أقلام

قبسات من المقارنات القرآنية

حسام الزيلعي

تعد مسألة المقارنات أمرًا طبيعيًّا فطريًٌا ومتأصلًا في داخل كل إنسان منا. ويظهر هذا بشكل واضح وجلي على الأطفال عندما تغدق الأم بالحنان على طفل دون الآخر فيقارن نفسه بذلك الطفل وينزعج من تفضيله عليه ويريد أن يكون مكانه. ويفسر علم الاجتماع النفسي المقارنة بنظرية المقارنة الاجتماعية لعالم الاجتماع ليون. وتقول النظرية

إن الأشخاص لا يمكنهم أن يقيّموا ذاتهم بشكل مستقل عن الآخرين، فمثلًا لا يمكن لطبيب أن يقيّم نفسه دون مقارنة وضعه المهني وإنجازاته الطبية بالأطباء الآخرين. ويمكننا القول إن المقارنة ملازمة للاختلاف، فنحن لا نستطيع المقارنة بين المتشابهات كونها منعدمة بينها. وأشبّه فطرية المقارنة بحالنا عندما تطرأ لنا كلمة أو جملة أمامنا فنحن في هذه الحالة لا نملك الخيار في قراءتها من عدمه، فنلاحظ أننا نقرأها دون أي قرار منا، هكذا المقارنة أيضًا تحدث دون إرادة، ولكن الأمر يتوقف على كيفية تعاملنا معها.

والمقارنات لا يختص بها البشر فقط دون غيرهم، بل تشمل مخلوقات من عوالم أخرى أيضًا، وأوائل من ذكر القرآن في باب المقارنات هم الملائكة، عندما أخبرهم الله سبحانه وتعالى بخلق البشر.. {وإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}. فهنا الملائكة قارنت صفات البشر الوحشية من سفك للدماء وإفساد للأرض بما تمتلك من صفات عبادية كالتسبيح وتقديس الله عز وجل، ولكن أجاب الله تبارك وتعالى عن مقارنتهم هذه بالرفض التام، وأُلفت نظرك إلى طريقة الملائكة في المقارنة، فهم ذكروا أقبح ما في الإنسان من صفات مقابل أعظم ما لديهم من مميزات، وقد تكون هذه الطريقة واضحة وجلية ونعاني منها حتى في وقتنا الحالي (هنا انا لا أتهم الملائكة بسوء فقد يكون هنالك تفسير آخر، وما أريد الإشارة إليه هو تسليط الضوء على ظاهر المقارنة في الآية الكريمة) وعلى سبيل المثال عندما يكون هنالك خلاف بين زوجين فتستمع للطرفين، وكلًا منهم يستخدم الطريقة نفسها بذكر أفضل ما لديه مقابل أسوأ ما يمتلكه الطرف الثاني، وهذه مقارنة مرفوضة كونها غير عادلة، ولا بد للمقارنة أن تتسم بمقاييس منصفة لكل الأطراف، وليس بإبراز المميزات مقابل المساوئ.

ونذكر هنا من أبرز أمثلة القرآن الكريم في المقارنات:

أولًا : مقارنة إبليس نفسه بآدم عليه السلام. {قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}. ولفظة خير هنا تفضيلية من أخير ولكن لا تستخدم بهذا النحو على أية حال. وكأن إِبليس كان يتصوّر أنّ النّار أفضل من التراب، وهذه من أكبر غلطاته وأخطائه، ولعلّه لم يقل ذلك عن خطأ والتباس، بل كذب عن وعي وفهم، لأنّنا نعلم أنّ التراب مصدرُ أنواع البركات، ومنبَعُ جميع المواد الحياتية، وأهم وسيلة لمواصلة الموجودات الحية حياتها، على حين أن الأمر بالنسبة إِلى النّار ليس على هذا الشكل. صحيح أنّ النّار أحد عوامل التجزئة والتركيب في الكائنات الموجودة في هذا الكون، ولكن الدور الأصلي والرئيس هو للمواد الموجودة في التراب، وتعدّ النّار وسيلة لتكميلها فقط.

وفي مثل هذا الشراك من المقارنات يقع البعض فيتوهم أحدهم بطريقة أو أخرى أنه يمتلك ميزة تجعله فوق كل أقرانه إذا ما تمت مقارنته بهم، فتراه يذكر مناقبه دون الذي فضلوه ويحارب عليها، ولا يقبل بتفضيل أيًّا كان عليه ويأتي هذا في مختلف المضامير سواءً طالبًا كان أو موظفًا أو ما شابه ذلك، ولا أقصد هنا من يستحق التفضيل وتم ظلمه وإنما من يتوهم علوه على غيره، فحذاري أن نقع في هذا المنزلق الخطير الذي وقع فيه إبليس. ويجب على الفرد أن يعرف حجمه ويقبل بأفضلية الغير عليه.

ثانيًا : مقارنة ابن أبينا آدم عليه السلام بأخيه.

ابن آدم أيضًا لم يكن في منأى من المقارنات وجاءت الآية مبينة ما دار بينه وبين أخيه وكانت واحدة من أفضع القصص التي ذكرها القرآن الكريم في هذا السياق.

{واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}. فتفضيل عمل أخيه على عمله كان أمرًا لا يطاق ولا يحتمل على قلب القاتل حتى أودى به إلى نية الانتقام في أبشع صوره وهو القتل، القتل لمجرد أن عملي مقارنة بعلمك لا يعد شيئًا وأنك أفضل مني! وذكر القران في نهاية الآية المقياس الصحيح لقبول الأعمال وهو التقوى، عندما قال لأخيه: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وهذه إشارة واضحة لأولي الألباب أن الفضل للمتقين في تقاهم، وكما أشارت إلى هذا المعنى الآية الأولى في مطلع هذا المقال.

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ}. وقد يقول قائل إننا في وقتنا هذا لسنا معرضين للقتل إذا ما تمت مقارنتنا بالآخرين وكانت النتيجة أننا الأسوأ، صحيح ولكن ابن آدم طوعت له نفسه قتل أخيه أما في زماننا هذا فطوعت لفلان نفسه تشويه سمعة زميله في العمل ليكون مكانه، وطوعت لآخر أن يخون الأمانة لإسقاط المٌفضل عليه، وطوعت لأخرى أن تذكر جارتها ببهتان لأنهم أكثر منهم مالًا أو جمالًا! وكل هذا الخبث الأخلاقي وأكثر من ذلك ألا وهو القتل نتيجة المقارنات المغلوطة وسوء في النفس وعدم فهم لهبات الله.

ثالثًا : قصة بني إسرائيل مع نبي الله طالوت وما جرى فيها من مقارنات مغلوطة ومقاييس ما أنزل الله بها من سلطان.

{وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكًا قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ}.

إذا عدنا إلى بداية هذه القصة العجيبة نجد أن بني اسرائيل هم من طلبوا من نبيهم أن يرسل الله لهم ملكًا ينقذهم مما هم فيه من بلاء ومصاعب ومحن قاسوها – ولم يفصح القران الكريم عن اسم النبي الذي طلبوا منه -ولعلها من الأساليب التشويقية التي يتخذها القران- فعلى الرغم من ذلك إلا أنهم كعادتهم لم يقبلوا بمن اصطفاه الله لهم واختاره أن يكون هو المنقذ، بل ذهبوا لمقارنة هذا الملك وما لديه من مزايا وصفات. وانظر إلى المقاييس والمعايير الدنيوية التي اعتمدوها في مقارنتهم عليها وهي لا تغني من الحق شيئًا: أولًا: قولهم أنهم أحق بالملك منه وكأن ميزان الاستحقاق بيدهم، وأما قولهم الثاني -وهو مدار حديثنا في هذه القصة- هو ذكرهم فضلهم المالي على هذا الملك ظنًا منهم ولبساطة عقولهم أن المال يزيدهم استحـقاقًا وتعـزيزًا لكِفّة الاستحقاق والمقارنة، ولكن الله سبحانه وتعالى أجابهم أن ما يثقل ميزان المقارنة ليست الأموال الزائلة إنما العلم وماله من فضل- الذي هو غني عن الذكر-، وأضاف إليه المزايا الجسمانية. فأقول إذا كان المال والأمور المادية في تلك الأزمنة لها ما لها من قوة تفضيلية، فكيف ترى الحال في وقتنا الراهن ونحن غارقون في الماديات وفي سكرة الأموال وعلو كعبها على العلم، فيفضل صاحب الأموال على كل أحد كائنًا من يكون وهذه واحدة من أسوأ مساوئ معايير المقارنات التي نواكبها ونتعايش معها والحديث يطول في هذه الجنبة.

رابعًا : قصة الذي دخل جنته وهو ظالم لنفسه.

هو ليس ببعيد عن منهج بني إسرائيل وأسلوبهم في وضع معايير المقارنة، فقد رجّح كفة الأموال على ما لصحابه من مميزات معنوية قائلًا: {..أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} وأضاف بعد ذلك اعتزازه وتفاخره بالجاه والنفوذ وكثرة العشيرة أيضًا. فقد يتوهم أحدنا – كما ذهب الحال بصاحب الجنة – أنه ملك الدنيا بما فيها كونه حاز المال ورزق الأولاد وأنه فوق كل أحد، ولكن في واقع الأمر أنما هذه أمور ظاهرية لا يعرف الإنسان أشرٌ أُريد به منها أم أراد الله به خيرًا، فعليه ينبغي عدم التعالي والإحساس بالأفضلية على الآخرين، بل يجب إحسان التعامل معها بالتواضع وشكر الله عليها والتيقن أنها لم تأتِ من قدراتنا، وإنما هي هبات الله لنا اصطفانا على غيرنا إنعامًا وإكرامًا وليس لأجل التكبر والاغترار بها.

خامسًا : قصة يوسف عليه السلام وإخوته.

لعبت المقارنة دورًا مفصليًّا وهامًّا في حياة نبينا يوسف عليه السلام، وأودت به إلى التيه والاغتراب عن أهله، ولا سيما أباه الذي ظل يبكيه حتى ابيضت عيناه ولقي الصعاب والمكابدة من إخوته وما جرى عليه من اضطهاد لا ذنب له به إلا أنه الأحب إلى قلب أبيه من تلك العصبة. فلك أن تتخيل صعوبة قبولهم بهذه المقارنة حتى أودى بهم الحال إلى إشارة أحد إخوته برميه في البئر فضلًا عن أنه كان سيُقتل لأنه الأحب إلى قلب أبيه فقط!، فكما كان يريد قابيل قتل أخيه لقبول عمله، كذلك ذهب إخوة يوسف لقتله أيضًا مع اختلاف الأسباب فقط.

{إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى‏ أَبِينا مِنَّا ونَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.. اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صالِحِينَ..قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ}

في هذه القصة نلاحظ أن إخوة يوسف ذهبوا بالنظر إلى عددهم ومالَه من ميزة وفضل بقولهم: ونَحْنُ عُصْبَةٌ.. وظنوا أنه هو السبب المقنع والكافي بأن يكون لهم الحق في كسب محبة والدهم دون نبي الله يوسف عليه السلام، فما ذهبوا إليه من ادعاء ذهب إليه صاحب الجنة أيضًا عندما قال لصاحبه: {.. أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا } فالإنسان كان وما يزال يتفاخر ويتباهى بالكثرة العددية لعشيرته أو أسرته ويرى أنها محط اهتمام وتجليل! ولكن هل أخذ القرآن بهذا المبدأ؟

سادسًا : قصة قارون وقومه.

فإذا تأملت في قصة قارون وقومه تجد أنها واحدة من أروع القصص القرآنية المليئة بالأمثلة التي حاكت وضعنا الحالي بأدق تفاصيله، فلم تنحصر هذه الأمثلة على تلك الأزمنة والأقوام فحسب بل إنها طابقت ما نراه ونعايشه.

(فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.. وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ولا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ..)

قارون خرج على قومه في زينته ونحن أيضًا لدينا من خرج على قومه بسيارته ومن خرج على قومه بممتلكاته وآخر خرج على قومه بأبنائه، وأما المشاهير فمنهم من قام بمشاركة رفاهية حياته للعلن. وكل هذه الأنماط المختلفة تندرج تحت مظلة إظهار الزينة (بشكلها التفاخري وليس بما يقتضي الحال)، هذا من جانب، أما الجانب الذي يمثل قوم قارون فهم عوام الناس الذين أهلكوا أنفسهم في مضامير المقارنات والتمني والنظر الى ما في أيدي الناس من متع الدنيا الفانية، فمن أسوا مساوئ المقارنة أنها تجعلك تتمنى ما لدى الناس.

وصور لنا القرآن ميدان هذا الحدث بأجمل أساليب الوصف والسرد القصصي، فتصور معي هذا الحدث، يخرج قارون بزينته فيفترق القوم إلى فرقتين مختلفتين في مقاييسهم ومقارنتهم لهذا المهرجان التفاخري، ويبين القرآن لنا أن هناك ميزانين احتكمت إليهما كل فرقة، أما الأول فهو ميزان من أراد الحياة الدنيا فأورد القران الصورة الملغمة التي نظروا اليها من منظار حب زخارف الدنيا وزينتها الفانية بقولهم: {يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.

أما الميزان الثاني فهو ميزان من أوتي العلم من أولي الألباب والعقول النيرة فكانت نظرتهم نظرة مغايرة تمامًا عن الفرقة الأولى وذلك بقولهم: {وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ولا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ}. وبعد أن وضعوا هذا الحدث كلاً على ميزانه أتى وقت النتيجة ليتضح أي الميزانين أحق، فيقول عز من قال: {فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ وأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.

بعد ما انجلت الصورة الظاهرية الضبابية للفرقة الأولى التي أرادت الحياة الدنيا رأوا ما حل بقارون وزينته وكيف أن مقارنتهم الخاطئة لزينة قارون وما لديهم اضمحلت بكل سرعة، حينها أيقنوا واستيقظوا لحقيقة الأمر أنه لم يكن إلا منظرًا ظاهره جذاب وباطنه العذاب الأليم الذي كان يخفى عليهم ولا يخفى على من أوتي العلم. فكم من أشياء بيد الناس يتمناها المرء ولا يعلم أنها هي الضرر المحتم لو حاز عليها، ولا يعلم أن كثرة الأولاد قد تكون نقمة عليه ولا يستوعب أن الأموال قد تهوي به وبعمره إلى تخوم جهنم ولا يفهم أن الجاه والمكانة الكبيرة قد تودي به إلى التسلط وظلم الناس وأنها مدعاة للتكبر والغرور، وإذا أردنا ذكر مثال يحاكي قارون وقومه فلك في نماذج المشاهير ألف عبرة – الذين يستعرضون حياتهم الزوجية ويلمعونها بكل أساليب التشويق والإثارة – ويذهب الحال بالزوجة أو الزوج إلى المقارنة واستحقار وضعهم مقابلة ما لدى هذا المستعرض، وما هي إلا أيام معدودات فترى الذي ادعى أنه يعيش أرقى وأفخم حياة زوجية على وجه الوجود يعلن طلاقه! حينها يقول المشاهد المغتر بالصور الظاهرية كقول قوم قارون: {وأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}.

إذاً نلاحظ وبشكل واضح وجلي وقياسًا على القصص التي سبقت أن الإنسان وغيره من مخلوقات العوالم الأخرى وجدوا صعوبة بالغة في التواضع وقبول المقارنات إذا ما كانت في صالح الطرف الآخر، وكيف أنهم لقوا حتفهم بعملهم هذا فمنهم من بارز الله كإبليس ومنهم من قتل أخاه وآخرين أرادوا قتل اخيهم ….،

ومعرفتهم أن هذا التفضيل هو من قبل الله لم يردعهم عن التكبر والتعالي بل دفعهم الى أبعد من ذلك ألا وهو القتل، كل ذلك بسبب الأنا وما لها من عواقب وخيمة على مصير الفرد، وأكثر ما يشد استغرابي ويدفعني للتوقف والتفكر في قصص المقارنات هو أن كل الذين رفضوا قبول نتيجة المقارنة لم يرفضوها فقط! بل أتوا بأسباب ومبررات يدّعون أنهم بسببها يستحقون الأفضلية على غيرهم، والأمر يختلف إذا كانوا يقدمون هذه المبررات لأنهم يرون بأفضليتهم أم أنهم يقولون ذلك ادعاءات فقط، وفي كلتا الحالتين غير مقبول منهم ما كانوا يصنعون.

فعلى الإنسان أن يتزن في ميزان الأفضلية بقدر حجمه، لا أن يقلل من شأنه ولا أن يرفع نفسه مرتبة أعلى منه ولا بد أن يعرف قدره، وواحده من الطرق الناجعة لعلاج المقارنات السلبية هي مقارنة نفسك بنفسك السابقة وتطويرها بغض النظر عن الآخرين. وقد لا تكون مسالة التواضع وقبول أفضلية الناس عليك بتلك السهولة المتوقعة كونها تشعر الإنسان بنقص أو عدم ثقة وما شابه ذلك، ولكن لا علاج للمقارنات وتبعاتها إلا بالتواضع والقناعة وقبول هبات الله على غيرنا. فكما أنك ظهرت بمقام أعلى في جنبة من جنبات الحياة كذلك أنت في سياق آخر أدني من غيرك وهكذا قوانين اللعبة، وإلا فلن تجد مناصًا من مشاحنات المقارنة لأنه سيكون هنالك من هو أفضل منك ما حييت. ولن تكون بمنأى عن نتائج المقارنات التي وردت عن الامام علي عليه السلام في قوله: “من قارن ضده كشف عيبه وعذب قلبه”. فمن منا يا ترى يريد ان يكشف عيبه ويعذب قلبه؟

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. أود أن أعبر عن إعجابي الكبير بالمقالة التي تناولت موضوع المقارنات البشرية بعمق ووضوح. لقد استعرضتِ بشكل رائع كيف أن هذه الظاهرة تتجلى في حياتنا اليومية، وكيف تؤثر على سلوكياتنا وعلاقاتنا مع الآخرين.

    إن استخدامك للأمثلة القرآنية كان مؤثرًا للغاية، حيث أظهرت بذكاء كيف كانت المقارنات سببًا في العديد من الأزمات والمآسي عبر التاريخ، سواء من خلال قصص الأنبياء أو من خلال تجارب البشر.

    أحببت أيضًا الطريقة التي ربطت بها بين هذه القصص وبين تحديات العصر الحديث، مشيرةً إلى ضرورة التواضع وقبول أفضلية الآخرين علينا. إن التركيز على تحسين الذات بدلاً من المقارنة مع الآخرين هو رسالة قوية وملهمة.

    أشكرك على هذا المقال الرائع، فهو يعكس عمق تفكيرك واهتمامك بقضايا النفس البشرية. أتطلع إلى المزيد من كتاباتك المميزة في المستقبل!

    1. اشكرك كثيراً يا اخي حسين على وقتك الثمين في قراءة المقال …واسعدك الله كما أسعدتني برأيك المهم كثيراً بالنسبة لي.. و نأمل ان يكون القادم أفضل بمشيئة الله وبدعمكم 🤍.

  2. الاخ العزيز حسام اتمنى لك نور البصيرة والسعاده في الدارين
    حديث جميل عن واقع نعيشه للاسف في كل تفاصيله حتى لو ابينا ذلك واضيف الى حديثك كأنما يغشى عيوننا عندما نقابل من هم ادنى منا بنظرتنا البسيطه فنقول بيننا وبين انفسنا انا استاذ جامعي وهذا انسان عادي لايمتلك شيء من العلم والفهم كلام جميل اتمنى لك التوفيق والنجاح

  3. ممتن لك كثيراً يا ابا احمد ورزقك الله أضعاف دعاك لي ونسأل الله ان يرزقنا التواضع دائماً وابداً .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى