أقلام

المتعة والسعادة تحت عدسة علم الاعصاب وفي ميزان الإمام علي

د. علي القضيب

سر حياة المرء تكمن في العمل الإبداعي الدقيق للنّيرون (الخلية العصبية) والذي يشكل اللبنة الأساسية للجهاز العصبي داخل جسم الانسان، حيث عن طريقه أي النّيرون يتم استقبال الإشارات والاحاسيس الواردة من داخل الجسم والبيئة المحيطة الى المخ ومن ثم اصدار الأوامر لتحفيز أعضاء الجسم المعنية لاتخاذ الاستجابة المناسبة كردة فعل.

هذه الوحدة الصغيرة المسمى بالنّيرون و التي يبلغ عددها ما يقارب من ٨٦ بليون نّيرون في الدماغ هي المسؤولة عن نقل الأوامر والإشارات مرة يكون كهربائيا داخل النّيرون (عن طريق فرق الجهد نتيجة الاختلاف في تركيز الايونات داخل و خارج النّيرون) ومرة كيميائيا و ذلك بإطلاق مواد كيميائية في الفراغات (synapses (الموجودة بين النّيرونات لتمكنها من التحدث و التواصل فيما بينها. فالتواصل والتفاهم الذي يحدث في شبكة الخلايا العصبية المعقدة هي عملية كهروكيميائية عبر النّيرون.

ما يعنينا بعد هذه المقدمة:

هو كيف نحس بالمتعة والسعادة؟

وما دور هذا الناقل العصبي النّيرون في ذلك؟

وهل المتعة والسعادة شيء واحد ام انهما امرين مختلفين؟

هذا ما سنحاول الإجابة عليه بين ثنايا هذا المقال.

دكتور روبرت لوستيج حاول الإجابة على الفرق بين المتعة والسعادة في مقطع فيديو والخلاصة هو:

أن أننا نمتلك أنواع كثيرة من النواقل (الرسائل) العصبية، ولكن ما يهمنا هنا اثنان:

الأول ويدعى ب ” الدوبامين” وهو ناقل عصبي يعزز التعلم والإيجابية ويرغبك ويحفزك ويدفعك بشدة نحو الشيء الذي تحبه وتجد متعة فيه، والآخر “السيروتونين” على عكس الدوبامين، لأنه يقول لك إني احب هذا الشيء الجميل ولكن لا اريد المزيد. ولكن في ظل وجود الضغط النفسي والتوتر المتكرر والمستمر يقوم الجسم بحماية نفسه بفرز هرمون الإجهاد، المسمى ب ” الكورتيزول” وعندها تتغير المعادلة، بل وتتفاقم.

الكورتيزول يعمل في الفص الجبهي الامامي للدماغ وعندما يحدث خلل في هذا الفص، قد يكون الخلل عضويا أو وظيفيا نرى ان الانسان يقدِم على عمل الشيء المشين فلا يعد يفكر في المستقبل او العواقب، ولكن كل ما يعنيه هو الحاضر واللحظة الآنية لذا يتصرف كما لوكان من فصيلة الزواحف

لا يهمه المستقبل، بل كل ما يعنينه هو الحصول على المكافأة الآنية – وبتكرار المكافأة فإن جرعة افراز الدوبامين ترتفع للحصول على نفس المستوى من المتعة. لان بعض المستقبلات في الخلايا العصبية الأخرى لا تستجيب لهذه الاثارة لان المستقبلات في الخلايا الاخرى ترفض استقبال المزيد من الدوبامين كنوع من الحماية لها لأنه يؤدي بحياتها بسبب استنفاذ طاقتها، ولكن عاجلا ام آجل سيؤدي افراز الدوبامين الى موت عدد كبير من الخلايا العصبية وهذا ما سيصل بنا الى ظاهرة الإدمان. فالمكافأة شيء جميل، ولكن مكافأة + توتر مزمن هو إدمان لا محالة.

أيضا لا تقتصر خطورة الكورتيزول على الدوبامين، بل تتعداه بشكل غير مباشر أيضا الى عمل السيروتونين. فعلى الرغم من ان السيروتونين ناقل عصبي مثبط لذا فان زيادة السيروتونين بشكل معقول سيثبط الخلية المستقبلة، ولكن مع وجود الدوبامين والكورتيزول فان المتعة ستزداد وهذا سيقلل من عمل عدد أقل من المستقبلات وهذا يعني انخفاض مستوى السيروتونين في الدم والذي قد تنتج عنه ظاهرة الاكتئاب. إذا كلما زادت المتعة قلت السعادة والعكس غير صحيح. أي انه عندما تزداد عندنا السعادة فإن المتعة ستزداد أيضا. فالإدمان والاكتئاب هما حالتان ناتجة أساسا عن افراز هرمون الاجهاد (الكورتيزول) وزيادة في الدوبامين المؤدية الى انخفاض مستوى السيروتونين في الدم.

