العتبة ما قبل الأخيرة
عقيل المسكين
في أحد الأعوام بالمرحلة الابتدائية –قبل نصف قرن من تاريخ كتابة هذه السطور-، بمنزلنا (البيت العود) في حي الديرة بسيهات، مدينتنا الساحلية التي تغنّى بها أبو البحر الخطي في القرن العاشر الهجري أشهر قصائده، وكتب عنها بعضُ المستشرقين والرّحالة بل وأحصَوا عدد بيوتها ووصفوا قلعتها ومعظم آثارها القديمة في أواخر القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر الهجري، كما تطرقوا إلى ساحلها وعدد مراكبها، ووصفوا سِيحَاتها ونخيلها ومزارعها؛ وعادات سكّانها وتقاليدهم، وإني في ذلك العام الذي أتذكر فيه حصول موقفي المحرج في أحد أيامها يُسطّر القدَرُ ما تم نقشه على جدران ذاكرتي، ولا يزال أثر هذا النقش واضحًا عليه حتى يومنا هذا.
لقد استضاف والدي – ذات يومٍ – أحد معارفه من مدينة القطيف أو إحدى قُراها لتناول وجبة الغذاء معه، وجلسنا في صالة الدور العُلوي حيث تم وُضع سماط الضيافة؛ بينما الضيف ووالدي يتجاذبان أطراف الأحاديث بجانبٍ من الصالة حِذاءَ صفٍّ من المساند والتكّايات القطنية المزركشة، والضيف يستند على إحدى هذه المسانِد ويتكئ على إحدى التكّايات الجانبية، ووالدي يجلس في قبالته يباسطه بتلك الأحاديث الطريفة وحكايات الذكريات، وقد وَضعتُ بِضعةَ صحونٍ مُتوسطة الحجم في أحدها بعض التمر من نوع الخلاص الأحسائي المشهور، وفي الآخر البصل والطماطم المقطعة، وفي صحن ثالث بِضع أنصافٍ من الليمون القطيفي الأخضر، كما وُضعت “غرشتين” من “صاص أبو ديك”؛ – وقلّما يتم إعداد وجبةِ الرز مع السمك دون أن يوضع هذا النوع من الشطّة الحمراء المشهورة لدى الكثير من الناس وقتئذٍ لتعوّدهم على ذلك- وطلب مِنّي والدي أن أُحضِر صحن الغذاء من مطبخ الدور السُّفلي حيث قامت أُمي بإعداده، وبالفعل نزلت وأعطتني صحن الغذاء وقالت لي:
انتبه.
خرجت من مطبخ الدور السفلي مارًّا بالصالة مُتوجهاً للدَّرج الكائن في الزاوية اليسرى من جهة الباب الشرقي للبيت العود، وبدأت بالصعود للأعلى والصحن في يديَّ تفوح منه رائحة زكية حيث الرز الأبيض المدهّن بـــ “دهن المحروس”، وقطع مجلية من السمك الصافي الشَّهي، وقبل العتبة الأخيرة وباب الصالة أمامي تعرقلت قدمي اليمنى بحافة هذه العتبة وكدت أن أسقط من علَى الدّرَج إلا أنني تماسكت بصعوبة حتى لا أتأذى بينما الصحن الذي كنت أحمله تناثر على الدَّرج بالكامل بما فيه من الرز والسمك المجلِي، وأحدث سقوط الصحن على عتبات الدّرج صوتًا لاحظه كل من كان في صالة الدور العلوي، بل حتى من كان في الدور السفلي سمعوا تدحرج هذا الصحن المنكوب على العتبات، فأُحرِجتُ إيّما إحراج وخرج والدي من داخل الصالة ووبخني بشيءٍ من خَفضِ الصوت حتى لا يُحرج مع الضيف، وضربني بكفّ يده اليمنى على خدي الأيسر وكاد أن يتبع هذا الكفّ بضربات أُخرى؛ إلا أنه تماسك وهو يكتم صواعقًا من الغضب كادت أن تنهال عليّ بألسِنَتِها الغِلاظ، ونزلت بسرعة أختبئ عند أمي في المطبخ، إلا أن والدي كان نازلًا وأخبر أمي بما حدث وهو يستشيطُ غضبًا، فأصيبت بالذهول وشعرت بالكثير من الحرج؛ وما كان منها إلا أن لبست عباءتها وذهبت إلى بيت خالتي فاطمة وهو ملاصق للجزء الغربي من البيت العود من الجهة الشمالية، وكانت الخالة فاطمة للتوّ قد وضعت صحن الغذاء لها ولأولادها وبناتها؛ فتقدّمت والدتي وأخبرت أُختها بما حدث لي؛ فقامت خالتي فاطمة وأعطتها صحن الرز والإدام – وأتذكر أن الإدام كان عبارة عن دجاجة مُحمرة كما سمعت من والدتي فيما بعد- وكانت تتوسط الرز تنتظر من يتناولها؛ والصحن بما عليه لم يُلمَس بعد لأن خالتي كانت تُرتّب السفرة ولـمَّا تنتهي بعد من إعداد صحنٍ من السلطة، وأخذت أمي صحن الرز بما عليه من الإدام بأكمله ورجعت إلى بيتنا وأعطت لوالدي الصحن وقالت له بهدوء: خذ هذا الصحن وضعه على السفرة مع الضيف.
وأخذ والدي الصحن وصعد به إلى صالة الدور العُلوي، ووضعه على السفرة؛ وابتسم في وجه الضيف، والحرج بادٍ عليه، وعندما سأل الضيف عن المشكلة قال له أبي:
– ولدي عقيل عندما اقترب بالصحن السابق من العتبة الأخيرة لدخول المجلس تعرقلت قدمه وأسقط الصحن عن غير قصد، ولكن الأمر إلى خير والنعمة موجودة ولله الحمد.. تفضل.
وبالفعل لقد أنقذت خالتي أم حسين الموقف بمؤازرة أُختها في إعطائها صحن غذائهم الذي كانت للتوّ قد وضعته على سفرتهم في تلك الظهيرة، ومرّت الأيام، بينما هذا الموقف حفر في ذاكرتي هذا الفشل الذريع في إيصالي صحن الغذاء للأعلى ولم يكن ذلك بقصدٍ منّي أو تعمّد وإنما كان سهوًا بسبب العتبة ما قبل الأخيرة فهي التي أربكتني حتى فقدت توازني وأنا أصعد استعدادًا لفتح باب صالة الدور العُلوي ومن ثم الدخول ووضع الصحن على السّماط، ولكن الذي حصل قد حصل، وتم إنقاذ الموقف من جراء التصرّف السريع لوالدتي “حفظها الله”، ووقفة الأخت مع أختها أيضًا.
بعد ذلك صارت أمي تسألني:
– لماذا أوقعتَ صحن الغذاء؟.. ما الذي حدث لك بالضبط؟.
فقلت لها:
– العتبة ما قبل الأخيرة غير مُستوية كبقية العتبات.
ففكرت أمي قليلًا في إجابتي؛ إلا أنّها لم تقتنع بكلامي هذا، وبعد أكثر من خمسين عامًا، وكنت قد دخلت إلى بيتنا العود، وكان قد أخلِي من كل شيء إلا الغبار ونُثار بعض الحاجيات التالفة، وأطياف ذكريات قديمة تتطاير كالدخان في كل بقعة وزاوية من المكان؛ وكان العم جعفر يستعدّ لتهديمه نظرًا لشكاوى الجيران الذين خافوا من سقوط هذا البيت على المارّة في الجهة الشرقية منه وقد استوقفتني العتبة ما قبل الأخيرة من الدَّرَج الصاعد للدور العلوي، وقمت بقياس ارتفاع تلك العتبة بواسطة عصاة خشبية مكسورة، وعلّمتُ على الحدّ النهائي لارتفاعها بــ “شخطةِ” قلم، ثم قِستُ ارتفاع العتبة التي أسفلها فوجدتها بالفعل غير متساوية معها بل وجدت هذه العتبة أرفع قليلًا عن كل العتبات الأُخرى بمقدار سنتمترٍ واحد تقريبًا، فتذكرت ذلك الكفّ الذي انهال علَى خدّي كالبرق، وذلك التوبيخ القديم، والخاطر المكسور، كما تذكرت الشيخ الرئيس عندما أدخلوه في غرفةٍ ورأوه مُتحيرًا حيث قال: إما أن السقف قد نزل قليلًا أو إن الأرض قد ارتفعت قليلًا.
ولكن لم يفدني قول الشيخ الرئيس، ولا ما اكتشفه، لأن أثر ذلك “الكفّ” لا يزال محفورًا على صفحةِ قلبي.
سيهات، الكوثر، 14 محرم الحرام 1446هـ