المسمارُ الذي آلمني وعلّمني
عقيل المسكين
في مرحلة الابتدائية – بإحدى سنواتها الجميلة- (1394هـ-1399هـ) كنت ذاهبًا في عصرِ يوم من الأيام إلى بيت جدّي الحاج عبد المجيد بن محمد المسكين، الكائن في الجانب الآخر من الديرة من الجهة الجنوبية، بعد شارع السوق الذي يقسم الحي، ويقع منزل بيت الجدّ عبد المجيد خلف منزل الشيخ عبد المجيد بن الشيخ علي أبو المكارم، وذلك لزيارة جدتي لأمّي (زهراء بت علي)، وفي الطريق المؤدي إلى “حسينية الراشد” و”بيت راشد”، ثم “بيت بائعة اللبن”، ثم “بيت افريش” وأثناء المشي – ودون قصد – دستُ على مسمار صدئ اخترق فردة النعل ودخل في قدمي اليسرى وتألمت كثيرًا، وسال الدم، وبالكاد استطعت المشي وأنا متكئ على الجدار والألم قد أخذ مني مأخذه، وأحبس بكائي إلا أن الدموع قد بللت خديّ حتى وصلتُ إلى بيت جدتي الحانية؛ وهناك تلقّتني بشيءٍ من الفزع والخوف إلا أنني طمأنتها وقلت لها:
-“دست على مسمار بالخطأ .. جدّتي لحقي علَيْ”.
فقالت لي:
-“تعال تعال اجلس هنا في الصالهْ”.
فجلست على السُّجاد المفروش في الصالة واستندت إلى وسادة قطنية على الجدار، ومددت رجلي على أرضية الصالة بعيدة قليلًا عن السّجاد المفروش حتى لا يصاب بالدم الذي يسيل من قدمي اليسرى، وأتت جدتي بكأس من الماء ثم نظفت الجرح جيدًا وكانت هذه الخطوة الأولى -وهي الخطوة الأساسية في علاج الجروح- حيث يتم تنظيف الجرح بالماء لإزالة الأوساخ والشوائب التي قد تكون دخلت الجرح، وبعد ذلك أتت بقماشة ونظفت مكان الجرح وحوله وجففته جيدًا، وهذه هي الخطة الثانية التي قامت بها حيث أن تجفيف الجرح بعد تنظيفه مهم لمنع نمو البكتيريا في بيئة رطبة، ثم أحكمت لفّ الجرح بقوة حتى يتوقف الدم، ثم قامت ولبست عباءتها وخرجت قليلًا ونادت إحدى جاراتها، وبعد برهة من الزمن دخلت معها وأنا جالس في الصالة أتألّم، وإذا بالمرأة تقوم بتجهيز “المنقلة” التي تحمل الجمر وأشعلت فيها النار بشيء من الكاز وهو “الكيروسين” من علبة صغيرة ثم أغلقتها ووضعتها بعيدًا عن “المنقلة”، وأنا خائف لماذا تقوم بهذا العمل، وماذا تريد أن تفعل بي بالضبط، وبعد أن تم إشعال الجمر أتت بقماش أبيض وقامت بتجميعه على شكل لفّة ملتوية على بعضها، ثم أمسكتها بـ “المنقاش” الذي يستخدم لتحريك الجمر وحمله وأدخلت لفة القماش في النار حتى اشتغلت، وجدّتي كانت ممسكة بي وقد فكّت الرباط الأول الذي وضعته على قدمي، ثم قامت المرأة بإحراق قطعة القماش الملفوفة ووضعتها على الجرح لتطهيره من سموم المسمار وهذه هي الطريقة التي عرفت فيما بعد أنها كانت مألوفة في ذلك الزمن حيث الكيّ بالحرارة كان يُستخدم لتعقيم الجروح ومنع العدوى، لأن الحرارة العالية تقتل البكتيريا وتساعد على وقف النزيف، وبمجرد شعوري بشدة الحرارة صرخت صرخة عالية كدت أن أموت من حرارة الكي بهذه الطريقة، ثم رفعت المرأة يدها وهي ممسكة بالمنقاش الذي يحمل قطعة القماش المحروقة، وهدَأتُ على مضضٍ من شدَّة الألم.
قامت المرأة بلفِّ قدمي بقطعةِ قماش ثانية وأحكمت لفّها به حتى لا يصاب الجرح بأي تراب أو غبار أو أوساخ أو بكتيريا ومن ثم يشفَى شيئًا فشيئًا بعد تطهيره بالكيِّ الذي قامت به، وقالت لي:
-لا تفك هذا القماش الملفوف إلا إذا شعرت بتوقف الألم وبدأ الجرح بالانغلاق تمامًا.
فقلت لها:
-“إن شا اللهْ خالهْ إن شا اللهْ”.
لقد تعجبت من هذه الطريقة في علاج إصابة القدم بالمسمار، وقد شعرت بأن الألم الأول الذي أصابني أثناء الضربة قد توقف تمامًا، وبقيت اللفة في قدمي لعدة أيام ولم أقم بتغييرها إلا في بيتنا على يدَي أمي (أم عقيل)، حيث غيّرتها بشاش طبي حصلت عليه – ذات مراجعةٍ- من مستوصف سيهات الكائن في مدينة العمال الذي يسميه غالبية أبناء المجتمع بـ حي الطابوق.
وبعد مرور الأسبوع الثاني قامت بنزع الشاش وكان الجرح قد بدأ يلتئم ويرمّم نفسه بنفسه، إلا أنني صرت أحذر أثناء المشي وكنت أرفع الجزء الخلفي من قدمي اليسرى حتى لا أدوس على الجرح، ثم بعد أيام أخرى بدأت أدوس على كامل القدم حتى تلاشى الألم وشفي الجرح ولله الحمد، وعلى الرغم من أن الأساليب التقليدية كانت فعّالة في بعض الحالات، إلا أن التقدم الطبي – في زماننا هذا – يوفر طرقًا أكثر أمانًا وفعالية لعلاج الجروح وتقليل مخاطر العدوى والمضاعفات.
وهذه التجربة علمتني الكثير في الحياة، وأبسط ما تعلمته منها هو أن أحذر من مفاجآت السير في الطريق حتى لا أصاب بمسمار آخر أو زجاج مكسور، أو أيّ أذىً مشابه لذلك.
أما الفائدة الكبرى التي فهمتها بوجداني وترداد خواطري وتأملاتي هي أن الإنسان عليه أن يكون حذرًا في الحياة من كل شيء حوله وهو يسير على دربها ويسعى من أجل الوصول إلى مراميه وأهدافه، فدرب الحياة فيه الكثير من العقبات والعوائق والمطبّات التي قد تقعده عن السَّعي الحثيث والسير قدمًا لتحقيق تلك الأهداف النبيلة والغايات السامية بمختلف أنواعها وحسب توجهات الإنسان وتخصصاته في هذه الحياة، وهذا ما طبقته – قدر الجهد والمستطاع – في حياتي، ولا سيما في علاقاتي مع الآخرين ومنهم زملاء الدراسة، ثم زملاء العمل، وكذلك الأصدقاء والجيران والأقارب؛ ومن تربطني بهم علاقات في عالم الثقافة والفكر والأدب والكتابة الصحافية والتأليف وقرظ الشعر، حيث صرت أستخدم الأسلوب المرن في التعاملات مع الجميع، وكلٌّ أتعامل معه بقدره وبحسب شخصيته ونوع العلاقة التي تربطني به، وهكذا.
وبذلك يكون هذا المسمار الذي دست عليه في إحدى السنوات بالمرحلة الابتدائية قد آذاني من جهةٍ، إلا أنه نفعني أيضًا بتعلّم دروس الحذر والحيطة في السير على دربِ هذه الحياة من جهةٍ أخرى، ورحم الله جدتي “بت علي”، لأنها كررت عليّ قولها:
-امشِ وانتبهْ مِنِ الليْ حَولِكْ، ترَى الطريق مُو كِلّه سِوِي.
فاستمعت إلى نصيحة جدتي ووضعتها حلقة في إذني ولا تزال معلقة حتى يومنا هذا، إلا أنني جعلت من المسار إحدى علامات تجاربي في الحياة التي لا تُنسى، ومن خلال قراءاتي قد تأملت في توظيف المسمار في الأمثال الشعبية كل قوم بطريقته الخاصة، وأنا كذلك سأخترع مثلًا خاصًّا بي على مستوى حياتي منذ ذلك الحادث البسيط الذي أصابني من خلاله المسمار في قدمي اليسرى حتى تاريخ كتابة هذه السطور وهذا المثل هو:
– “اضربني يا مسمار حق اتعلَّم”.
والأمثال الشعبية التي وظفت المسمار كثيرة وسأذكر بعضها مع شيء من التأمّل والمقارنة مع تجربتي الشخصية، وشيء من المقاربة بين هذه الأمثال من حيث وجوه التشابه ووجوه الاختلاف، يقول المثل الشعبي: (وش حدك يا المسمار قال المطرقة) يضرب هذا المثل على الشخص الذي يجبر على عمل رغم أنفه وتحت ضغط، ولكن من خلال تجربتي الخاصة يمكنني أن أقول:
-“وش حدك يا قدمي قلت: المسمار اللي في الطريق”.
وحتى لا يكون هذا المسمار الذي استنتجت من خلاله حكمة جميلة استفدتها في مسيرة حياتي كـ “مسمار جحا”، أزوره بقصد مصلحة ذاتية أخرى من الآخرين، سأنفي عن نفسي ما يمكن أن يُظنّ بي بخصوص هذا الموضوع، فأنا صادق في قولي وصادق في التحدث عن ذلك المسمار الذي علمني حكمته الجميلة على لسان جدتي “رحمها الله”، لأنني عندما ذهبت من ذلك الطريق متوجهًا لزيارتها كانت زيارتي خالصة لوجه الله تعالى ولأنني أحب جدتي وآنس بالجلوس معها والحديث معها، إضافة إلى استئناسي بالحديث عن الأشياء في حياتي كالكتب والمجلات والصحف والأقلام و(الورق الحجازي) والدفاتر والحصالات والخواتم والمسابيح وقوارير العطر والأحذية والملابس وأشياء أخرى كثيرة، فهي تؤنسني بشكل رائع أفضل من مصاحبة الثقلاء ورفقاء السوء ومن يدّعي الصداقة والأخوة وهو لا ينظر إلا لمصلحته الذاتية وما يريده منك فإن حصل على ما يريد نسيك وتركك وراء ظهره، وفي تجاربي الشخصية بهذه الحياة الكثير من هؤلاء ولا أريد أن أفصل في فضحهم وكشف أحابيلهم لأنني لا أريد أن أعريهم أكثر مما هم يعيشون حالة العُري والفضيحة الحقيقية على مسرح هذا الواقع الذي نعيش عليه جميعًا ونؤدي أدوارنا كل حسب عقيدته وحسب ما يحمله من الإيمان والمعرفة.