هذا سريرُ جدَّتي
عقيل المسكين
– نقلت لي أمي “حفظها الله ورعاها” أنني عندما كنت طفلًا صغيرًا ربما في الرابعة أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل – لا أتذكر بالضبط-، وفي العام الذي تُوفّيت فيه جدتي أم منصور “رحمها الله”، قامت بعض النساء المؤمنات بتجهيزها في البيت، وقد أدخل بعض المؤمنين من المتطوعين لهذه الأعمال نعشًا خاصًا لنقل الجثمان من (البيت العود) إلى مقبرة سيهات الكائنة مقابل حي الخصاب بامتداد الشارع الذي يبدأ من حي الديرة متجهًا إلى آخر الحي من الجهة الغربية ثم إلى الشمال، وقد وُضع هذا النعش مستندًا إلى جدار المجلس من مدخل البيت العود الكائن في الجهة الشرقية من البيت، وقد تعجّبت من هذا النّعش، حتى إنني صرت أقف بجانبه وأمنع أيّ أحد من الاقتراب من هذا النعش، وإذا اقترب أي كان منه فأنا أبكي وأقول:
– ابتعدوا عن سرير جدتي.. ابتعدوا عن سرير جدتي.
لا أتذكر أيَّ شيءٍ من هذا الموقف الطفولي البريء إلا أنني أقرأ فيه غيرةً فطرية على جدتي المرحومة أم منصور، فأنا كنت أكنّ لها حبًّا كبيرًا في قلبي، خصوصًا وأنا الذي أحمل لها صحن الغذاء بشكل شبه يومي عندما كانت أمي تأمرني بذلك في أثناء وضعها الغذاء في الصحون المعدة لنا، وكنت بالفعل أقوم بالخروج من باب البيت العود الذي يطل على الأرض الصغيرة التي فيها غرفة وحيدة تسكنها جدتي أم منصور “رحمها الله”.
“ابتعدوا عن سرير جدتي”، أو بما في معناها بلهجتنا الشعبية السيهاتية تلخّص فلسفة خاصة هي راسخة في وجداني الطفولي الصغير، إنني أريد أن أقول للجميع:
اتركوا أُمّنا الكبرى ..
التي كانت سببًا لمجيئنا لهذه الحياة تنال قسطًا من الراحة في هذا السرير الوجودي، الذي هو عبارة عن رمز مادي ينقلها بطريقة ما لحياةٍ أُخرويّةٍ بَدَأتها للتوّ، وقد ذكرت لي أمي أنني كنت أقول تلك العبارات وأنا أبكي بحرقة.
اتركوا أمّنا الكبرى ..
التي كنت آنس بالجلوس معها وهي تعدّ الكُحل والسّعوط في غرفتها تلك، وكانت صديقاتها العجائز يشترين منها قوارير صغيرة ومكاحل نحاسية لكل مكحلة مِيل خاص بها، وكانت تتحدث معي حديث الكبيرات مع الأطفال الصغار بأشياء كثيرةٍ من الحنّية والعطف والحُبّ.
اتركوا أمّنا الكبرى ..
التي كانت بركة على جميع من يسكن في هذا البيت العود من الطابق السفلي والطابق العُلوي، لأنها كانت امرأة مؤمنة تحبّ الاستماع إلى مجالس العزاء التي تقيمها جدّتي أم ناجي في كلّ شهر محرم من كلّ عام هجري، وكذلك في أيام وليالي ذكريات وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ووفاة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ووفيات الأئمة عليهم السلام، كما كانت تجلس مع النساء أثناء العادة الأسبوعية مساء كل أحد ليلة الاثنين عندما يقرأ الملّا في مجلس الرجال القراءة الحسينية بعد أن يبدأ بمقدمة شعرية فصيحة ثم يتناول موضوعًا في الأخلاق أو في التاريخ وبعد ذلك يعرج على إحدى ذكريات مصائب الأئمة (عليهم السلام) إذا كان ذلك اليوم قريبًا من إحدى هذه المناسبات، وبعدها يعرج على كربلاء كما هي العادة لدى الخطباء الحسينيين؛ حيث يقرأ القصائد العزائية بالأطوار المتعارف عليها عند الخطباء، والملالي، وكل نوعٍ من أنواع الشعر الشعبي له طوره الخاص به.
اتركوا أمّنا الكبرى ..
التي آلت على نفسها إلا أن تسكن في أرض زوجها الحاج منصور المسكين “رحمه الله”، وهي القسم الجنوبي من الأرض التي ورثها لابنته الأولى وهي والدتي سلمى بعد وفاته، أما القسم الشمالي فكانت من نصيب ابنته الثانية الخالة فاطمة مع زوجها البحريني يعقوب الجمري مع أطفالها من الأولاد والبنات.
كانت طفولتي مفعمة بشيءٍ بل بأشياء من الآلام وإن كانت تمرّ على جميع الناس، إلا أنها كانت من الآلام المتتابعة وهذا ما لَفَتَ نظري كلّما كبرت شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت الآلام جزءًا لا يتجزأ من حياتي، ولا سيما أن حالنا المادي ليس على ما يرام وإن كان والدي يشرف على المنجرة التي ورثها مع إخوته وأخواته من والده الحاج مدن المسكين “رحمه الله”، إلا أنه شعر بمسؤولية عظيمة قد ألقاها الزمن على عاتقه، لأنه لو باع المنجرة والعمارة ووزع الإرث على الجميع حسب الشرع واكتفى هو بالعمل كنجار مستقل لتغيّرت الظروف التي كنّا سنعيش فيها في مثل هذا الحال الذي سيكون جديدًا ومغايرًا عما كان عليه بالفِعل.
ذلك السرير الذي أدهشني وألهمني الكثير من المشاعر، جعل من فلسفتي في الحياة أن لا تكون سريرية التفكير والتأمّل، بل تتميّز باليقظة والحيوية، لأن الراحة والدّعة هي التي ضايقتني في حياتي، وكم كنت أكره الرّاحة والدّعة إلا أنني استبدلت هذا الكُرْهُ البغيض بالتفكير العميق والتأمّل الثاقب في الوجود والحياة والمجتمع والواقع والذات، فالرّاحة بشكل ظاهري والرقاد بشكله الفسيولوجي لا يكون إلا في القبر كما ورد في بعض المصادر المعتبرة من الحديث القدسي: “يا بن آدم أكثر من الزاد إلى طريق بعيد، وخفف الحمل فالصراط دقيق، وأخلص العمل فان الناقد بصير، وأخّر نومك إلى القبور، وفخرك إلى الميزان ولذّاتك إلى الجنة، وكن لي أكن لك، وتقرب إليّ بالاستهانة بالدنيا تبعد عن النار”.
الروائياتي:
– جميل جدًّا أيّها المِسك هذا الربط الجميل بين ذلك الموقف الطفولي البريء الذي صدر منك، وكأنّك قد فطنت إلى رمزية (النعش) كما كان يفكّر فيه كبار المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء، من حيث الإنطلاق بالفكر من هذا الشيء المادي إلى آفاق أرحب في عالم اللانهايات أو العالم الآخر.. سواء لدى شخصيات عالمية أو شخصيات عربية قديمًا حديثًا، وأنت بإثارة هذا الموضوع الحيوي الجميل تذكرني ببعض الشواهد الأدبية من النصوص النثرية والشعرية التي تطرقت إلى مفردات الموت، والرحيل؛ وكذلك تطرقت إلى النعش بمعناه المادي أو معانيه المجازية، والنعش كرمز يحمل دلالات متعددة في الأدب والفكر والفلسفة. لدى المفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء.
النعش يمثل الانتقال من الحياة إلى الموت، ومن العالم المادي إلى العوالم الروحية أو اللانهائية، ويعد النعش رمزًا للتأمل في الفناء والخلود، وفي النهاية والبداية الجديد، فها هو سقراط يعد الموت موضوعًا للتأمّل الفلسفي؛ حيث يرى أن الموت يمكن أن يكون تحررًا للرّوح من قيود الجسد، مما يتيح لها الوصول إلى حقائق أعلى.
وها هو نيتشه في “هكذا تكلم زرادشت”، يشير إلى الموت كجزءٍ من دورة الحياة، حيث يعتبره بداية لتحوّل جديد إلى عالم آخر أوسع؛ وهو ضرورة لتجاوز الإنسان ذاته التي هي في عالم محدود وضيّق قياسًا لذلك العالم الآخر.
وها هو هايدغر: في “الوجود والزمان”، يتناول الموت كحقيقةٍ وجوديةٍ تجعل الفرد يواجه “العدم”، مما يحفز الإنسان على تحقيق ذاته وعيش حياة أصيلة، وهذا هو المعنى الذي أشرت إليه بالضبط أيها المسك.
وفي الأدب العربي والعالمي الكثير من الشواهد في توظيف الموت والرحيل والنعش والقبر، والمتنبي في شعره يعبر عن فلسفة الحياة والموت بتعمق، كما في قصيدته “إذا غامرت في شرف مروم”، حيث يشير إلى الفناء كجزء من السعي نحو المجد والخلود.
إذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرُومِ
فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ
فطَعمُ المَوتِ في أمرٍ حَقيرٍ
كطَعمِ المَوتِ في أمرٍ عظيمِ
وجبران خليل جبران في كتاباته، يستخدم النعش كمجاز لتحرر الروح من قيود الجسد كما في قصته “الأجنحة المتكسرة”، يتناول مفهوم الموت كجسر نحو الأبدية، أما في الأدب العالمي فنقرأ لـ إدغار آلان بو في قصيدته “الغراب”، حيث يستخدم رمزية النعش والموت للتعبير عن الحزن والفقدان والبحث عن معنى في عالم مليء بالظلام والشكوك، ونقرأ لـ جون دون في قصيدته “لا أحد جزيرة”، يعبر عن الموت كجزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية المشتركة، مشيرًا إلى النعش كرمز للوحدة الإنسانية.
النعش إذن كرمز يفتح أبوابًا للتأمل في معاني الحياة والموت والفناء والخلود، ويعكس هذا الرمز في الأدب والفكر والفلسفة الإنسانية محاولات لفهم ما وراء الحياة المادية ويدفع بالأفراد للتفكير في طبيعة وجودهم ومصيره، ووقوفك أيها المِسك عند نعش جدتك وأنت طفل صغير هو بالضبط نوع من الاستشراف الفطري من لغة الذات، لما يرتسم في عقليتك الصغيرة من معان تفكر فيها، وتصورات تنطبع في صفحاتك الخفية، وبالتالي تتطلّع إلى ما سوف يثيرك وتفكر فيه بعمق في قابل أيامك ومستقبل، ومن قال إن الطفل لا يعي هذه الحقائق، وقد وعيتها والدليل على ذلك هو بكاؤك أمام النعش، لقد وعَيتها أيها المسك ولكن بطريقتك الطفولية الخاصة.
05/06/2024م