من هنا يتضح لنا ان السبب الرئيسي للاكتئاب والإدمان والامراض الأخرى هو الكورتيزول الناتج من التوتر والقلق المزمن. فالإجهاد والتوتر أصبح سمة من سمات الحياة العصرية بكل ما تحتويه من مشاكل وهموم ومسؤوليات وخوف من المستقبل ونمط عجلة الحياة المتسارعة والبحث عن الأكثر والأجمل الأغلى. الجميع يرغب ويجتهد ويعمل ولربما كانت المكافأة هي المحرك لذلك، لدرجة ان بعض الحيوانات حرمت من نظام المكافأة عن طريق تعديل جيناتها فلم تعد لديها الارادة والقدرة على العيش، بل تريد ان تموت. فالمكافأة مصدر لبقاء النوع، ولكن المكافأة والقناعة (الرضا) ليست شيء واحد. فالمكافأة مرادفاً للمتعة واما القناعة فمرادفةٌ للسعادة. ولكن عادة ما يكون هناك لَبس، وسوء فهم لهاتين المفردتين ويتعامل مع المتعة على انها سعادة.

دكتور روبرت لوستيج مؤلف كتاب “اختراق العقل الأمريكي: العلم وراء استيلاء الشركات على أجسادنا وأدمغتنا” لخص لنا ما توصل اليه علم الاعصاب في هذا المجال من خلال مقارنة لطيفة بين المتعة والسعادة وعلى ضوءها أتمنى ان نستكشف ذواتنا، في أي المجالات نحن مستقرون وفي أي الافلاك نحن ندور.

المقارنة العلمية في طب علم الاعصاب للدكتور روبرت لوستيج بين المتعة والسعادة:

المتعة

١- قصيرة الاجل

٢- تشعر بها أعضاء الجسم و الحواس

٣- حبيسة الأخذ والتلقي

٤- ممكن إنجازها والحصول عليها بشكل فردي

٥- تتحقق من خلال المواد والماديات

٦- تقودك للإدمان

٧-المحرك للمتعة هو الناقل العصبي ” دوبامين ”

السعادة

١- بعيدة الاجل والمدى

٢- تنتعش بها الروح

٣- تعتمد على البذل و السخاء والعطاء

٤- تنجز عبر المجموعة والعمل الجماعي

٥- لا تتحقق عبر المواد والماديات

٦- لا تقودك للإدمان لان الماديات مُغيبة

٧- المحرك للسعادة هو الناقل العصبي “سيروتونين”

يا ترى! اين تتقاطع هذه النتائج والمعلومات الطبية في علم الاعصاب من تلك الوصفة الروحية العملية لمقومات السعادة عند الامام علي ابن ابي طالب. المدهش هو الرقم سبعة فالبحث العلمي يحتوي على سبعة أمور والامام علي عليه السلام قدم لنا وصفة السعادة في سبع قواعد ايضاً وهي: –

١- لا تكره أحداً مهما أخطأ في حقك (توتر أقل – كورتيزول أقل)

٢- لا تقلق مهما بلغت الهموم (قلق أقل – كورتيزول أقل)

٣- عش في بساطة مهما علا شأنك (راحة البال – سيروتونين أكثر )

٤- توقع خيرا كثيراً مهما كثر البلاء (القناعة و الرضا – كورتيزول أقل )

٥- أعطي كثيراً ولو حرمت (لب السعادة هي العطاء – سيروتونين أكثر)

٦- ابتسم و لو القلب يقطر دما (الابتسامة – سيروتونين أكثر)

٧- لا تقطع دعائك لأخيك المسلم في ظهر الغيب (تقوية الإحساس بالمجموعة – سيروتونين أكثر )

نلاحظ ان جميع وصايا الامام علي وقواعد السعادة السبع تتمحور حول استئصال جذور المشكلة والباعث على الإدمان والاكتئاب وهما تقليل نسبة إمداد الدم بالكورتيزول وتحفيز الناقل العصبي السيروتونين وعدم المبالغة في الماديات عن طريق الزهد في الحياة والتفكير والممارسة العملية الإيجابية التي تضمن لك راحة البال والطمأنينة والهدوء والعيش بسلام مع الذات ومع البيئة المحيطة. الملفت للنظر ان هذه القواعد السبع تحقق لك السعادة والمتعة أيضا في آن واحد لان ارتفاع نسبة السيروتونين يؤدي الى ارتفاع الدوبامين أيضا والباعث للمتعة. قبل ١٤٠٠ سنة يضع الامام علي عليه السلام يده على الجرح ليشخص لنا الداء ويصف لنا الدواء، ولكن حسبنا في ذلك قوله تعالى عز وجل ” وتعيها أذن واعية “.

** Serotonin vs. Dopamine – 7 Key Differences Between Pleasure and Happiness

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى