أقلام

شذرات من كتاب سيرة الوالد الحاج حسن بن علي البقشي

صادق موسى السماعيل

الشاعرْ والكاتبْ أحمد بن الشيخ حسن البقشي أصدر مؤخراً كتابِهِ المستطاب (شذرات من سيرة الوالد الحاج حسن بن علي البقشي -بومنير) مذكرات توثيقيّة عن الحياة والعمل والمجتمع.

وحيث إنـي ممن قرأ الكتابَ قبل صدورِهِ صفحةً صفحة، وسطرًا سطرًا وحرفًا حرفًا فقد تمخّضت هذه القراءةُ الفاحصة عن ثلاث وقفاتٍ قصار:

– وقفة مع الكتاب (شذرات من سيرة الوالد)

– وقفة مع صاحب المذكرات العم الشيخ حسن البقشي (أبو منير) رعاه الله.

– وقفة مع الكاتب الباحث أحمد البقشي

الوقفة الأولى: وقفة مع الكتاب:

لم يكن مخاضُ ولادةِ هذا الكتاب عسيرًا، برغم أن أشهر حمله بلغت 493 صفحة، فقد صاحبته دعوات الوالدين وطوّقته أمنيات الأخوة والأصدقاء بالنعناع والحبك، حيث وُلِد في أحسن تقويم وأبهى حلة، مكتمل الخلقة والبيان، ومطرّزًا بالهيلة والقيطان.. وذلك من خلال خمس صور:

1) إنه يتناول حقبةً من تاريخ الأحساء المهاجر في كاظمية العراق في حقبة الخمسينات والستينات الميلادية، وهذه الفترة حقيقة بالدراسة والتأمل مع أخواتها في سوريا والكويت والبحرين، بالنظر إلى ما يتمتع به الإنسان الأحسائي من صبرٍ وجَلد في تسويق منتجه اليدوي والحرفي.

2) إنه محفِّز لكتابة المذكرات الشخصيّة الشفاهية بما لهذه المذكرات من ثقل وازن كمرجعيّة تاريخية حاكمة، فالمذكرات ينثرها صاحبها كشاهد عيان على الحدث المشهود بما يكسبه من مصداقية قياسًا بالنص السردي المكتوب الذي لا يكون عادةً ساردُه شاهدًا حيًّا عليه.

3) إنه أشبه بالكشكول، أو الحديقة الغنّاء، فقد احتوى على الطرفة الجميلة، والفكرة اللافتة، والنصيحة الذكية، والمعلومة الناجزة، والـمثل الأحسائي السائر ما يبعد السأم والملالة عند القارئ، وبما يشعل فتيله ليواصل قراءة المذكرات حتى النهاية، كحلقات روايةٍ متسلسلة الأحداث، بطلها العم أبومنير.

4) إنه يحتوي على مجموعٍ كبيرٍ من السير الذاتية لأشخاصٍ راحلين ومعاصرين، ووجهاء وفاعلين في المجتمع قلّ أن تجدهم في مصادرَ وقنواتٍ أخرى، حيث أفاض في التعريف بشخصياتٍ أحسائية وغير أحسائية كانت متزامنةً مع وجودِهِ في كاظمية العراق، ما أكسب الكتابَ متانةً وقوّة.

5) اعتباره مرجعًا حيًّا ومصدرًا موّثقًا لكثيرٍ من الوقائع والأحداث التي مرّت بها المنطقة خلال ثمانين عامًا، حيث يتسم بالصدقية والواقعية والموضوعية في الطرح والسرد.

الوقفة الثانية: وقفة مع صاحب المذكرات:

العم أبو منير.. بطل الرواية – كما ذكرت سلفًا- كان متماهيًا مع المكان والزمان في أي بلد يكون فيه ويتقلّب في رحمه، لم يكن منزويًا عن الناس والمجتمع، ولم يكن منطويًا على ذاته ويعيش عزلة الروح وغربة الجسد، ككثيرٍ من قرنائه، بل كانت أبوابُـه مُشرعةً، ونوافذُه مفتوحةً على مختلف طبقات المجتمع وشرائحِه، كان لديه (من بد الناس) في غابر ذلك الزمن حساب (سناب) يصوِّر فيه يومياته ومشاهداته.. والآن هو يشاركنا تلك اليوميّات من خلال هذا الكتاب، حيث كان يكتب ذكرياته بطبشور حجر الربى على جدار الزمن السحيق، ومن يقرأ الفهرس كمصافحة أوليّة للكتاب يدرك ما أقول وما أعيه وأشير إليه.

لهذا امتلك رصيدًا شعبويًا كبيرًا في النفوس التي ألفته وساكنته وجاورته… وسيارته الـ (فولكس واجن) موديل 69 تحكي قصّة كفاحه ونفسه الكبيرة.. وبالتالي جاءت هذه المذكرات عبر ما يتمتع به العم أبو منير من خلال الآتي:

1. الذاكرة الفولاذية في تذكر الأسماء والتفاصيل والأحداث المفصلية في تاريخ العراق كما عاصرها في الفترة التي عاشها في الكاظمية وغير الكاظمية، وكذلك تدوينه الدقيق للمتغيّرات الحضارية والمجتمعية التي شهدتها الأحساء في تلك الحقبة من دخول الكهرباء والتلفزيون والسيارة ومصنع النسيج ومصنع الثلج وشركة أرامكو ومشروع حجز الرمال والري والصرف وعمارة السبيعي وما نتج عن ذلك من أثر على تخلخل الطبقات الاجتماعية وتغيّر المراكز بسبب طفرة العلم والمال.

2. امتلاكه لعدسة بانورامية وعين نسر خاطفة، قادرة على تصوير المشهد بتقنية 4k، حيث يستطيع أن يدخل محدّثه وقارئه لداخل المشهد ليتفاعل لا إراديًّا مع مقتضياته، ودونك مشهد (السويج يحترق) عام 1377هـ وما نتج عنه من ضحايا، ومنهم الشاب علي بن علي البقشي الذي نظرت لصورته بالكتاب بألمٍ وحرقة وتحسّر، ولو كان بين ظهرانينا الآن لكان عمرُه ثمانين عامًا تقريبًا، لكن الأمر لله من قبل ومن بعد.

الوقفة الثالثة: وقفة مع الكاتب أحمد:

عرفت الصديق أبا محمد مبكرًا جدًّا، وكان أحد أبطال (النيجاتيف) وأصدقاء معامل التحميض مع شقيقه المصوّر علي (أبورضا)، الفرق بينهما ليس شاسعًا بالقدر الذي يجعلك أن تقول عنهما أنهما مختلفان، أحمد تخصّص في الذاكرة السردية وعلي في الذاكرة الصورية.

أحمد وبعد أن انتهى من كتابه الضخم (من ذاكرة الأحساء) في أربعة أجزاء عام 2018م، لم ينفتل عن صلاة جعفر، بل ظل يمارس هوايتَه الفطرية في محراب الأحساء، وهي اقتناص اللحظة، فقد فتح الله عليه بابًا من سماء الأحساء فظلّ فيه يعرج إلى حيث التميّزِ والفرادة والإبهار.

أحمد أحسبه في هذا الإصدار الجديد أنه كان غوّاصًا ماهرًا، فقد استطاع أن يغوص لأقصى عمق وأبعد نقطة في شخصية والده ليجلب لنا من اللآلئ والدرر ما نستعيض به عن الزينة والتجمّل.

كما أنَّ هناك ملمحًا للمتبصِّر في أمر الكتاب، وهو أنَّ الكاتب أحمد كان حاذقًا في رمي الشباك في بحر والده، بحيث يكون الحديث في مرمى شباكه، بما يتضمّنه من مواضيع مختلفة لها مسيس مباشر بحياة والده، فقد طرق موضوع العادات والتقاليد في مجتمع الكاظمية والأحساء، وتناول المواضيع ذات الشأن الديني والاجتماعي.

إن استنطاق الشخصيّة –ومن واقع تجربة- أمرٌ عَسِرٌ جدًّا، ما لم تكن تملك أدواتك الخاصّة القادرة على تفتيت الصخر وإسالة الجامد، وهذا ما وجدته شاخصًا في أخينا الكاتب أحمد، كان فلاحًا ماهرًا، يعرف مواسمَ الخصب ومواقعَ النجوم، ويعرف متى يُضحك الماء ومتى يمسك، ويعرف كيف يؤكل الجِذَبْ والتلتال.

لقد أفرغ عن لسان والده ذكرياتٍ وحكايات، كتبها بأسلوبٍ فخم تتجلّى فيه عرامةُ اللغة، وجزالةُ المعنى، وقيمومة الحدث، ولعمري أنَّ هذا الأسلوب السلس هو ما أراهن عليه عند كل قارئ في أن يكون هذا الكتاب صديقه ونديمه من الصفحات الأولى وحتى آخر صفحة.

نقطة أخرى أرى أنها لافتة في أحمد كباحثٍ متمرّس ومحترف، وهي خارطتُه الذهنيّة التي وضعها لهيكليّة الكتاب، متمرحلًا مع والده في مراحل زمنيّة متسلسلة، ابتداءً من الأحساء حيث مولدُه ونشأتُه، إلى الكاظمية وما تخلّلها من زيارات لمختلف مدن العر اق الأخرى، إلى دول الخليج كالكويت والبحرين، وانتهاءً بعودته إلى مسقط رأسه الأحساء بما واكبها من أحداث اجتماعيّة، سرد كل ذلك بقدرة فائقة وحبكة فاتنة دون أن يضطرب الكلام، أو ينفلت الخيطُ عن الإبرة.

ختامًا.. لا أنسى أن أخبركم أنه في ذات صرام وتحديدًا في نخل (الشراع) سمعت بلبلًا حساويًّا جميلًا وهو يتقافز من نخلةٍ إلى نخلة، حيث توقّف الهواء عن الهب، وسعف النخيل عن الرفّ، قرّبت أذني وأصغيتُ له، وإذا به يقول مبتهجًا وواثقًا:

تَطاولتَ كالنخلِ الـمُحلّقِ يا بقشـيْ

مشيتَ تبزُّ الريحَ سبْقًا ووثبةً

تهشُّ على الأحسَا فَتهتزُّ سدرةٌ

وينسـابُ فـي الأرواحِ نـهـرُ (سـلـيـسـلٍ)

وتندلِقُ الدُّنيَا انبهارًا ودهشةً

وَننمو ابتهالاتٍ ونعرجُ دعوةً

فَمِن عَرَقِ الأجدادِ يهمي جبينُنا

نموتُ إذا ماتت على الماءِ نخلةٌ

_____

أيَا (أحـمـد البقشـيُّ) يا مَن تـخـضّـبـتْ

تنافِحُ عَن أحسائِكَ الحُبِّ مثلما

تُجيدُ التقاطَ الضوءِ من كلِّ سِكّةٍ

وتـحرثُ أرضَ الذكرياتِ بـمـقـولٍ

وتهمرُ حبرَ الأمسِ غيثًا لباحثٍ

فيزدهرُ الزرعُ الذي قد حرستهُ

فَــتّـتَ الـحصَـى والصخرَ قِدمًا ولـم تَخفْ

فكـلُّ الذي تـنـويْ يُـشـيـرُ إلـى السَّـمـا

وأنتَ ترومُ الـمجدَ سعيًا إلى العرشِ

فلـم تُـخطـئ الأقـدامُ دربَكَ إذْ تـمـشـي

فيَسّاقطُ التاريخُ من ذلكَ الهشِّ

وقـدْ صَانَ سِـرَّ النبعِ صونًا ولـم يُفْشِ

لعينِ الخدودِ اليومَ من فتنةِ الرمْشِ

لنجعلَ هـذا اللطفَ أحـسـاءَنا يَغشـي

شموخًا أثيريًّا من البأسِ والجأشِ

ونـحـيَـا بـ(صخّيـنِ الـمكـدّةِ) والعـيـشِ

____

يَـداهُ من التـوتِ الـحـساويِّ كالنَّـقْـشِ

يُنافِحُ عصفورٌ عن الغصنِ والعُـشِّ

فَتفرشُ أنحاها الوثيرَ من الفرشِ

فَتستخرج الـمخبوءَ في الصدرِ بالنبشِ

لينعمَ من كفِّ العطيّاتِ بالرشِّ

سنينًا من الأشواكِ بالقصِّ والحشِّ

كمـا خافت الـمـرآةُ من آفـةِ الـخدْشِ

وما تبني من صَرحٍ من الشمسِ أو تُنشـي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى