أقلام

لعنة “الألم” .. بين فلسفتي اللغة والعقل

كمال الدوخي

ما إن تتحدث عن الألم بين البشر إلا ويسبق الحديث تنهيدة، مَن منا لم يتجرع كأس الألم؛ في الجوع ألم، في الفقر ألم، في العمل ألم، في الشوق ألم حتى في الحب ألم. هذا الألم الذي يصيبنا حتى في اللحظات الأكثر سعادة عندما نفرح بشدة فتنفجر أعيننا بالبكاء.

لا أريد أن اكتب هذا النص بلغة فلسفية، فنحن نتحدث عن مفردة تلازمنا، تستوطننا من دون قدرة على تجاهلها، لكننا فقط نحاول أن نقاربها من ناحية فلسفتها لغويًا وعقليًا.

الألم في اللغة نجده أكثر جدلاً من ناحية الدلالة، لكنه كجدل عندما يتصادم شخصان في نقاش، كلاهما على حق ولكنك ربما تميل لأحقية أحدهما أكثر من الآخر، لذا عندما نناقش الألم بمنهج تحليلي لفهم الألم من خلال تحليل النصوص والعبارات المستخدمة في اللغة، نفهم بأن الألم كمصطلح يخضع للكلمات والعبارات والإشارات الدالة على الألم ويحدد حدودها ومعانيها، بينما في المنهج الوصفي يتم التركيز على الاستخدام الفعلي للكلمات والعبارات في اللغة بهدف دراسة كيفية استخدام الألم في الاتصال البشري.

عندما نقول “أشعر بألم في القلب” نتيجة نوبة قلبية أو نتيجة أعراض عضوية فنحن نحدد معنى الألم هنا بأنه جسدي محسوس، فكلمة ألم واضحة الدلالة.

ولكن عندما نقول “أشعر بألم في القلب” نتيجة الشعور بالخذلان تجاه أحدهم أو الصدمة من آخر أو نتيجة الحب والشوق والحزن والفقد، فنحن نتحدث عن ألمٍ بمقدار ما نستشعره إلا أننا لا ندرك ماهيته وكينونته.

الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور يعتبر الألم جزء لا يتجزأ من كيفية وجودنا، بل هو واقعٌ لا مفر منه في حياة الانسان. شوبنهاور يرى أن الألم هو ما يدفع البشر للتطور والنضج، كما يعتبر الألم مدرسة للحياة.

ولعل حياة شوبنهاور الشخصية المليئة بالألم والمعاناة دليل على مصداقية رؤيته، فنتاج هذا الألم كان أحد أهم الأعمال الفلسفية عبر التاريخ في كتابه “العالم كإرادة وتمثيل”، وفهمه العميق لمفهوم الإرادة ودورها في توجيه سلوك الإنسان وتكوين وجهة نظره، بالإضافة لتأثيره على الفلسفة الحديثة، وتأثيره في الثقافة الشعرية والفنية.

وكما يرى فريدريك نيتشه بأن الألم تجربة أساسية للإنسان بل ويؤكد على الألم بأنه ليس شعورًا سلبيًا وحسب، بل هو وسيلة بالإمكان تحويلها لقوة إبداعية وتحفيزية. ويبدو هذا ما جرى مع آرثر شوبنهاور.

وعلى الصعيد الثقافي، نجد كيف ترجم الأدب والفن آلام الشعوب، عندما يقدم محمود درويش القضية الفلسطينية كشعور جمعي مقدس، في رمزية قصائده، في الصور والمجاز والتكرار والإيقاع والتعبير الشخصي عندما يدمج مشاعره الشخصية وتجاربه مما يجعل كلماته أكثر عمقًا، وكما يقول: هنا على مرتفعات الدخان على درج البيت: لا وقت للوقت\ نفعل كما يفعل الصاعدون إلى الله ننسى الألم\ هنا عند منحدرات التلال\ أمام الغروب وفوهة الوقت\ قرب بساتين مقطوعة الظلِ\ نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل: نربي الأمل.

وسواء كان شعرًا أو مقالاً أو كتابًا يبدو أن الكتابة نتيجة الألم في أحيان كثيرة، كما تقول الروائية الإيرلندية إدنا أوبريان: “الكتابة تخرج من الآلام، من الأوقات العصيبة، عندما يكون القلبُ مجروحًا”.

وأعود للقول بأن فهمنا لدلالة الألم ستنعكس على مشاعرنا، لذا ربما تجد أكاديمي أو مثقف أو متعلم يميل للانتحار في محاولة للخلاص من آلامه، بينما تجد أناس بسطاء يعيشون معاناة أعظم إلا أنهم لا يستشعرون وقع الآلام كما يستشعرها غيرهم، ولا أريد أن أقول من باب التقليل من شأنهم: ذو العقل يشقى في النعيم بعقلهِ/ وذو الجهالة في الشقاوة ينعمُ، لكنها حقيقة أسلم بها.

 وهي كألم الجسد، لو أمسكنا بعصا وضربنا بنفس القوة سين من الناس، وبعدها وبنفس العصا والقوة ضربنا صاد من الناس، لن تكون النتيجة واحدة، فالشعور بالألم بالتأكيد يتفاوت من واحد لآخر بالخصوص لو كانت البنية الجسدية متفاوتة، وإن كانت البنية الجسدية ومقدار قوة كليهما متشابه يبقى قدرات ذاتية وروحية تجعل كلاهما يستشعر الألم الجسدي بتفاوت، فما بالك بالألم المعنوي.

وكلما كانت اللغة لديها مفردات تدل على الألم، كلما ارتبط متحدثوها أكثر بالألم، ولعل اللغة العربية من اللغات الزاخرة بمرادفات الكلمات المرتبطة بالمشاعر الملازمة للألم، كما تجد منطلقات بعض الشعوب الفكرية مرتبطة بالشعور أكثر بالخصوص في أمريكا اللاتينية، وهذا نتيجة أثر اللغة على العقل.

مختصر المنهجين في فلسفة الألم في اللغة لا يمكن اختزالهما في كون الألم مفردة أو مفهوم، بل هو تجربة إنسانية حقيقية، تشكل منطلقات فكرية وسلوكية للإنسان.

ومن خلال فلسفة العقل نفهم أن الألم جزء من التجربة الإنسانية الشاملة، وهي جزء من البحث عن المعنى والغاية في الحياة، يمكننا تفسير الألم بأنه تجربة تعكس عدم الارتياح أو التوتر الناتج عن تناقض بين ما يريد الانسان وبين الواقع الذي يعيشه.

الألم لعنة ملازمة للإنسان لكنه نعمة من جهة أخرى، فتخيل أنك افتقدت الإحساس بالألم الجسدي كيف لك أن تشعر بنزف جرحك، وتأثر أعضائك دون هذا الألم الذي ينبهك، وتخيل أنك بلغت من القساوة أنك لا تشعر بفقد أقرب الناس إليك، كيف لك أن تحوز ثقة من حولك.

للألم خصائص قادرة على جمع الشعوب، واستمرارية الأديان، ونهضة الأمم، فهي ليست بالتأكيد شعور سلبي وحسب، بل دافع للإنسانية.

ولعل الألم لغة عابرة للشعوب، ولها خاصية لجمع البشر، لذا قد لا يجتمع كافة الأصدقاء والأقارب في زفاف ابنك، لكن في موته ستجد الأصدقاء والأقارب والأعداء والزملاء حولك لتخفيف هذا الألم.

يتفق من يبحث في فلسفة الألم أننا نعيش بحثا عن السعادة وتجنب الألم، لكننا في أحيان نبحث عن الألم الجسدي لتطهير الذات كما يجري في طقوس بعض الديانات، ونبحث عن الألم المعنوي لكتابة قصيدة في الحب، لكننا نهرب من ألم وحيد يلاحقننا وهو ألم الموت؛ ألم الموت ليس ألمًا يخشى منه لما بعد الموت وحسب، بل ألم الموت يخشى منه لوقع موتنا على أحبتنا، على تركهم وحدهم في شقاء الدنيا ومعاناتها. وللحديث بقية.

مقالات ذات صلة

‫9 تعليقات

  1. موضوع رصين استاذ كمال حقا و بشارة للشباب بان الالم قد يكون طريقا لابد من سلوكه لنيل التطور و الارتقاء.
    اسلوب رائع و يجبرك على اكمال قراءة المقال.
    هناك تفاعل و اتصال في الدماغ بين منطقة الالم و المهارات الاخرى. لذا لا غرابة ان نرى تغير كبير في الفكر و الاسلوب و النظرة الى الحياة بشكل عام بعد اجتياز مرحلة الالم و مرحلة المخاض.

  2. نص فلسفي راقي يجبرك على اكماله لآخر حرف
    يتضح من خلاله عمق الكاتب الفكري وتجربته الحقيقية لواقع الألم
    دائما قلمك قوي وحاضر لعلك من النادرين في المجتمع الأحسائي الذي يكتب بهذا العمق عندما يتحدث في الفلسفة والفكر وفلسفة الدين على وجه الخصوص

  3. من بركات سماحة السيد علي الناصر هذه الصحيفة الغراء وهذا القلم المميز أستاذ كمال الدوخي اوجعتنا بمقالك
    نعم في الجوع ألم وفي الفقر ألم وفي الحب ألم مقدمتك أشعلت المنا
    هذا المقطع مؤلم
    ولعل الألم لغة عابرة للشعوب، ولها خاصية لجمع البشر، لذا قد لا يجتمع كافة الأصدقاء والأقارب في زفاف ابنك، لكن في موته ستجد الأصدقاء والأقارب والأعداء والزملاء حولك لتخفيف هذا الألم.

    طيب متى يتوقف الألم!!؟

  4. يعتبر هذا النص الفلسفي العميق من مقدمته حتى آخر كلمة منه نصاً فلسفيا بالغ الأهمية وليس كما تفضلت بعبارتك أنك لا تود كتابة نص فلسفي
    ودعني أناقشك حول أمر ذكرته في طيات حديثك وهو الألم وذكرت كذلك المعاناة وواضح أنك تفرق بين الأمرين
    فهل المعاناة نتيجة الألم أو الألم نتيجة المعاناة
    شكرا لهذا المقال الذي ربما حركني من أعماقي واستمتعت بكل كلمة منه وفكرة

  5. ثلاثة افعل عكسها وإلا ستقودك للاكتئاب:

    1. تجنب الناس لمدة طويلة (الانعزال).
    2. السلبية (الانطفاء) والكمون دون حراك وفعل اللاشيء.
    3. جلد الذات لأحداث في الماضي وتكرار استذكارها.

    الحل:
    1. قابل الناس واختلط بهم ولو لمدة قصيرة، تصرف عكس مشاعرك.
    2. افعل شيئًا، كن مفيدًا، أضف للحياة ولو أن تزرع نبتة.
    3. انظر للأمام وتقدم، أشغل ذهنك، سامح نفسك.

    د. أسامة بن عبدالرؤوف الجامع

  6. وسواء كان شعرًا أو مقالاً أو كتابًا يبدو أن الكتابة نتيجة الألم في أحيان كثيرة، كما تقول الروائية الإيرلندية إدنا أوبريان: “الكتابة تخرج من الآلام، من الأوقات العصيبة، عندما يكون القلبُ مجروحًا”

  7. ما شاء الله تبارك الله بسبب مقالتك قرأت كل مقالاتك السابقة موفقين يا ابني من وجهك صغير ولكن كبير بما كتبته الله يحفظك

  8. تحية للعزيز كمال
    جميل هذا التعريج على اللغة والفلسفة حول الألم، ولعل الدكتور/ زكي مبارك، حينما يعالج الحكمة في شعر الشريف الرضي في كتابه (عبقرية الشريف الرضي) يراها أفضل من الحكمة عند المتنبي؛ ﻷنه – زكي مبارك – يرى أن الحكمة عند الشريف الرضي تولّدت من ألم ومعاناة، في حين أن المتنبي ينطق الحكمة لقدرته على صياغة الألفاظ (هكذا يرى زكي مبارك).
    وألم الخسارة المالية عند بعضهم أثرها سلبي، في حين أن التاجر يراها تحدياً في تجاوز هذه المطبّة ليقفز إلى ما هو أفضل، وهذا ﻻ يعني أن التاجر ﻻ يشعر بالألم؛ بل يشعر به؛ لكنه يجعله محطة للانتقال إلى ضفةٍ أخرى أو تغيير مسار آخر في تجارته.
    فالتعامل مع الألم بحاجة إلى خبرة في الحياة ورصيد معرفي ينطلق منه الإنسان ليستفيد من الألم وتوابعه.

    تحياتي لك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى