أقلام

المعلّمُ الذي خَذَلَني

عقيل المسكين

في حوار دار بيني وبين صديقي المخلص ورفيق دربي الوفي “الروائياتي” وقد قصصت عليه قصة حدثت لي في أيام الصّبا:

– في إحدى السنتين الأخيرتين من المرحلة الابتدائية بمدرسة الأندلس بسيهات والتي بدأتها عام 1394هـ، وكان عام تخرجي من هذه المرحلة عام 1399هـ، أتذكر أن الأستاذ و هو معلم مادة الحساب أردني الجنسية ضخم الجثة، عظيم البطن، طويل القدمين، وله رأس شبه مدوّر، وبه شارب مُنمّق يذكرني بشوارب الأبضايات في الأفلام والمسلسلات السورية القديمة، ويلبس البنطلون الذي يصل إلى فوق السُّرّة؛ ويلبس عادةً قميصًا أنيقًا وأحيانًا يلبس بدلة كاملة من بنطال وقميص وكوت و”كارفِيتا”، وهو بارع في تدريسه لمادة الحساب التي كنت أكرهها ولا أعلم لماذا؟!.

طلب مني ذات يوم أن أحضر له عصًا من منجرةِ العائلة، وبالفعل طلبت من والِدي أن يعدّ لي عصًا جيدة للأُستاذ، فعرف لماذا طلبها الأستاذ، وكأنه أخفى ابتسامة إلا أنني لاحظتها بنظرة خاطفة، ووعدني أن يعدّ عصًا من الخشب الصُلب حتى لا تنكسر بسهولة، وكانت منجرتنا تقع في مكان آخر غير العمارة التي بشارع السوق، لأن والدي أراد أن يتوسع بالعمل، وبالفعل حصل على أرض استأجرها خلف مقبرة سيهات من الجانب الشمالي، وهي أرض كبيرة أكبر من موقع المنجرة في العمارة بكثير، مما سمح له أن يعدّ قسمًا للألمنيوم، وقسمًا آخر للحداد، وقسمًا للمخزن العام، وقسمًا للنجارة، وتوجد براحة في الوسط لمواقف السيارات وللتنزيل والتحميل، وفي ذلك اليوم الذي طلبت فيه أن يعدّ لي هذه العصا قام بأخذ قطعة من الخشب الزان القوي، وشغّل مكينة “الرندة” لتنظيفها وتنعيمها. وبالفعل قام بتنظيف العصا من جهاتها الأربع حتى أصبحت ملساء وناعمة بطول 50 سم على ما أظن، وبعرض 4 سم وعمق 2 سم، وقام بصنفرتها من الطرف السفلي والطرف العلوي، وأخذت العصا فرحًا بها، كما استبشرت خيرًا بأن الأستاذ سيكرمني في علامات النشاط أو سيكرمني في امتحان الحساب بنصف السنة على أقل تقدير.

في اليوم التالي أمسكت بالعصا بيدي لأن الحقيبة المدرسية التي كنت أحملها لا تكفي لحملها في الداخل، وعند وصولي للمدرسة تعجّب الطلاب من العصا التي كنت أحملها وقد وضعتها في الدرج الخاص بطاولتي إلى أن تحين حصة الحساب، وعندما حضر الأستاذ في حصته قمت بتسليمه العصا التي طلبها فأعجب بِها أيّما إعجاب، وشكرني لأنني أحضرتها له، ووضعها على الطاولة، بجانب حقيبته الصغيرة التي اعتاد أن يحملها معه حيث يضع فيها الكتب التي يدرسها مع بعض الأقلام ودفاتر التحضير للسنوات التي يقوم بتدريس موادها للطلاب، وبدأ الأستاذ بشرح الدرس الجديد بعد أن أمر الطلاب بفتح الكتب والدفاتر لتسجيل خلاصة الدرس، وحل بعض التمرينات التدريبية على المسائل الحسابية الجديدة، وقبل انتهاء الدرس أمر الأستاذ بجمع دفاتر الواجبات للدرس السابق، فقام عريف الحفل بجمع جميع الدفاتر، وعندما جاء دوري لم أكن قد أدّيت الواجب في الدفتر لذلك لم أسلمه له فانتبه لي الأستاذ حيدر وقال لي:

– عقيل تعال هنا عندي.

فذهبت إليه وقال لي:

– لماذا لم تحلّ الواجب.

فقلت له خجلًا:

– نسيت يا أستاذ.

فقال لي وهو غاضب:

– افتح يدك.

ففتحت له يدي اليمنى، وبدأ بضربي بالعصا التي أحضرتها له، ورأيت ابتسامات شامتة من بعض الطلاب، كما رأيت ابتسامات حانقة وحاقدة أيضًا وكأنها تقول لي:

– هذا جزاؤك لأنك أحضرت للأُستاذ هذه العصا الغليظة القوية.

من هنا أقسمت أن لا أطيع أيّ معلم يطلب مني أن أحضر له عصًا من منجرتنا، فقد خذلني هذا المعلّم الذي ضربني بشدّة بعصًا كنت أحتفظ بها منذ اليوم السابق عصرًا وأخذتها معي إلى منزلنا، ووضعتها بجانب فراشي أحرسها حتى لا يأخذها أي أحد من إخوتي أو أخواتي ويضيّعونها كعادتهم عندما يأخذون بعض ألعابي وحاجياتي الأُخرى، كما كنت أرسم في ذهني شيئًا من الأمل بالحصول على رضا هذا المعلم وتحسين درجاتي في مادة الحساب، إلا أنه قد خابت كُلّ ظنوني للأسف الشديد، وعدت إلى منزلنا في ذلك اليوم وأنا محمرّ اليد، ومجروح القلب، وعيناي قد اغرورقتا بالدموع، وشفتاي ترتعشان بكاءً من شدّة الخجل والانكسار أمام الطلاب، وأمام ضميري الذي أنّبني عندما أطعت هذا المعلم الذي لم يثمر فيه المعروف، وقد استشهدت بمثلٍ سمعته عدة مرات ممن حولي سواء في “البيت العود” أو من خلال تجاذب أطراف الأحاديث لدى كبار السنّ والشيبة الذين يحضرون عندنا للاستماع في المجلس الأسبوعي مساء كل أحد، وهذا المثل هو: “جِزاة الخير سُواد الوجه”.

الروائياتي:

– أنت بإطاعتك للمعلّم عندما طلب منك إحضار العصا كنت تقصد الخير ولم تكن تقصد الشرّ، وينطبق عليك المثل القائل: “إِنَّ خيْرًا مِنَ الْخَيْرِ فَاعِلُهُ، وَإِنَّ شَرَّا مِنَ الشَّرِّ فَاعِلُهُ”، وهذا المثل لأخٍ للنعْمَان بن المنذر يقال له عَلْقَمة، قاله لعْمرو بن هند في مواعظ كثيرة، كذا قاله أبو عبيد في كتابه، ولكن تشمّت بعض الطلاّب بك قد أزعجك وأدخل في نفسك بعض الألم والشعور بالذنب، حيث يعتبر جميع الطلاب وجود العصا مع الأستاذ من الأساس هي عمل غير مقبول ويعتبرونه من الشر، وهذه رؤية قاصرة على أي حال، فـ (العصا لمن عصى) ولا تتوقع أن الذي يعصي تتم مكافئته مثلًا، بل تتم معاقبته بالعقاب المناسب سواء من الوالدين أو من المعلّم، ولجوء المعلم إلى الضرب المناسب في تلك السنين الخوالي لم يكن ممنوعًا، ولكن دون مبالغة ودون إيذاء يصل إلى حدّ الجروح والكسور، وأنا معك أيها المسك في مضمون المثل الشعبي الذي ذكرته، ومثله ما رُوي عن أرسطو حيث قال: “نكران الجميل أشد وقعًا من السيف”، وهذا ما حدث لك بالضبط مع هذا المعلم، حيث كان من الأجدى أن يتعامل معك بشيء من اللطف –على أقل تقدير في هذا المقام وأنت للتوّ قد أسديت له خدمة طلبها منك-.

– صدقت إيها الروائياتي العجيب، فقد ترك هذا التصرّف من المعلم ألمًا لا يزال أثره باقيًا في وجداني حتى اليوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى