أقلام

الدّراجة التي أغوتني

عقيل المسكين

ذات مرّة كنتُ أتأمل في دراجة جميلة كانت تنتظر صاحبها عند البوابة الغربية للبيت العود، وبالتحديد عند بيت غانم حيث تعيش جارتنا أم هارون وابنها هارون، وكنت أظن أن هذه الدراجة إما لابنها هارون أو لأحد أصدقائه الذين يحضرون لزيارته والجلوس معه، لأن الدراجة كانت تستند على طرف من باب منزلهم، ولم تكن عندي أية دراجة وقتئذٍ في بدايات المرحلة الابتدائية –حيث إن والدي لم يُحضر لي واحدة مناسبة لي بعد-، فصرت أتأمل في تلك الدراجة وأظن أنها كانت تتأمل بي، فكلما نظرت إليها من جهة أشعر أنها تعيد النظر إليّ كأننا في مقابلةٍ عجيبة من النظرات، وتعجبت كثيرًا من هذه الدرّاجة المدهشة، وحاولت الرجوع إلى داخل البيت العود وإغلاق الباب الغربي، إلا أنني أحسست بأن هذه الدراجة تناديني.. والعجيب أنها كانت تنادي بإسمي: (عقيل .. عقيل). نعم لقد نادتني بالفعل وقالت لي: لماذا لا تجربني .. هذه هي فرصتك.. هيّا ولا تقلق.

وكأنني قلت لها: لا لا .. أنتِ لصاحبكِ وهو جارنا أو لأحد أصدقائه لأنني لأول مرة أراكِ هنا.

وكأنها قالت لي: لا عليك جرّبني فحسب.

فترددتُ وكدتُ أدخل إلى (البيت العود) مرة أُخرى، إلا أن ذلك النداء كان قويًا، فخرجت ووقفت أمام الدراجة مُتأمّلًا فيها مرة ومرتين وثلاث، حتى تنفّست الصّعداء وشحذت قوتي جيدًا، ثم امتطيت مقعدها ومسكت بِمقودِها وبدأت بقيادتها حيث رجعت إلى الخلف من هذا الزقاق الذي يجمع بوابتنا الغربية وعلى يسارها بيت الحاج (أبو عباس) علي الربعان، وعلى يمن البوابة باب بيت خالتي أم حسين، ثم على امتداد الزقاق بيت أم هارون ، وينتهي مع انتهاء جدار بيت الربعان ثم أنعطف يمينًا أو يسارًا، وقد اخترت الانعطاف يمينًا لأنني لا أريد أن يراني والدي عندما أذهب جهة المنجرة، لأن المنجرة تقع في آخر هذا الدرب الأيسر.

وأنا جالس على مقعد هذه الدرّاجة الجميلة، ورجلاي تدوران على دواسَتَيها، كنت أتجول في الطرقات الداخلية للديرة، أنظر إلى هذا وألمح ذلك، وأنعطف هنا مرةً وأنعطف هناك مرة ثانية، رجل عجوز يمرّ بجانبي الأيمن في هذا الجزء من الطريق، وامرأة عجوز تمر بجانبي الأيسر في هذا الجزء الآخر من الطريق، وهكذا…

وكنت في أوج مُتعتي بقيادة هذه الدرّاجة حتى إنني سَرحت بتفكيري في رحابٍ بعيدةٍ كأنني أنطلق في عوالم من الخيال لا أوّل لها ولا آخر، وكأن هذا الكون كلّه أصبح ميدانًا مُدهشًا يمكنني أن أقطع كلّ أطرافه وجوانبه بدراجتي السحرية هذه التي دعتني لأجربها فلبّيت دعوتها وسمحت لها أن أكون أنا عقيل المسك أحد الذين قادوها في يوم من الأيام، ولتفتخر هي أيضًا بأنني نقلتها إلى هذه العوالم الماورائية التي لا يمكن لأي إنسان أن ينتقل إليها أو يتجول فيها ثم يعود، والأعجب من كلّ ذلك رأيتني وأنا في جزر واق الواق الخرافية تارةً، وتارة أخرى رأيتني في أواسطِ تلك المدُن القديمة التي كان السندباد يرتادها بعد الكثير من رحلاته البحرية، لتبدأ مغامراته البرية، كما تملكتني حالة عجائبية لا يمكن وصفها بالكلام المعتاد، وإنما تُوصف بالشعر أو الكلام النثري المزدان بجواهر بلاغته وألماسِ بيانه وجمال معانيه، لقد وصلت إلى حدٍّ كبير من السعادة التي لا أوّل لها ولا آخر.

وبشكل مفاجئ خرجت من تلك الدوامة الزمنية الرائعة لتعيدني إلى مسقط رأسي وملاعب طفولتي الديرة الجميلة، حتى دخلت إلى شارع الملك فيصل فصرت أتجوّل فيه من بدايته حتى نهايته مرتين أو ثلاث، وكنت أتحاشى السيارات لا ألمسها وأحذر أن تلمسني، حتى تعبت من الجولان بهذه الدراجة التي أغوتني حتى أمتطيها، وبالفعل لقد جرّبتها بطريقة ماتعة، وقلت لها: ها أنذا قد جربتك، ماذا بعد؟

وقد وجدت نفسي أدخل في الطريق المؤدي إلى بيتنا العود من جهة الباب الغربي، وأوقفت الدراجة بجانب باب أم هارون حيث كان مكانها الأول، وإذا بي أرى في الخلف من بداية الزقاق شخصًا يُسرع إليّ كأنه قد اقترب من اصطياد فريسته، ويستعد للانقضاض عليها، ولما رآني صغيرًا وضعيف البنية من جهة، ومن جهة ثانية رآني أدخل بسرعة إلى بيتنا العود هدأ روعه وتعجّب، وصار ينظر إلى دراجته ولم ير فيها أي عيب أو أي عَوار فاطمأن، ثم امتطاها وقادها خارجًا من ذلك الزقاق، بينما أنا كنت أنظر إليه من فتحة الباب من الداخل، وقلت في نفسي: الحمد الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى