأخرى على أنواع مختلفة من المستقبلات، ولا تزال آلية تأثير كل هذه الأدوية في فقدان الوعي غير مفهومة بشكل تام.

افترض ميلر وفيتي وطالباهما أن البروبوفول، وربما أدوية تخدير أخرى، تتداخل مع حالة الدماغ المعروفة باسم “الاستقرار الديناميكي” [الاستقرار الديناميكي هو قدرة النظام على العودة إلى حالة عمله المستقرة بعد تعرضه لاضطرابات معينة، بحسب التعريف(6)]. في هذه الحالة، تصبح للخلايا العصبية استثارة كافية للاستجابة للمدخلات الجديدة، لكن للدماغ قدرة على استعادة السيطرة والتحكم بسرعة ومنع هذه الخلايا من الإستثارة المفرطة.

دراسات سابقة عن كيفية تأثير أدوية التخدير في هذا التوازن قد وجدت نتائج متضاربة: اقترح البعض أنه أثناء التخدير، يتجه الدماغ إلى أن يصبح مستقرًا بنحو مفرط وغير متجاوب، مما يؤدي إلى فقدان الوعي. ووجد آخرون أن الدماغ يصبح مستثارًا بإفراط، مما يؤدي إلى حالة من الإضطراب تؤدي إلى فقدان الوعي.

جانب من سبب هذه النتائج المتضاربة هو أن قياس الاستقرار الديناميكي في الدماغ بدقة ليس عملية سهلة. قياس الاستقرار الديناميكي أثناء فقدان الوعي من شأنه أن يساعد الباحثين على تحديد ما إذا كان فقدان الوعي ناتجًا عن الإفراط في حالة الاستقرار أو استقرار بسيط جدًا لا يكاد يذكر.

في هذه الدراسة، قام الباحثون بتحليل التسجيلات الكهربائية التي أجريت على أدمغة فئران خُدرت بالبروبوفول على مدى ساعة، فقدت خلالها وعيها تدريجياً. أجريت التسجيلات في أربع مناطق من الدماغ معنية بمعالجة الرؤية والصوت والوعي المكاني(7) والوظائف التنفيذية(8).

غطت هذه التسجيلات جانبًا بسيطًا فقط من النشاط الإجمالي للدماغ، وللتغلب على ذلك، استخدم الباحثون تقنية تسمى تأخير الإستقرار. [تأخير الإستقرار delay embedding طريقة معروفة لمحاكاة وتوصيف هندسة الأنظمة الديناميكية المضطربة(9)]. تتيح هذه التقنية للباحثين وصف الأنظمة الديناميكية من قياسات محدودة وذلك بتعزيز كل قياس بقياسات أخرى مسجلة مسبقًا.

وباستخدام هذه الطريقة، تمكن الباحثون من معرفة مدى استجابة الدماغ كميًّا للمدخلات الحسية، كالأصوات أو للإضطرابات (الإزعاجات) التلقائية (الفورية) للنشاط العصبي.

في حالة اليقظة الطبيعية (قبل التخدير)، يرتفع النشاط العصبي بعد أي من هذه المدخلات، ثم يعود إلى مستوى نشاطه الأساس. ومع ذلك، بمجرد بدء جرعات البروبوفول، يأخذ الدماغ وقتًا أطول للعودة إلى خط الأساس بعد هذه المدخلات، وظل في حالة أستثارة مفرطة. أصبح هذا التأثير أكثر بروزًا حتى فقدت الفئران المخدرة وعيها.

ويقول الباحثون إن هذا يشير إلى أن تثبيط البروبوفول لنشاط الخلايا العصبية يؤدي إلى تصاعد حالة عدم الاستقرار، مما يتسبب في فقدان الدماغ للوعي.

تحكُّم أفضل في عماية التخدير

ولمعرفة ما إذا كان بإمكانهم تكرار هذا التأثير في نموذج حوسبي، أنشأ الباحثون شبكة عصبية بسيطة. وعندما زادوا من تثبيط نشاط عقد معينة في الشبكة، كما يثبط البروبوفول خلايا الدماغ، أصبح نشاط الشبكة غير مستقر، على غرار النشاط غير المستقر الذي شاهده الباحثون في أدمغة الفئران التي تلقت مخدر البروبوفول.

“لقد تناولنا بالدراسة نموذج دائرة بسيط من الخلايا العصبية المترابطة فيما بينها، وعندما زدنا مستوى تثبيط الخلايا العصبية، لاحظنا زعزعة للإستقرار. “لذا، أحد الأشياء التي اقترحناها هو أن زيادة التثبيط يمكن أن تؤدي إلى عدم الاستقرار، وهذا بالنتيجة يرتبط بفقدان الوعي،” كما قلل آيسن Eisen.

كما بيَّن فييتي، “هذه المفارقة في التأثير، حيث أدى تعزيز التثبيط إلى زعزعة استقرار الشبكة لا استقرارها، حدثت بسبب إزالة التثبيط. عندما عزز البروبوفول الدافع المثبط، فإن هذا الدافع ثبط خلايا عصبية مثبطة مسبقًا أخرى، والنتيجة هي زيادة إجمالية في نشاط الدماغ.

إذا تبين أن هذا صحيح، فقد يكون مفيدًا لجهود الباحثين الجارية لتطوير طرق للتحكم بدقة أكثر في مستوى التخدير الذي يتلقاه المريض. هذه الأنظمة، التي يعمل عليها ميلر مع إيمري براون، برفسور الهندسة الطبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تعمل عن طريق قياس ديناميكيات الدماغ ومن ثم تعديل جرعات ادوية التخدير وفقًا لذلك، في الوقت الفعلي.

“إذا وجدت آليات مشتركة تعمل في أدوية تخدير مختلفة، فيمكنك جعلها كلها أكثر أمانًا وذلك بتغيير وتبديل في بعض الجرعات، بدلاً من الاضطرار إلى تطوير بروتوكولات سلامة لجميع أدوية التخدير المختلفة واحد بعد الآخر،” كما قال ميلر. “فلا يُحتاج إلى نظام مختلف لكل مخدر يستخدم في غرفة العمليات. وإنما تحتاج إلى نظام واحد يقوم بكل شيء.

يخطط الباحثون أيضًا لتطبيق هذه التقنية لقياس الاستقرار الديناميكي على حالات الدماغ الأخرى، بما في ذلك الاضطرابات العصبية والنفسية.

يقول فيتي: “هذه الطريقة ناجعة جدًا، وأعتقد أنه سيكون من المثير جدًا تطبيقها على حالات الدماغ المختلفة، وأنواع مختلفة من أدوية التخدير، وكذلك الحالات العصبية والنفسية الأخرى مثل الاكتئاب والفصام”.

ميلر وإيلا فيتي Ila Fiete، برفسور الدماغ والعلوم المعرفية (الإدراكية)، ومدير مركز ك. ليزا يانغ K. Lisa Yang لعلم الأعصاب الحوسبي التكاملي (ICoN)، وعضو في معهد ماكغفرن McGovern لأبحاث الدماغ التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هما المؤلفان الرئيسان للدراسة الجديدة. آدم آيسن Adam Eisen، طالب الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وليو كوزاتشكوف Leo Kozachkov، باحث ما بعد الدكتوراه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، هما المؤلفان الرئيسان لهذه الورقة.

مصادر من داخل وخارج النص

1- https://altibbi.com/مصطلحات-طبية/تخدير/تخدير

2- https://ar.wikipedia.org/wiki/بروبوفول

3- “بدلاً من مجرد الانتقال من نمط نشاط معين إلى آخر، يبدو أن الدماغ يتنقل بين عدة حالات أخرى بينهما، بشكل عشوائي على ما يبدو. وبينما ينتقل الدماغ من حالة شبه مستقرة إلى أخرى، يبدو أنه يتضمن بعض الفوضى، “ترجمناه ببعض التصرف من نص ورد على هذا العنوان:

https://www.technologyreview.com/2023/02/07/1067951/brains-week-order-chaos/

4- https://www.cell.com/neuron/fulltext/S0896-6273(24)00446-X?_returnURL

5- “غابا GABA هو الناقل العصبي المثبط الرئيس في الجهاز العصبي المركزي في الثدييات. ويلعب دورًا ارئيسًا في الحد من استثارة الخلايا العصبية في جميع أنحاء الجهاز العصبي.” مقتبس من نص ورد على هذا العنوان:

https://ar.wikipedia.org/wiki/حمض_الغاما-أمينوبيوتيريك

6- https://byjus.com/question-answer/what-is-meant-by-dynamic-stability/

7- https://ar.wikipedia.org/wiki/قدرة_مكانية

8- https://ar.wikipedia.org/wiki/وظائف_تنفيذية

9- https://arxiv.org/html/2406.11993v1

المصدر الرئيس

https://news.mit.edu/2024/study-reveals-how-anesthesia-drug-induces-unconsciousnes-0715

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى