أقلام

(ادعِيدِع) الذي أقلَقَ مُخيّلتي

عقيل المسكين

كانوا يُخوّفننا بـ (ادعيدع)، ولم يتم وصفه لنا بِدقة على الإطلاق، وإنما كانوا يقولون: هو جني أسود، وله قرنان على جانبي رأسه الضخم، ووجهه قبيح جدًا، وله أسنان كأنياب الذئب، ورجلاه طويلتان وقدماه كأنهما حوافر الحيوانات المفترسة لها مخالب حادة أقوى من مخالب الصقر أو النسر، ويداه قويتان إذا مسك بها أيّ أحد هشّمه تهشيمًا وحطّمه بِهما، أمّا صوته فهو كزئير الأسد إذا بطش، وكفحيح الأفعى إذا بدأ بالاحتيال لاصطيادِ فريسته، وكصوت الصرصار إذا اختبأ في الليل.

أتذكر أيام الصّبا أن والدتي كانت تخوّفتني به مرّة أو مرّتين في بيتنا العود بديرة سيهات قبيل التحاقي بالمدرسة الابتدائية وكذلك في السنوات الأولى من هذه المرحلة لِفرط ما أُبتَلَى بهِ من الشقاوة، ولم أكن أنا الوحيد الذي خِفت منه فإخوتي الصِّغار كانوا يخافون من هذا الكائن العجيب والمخيف في الآنِ ذاته.

ذات ليلةٍ استغرقتُ وقتًا طويلًا وأنا أتصفح مجلّاتي وقِصصي؛ أتهجأ حروفها وكلماتها بشيء من الصعوبة لكوني في السنة الثانية أو الثالثة –حسبما أتذكر-؛ وكنت أُعيد قراءة بعض القصص مرّتين أو ثلاث مرّات لحلاوتها وعذوبة موضوعاتها والدهشة التي تشعرني بها، وتجاوزت الوقت المسموح لي للسّهر مما استدعى ذلك أن توبخني أمي على هذا التصرّف الذي سيُؤخّرني عن الاستيقاظ صباحًا استعدادًا للذهاب إلى المدرسة، وقد لجأت إلى أسلوب التخويف بأن الجني (ادعيدع) سيخرج لي من بين طبقاتِ الظلام ويُخيفني لأسقط مرعوبًا من شدّة بشاعته والكم الهائل من القبح الذي يتّصف بهِ من أخمصِ قدميهِ لأُمِّ رأسه أو قِمَّةِ قَرنَيه، وبالفعل كنت أضع ذلك التهديد نصب عيني، ويأخذني تفكيري إلى هنا وإلى هناك، أما مخيلتي فإنها أصبحت كالورقة الطائرة يلعب بها الهواء فيأخذها تارة إلى جهة اليمين، وتارة إلى جهة اليسار، وتارة يرتفع بها إلى الأعلى وتارة يهبط بها إلى الأرض وهي هكذا على قلقٍ -لأن الهواء يلعب بها كيفما يشاء- ويتقاذفها كأنّه يتسلّى بها فلا يستقرّ لها قرار، فأُغلِق المجلة التي كنت أطالع فيها وأُطفئ النور، وأذهب إلى فراشي، وتدخل أمي لغرفتها بينما أنا في حالة تكاد لا توصف من الرّعب الشديد، فـ (ادعيدع) هذا لم يتركني أهنأُ بفراشي في تلك الليلة لأن أمي عندما كانت تخوّفنا به في كلّ مرة تصفه بشكل مختلف عن الشكل الآخر، وكأنه جنّي له ألف وجه ووجه وفي كل مرة أتصوره بأحد هذه الوجوه.

كما كنت أتصور شكل يديه وقدميه وباقي جسمه كتلك العفاريت التي نقرأ عنها في (سلسلة المكتبة الخضراء) التي نقرأ في قصصها وحكاياتها العجيبة أمثال هذه المشاهد عن الجن والجنيات والعفاريت والوحوش.

كما كنت أتصور هذا الجنّي البغيض من كلّ الأطفال كأولئك الذين قرأنا عنهم في مختصرات ألف ليلة وليلة، أو في بعض المغامرات والحكايات المصورة في بعض المجلات التي كنا نقرأها وقتئذٍ كمجلة بساط الريح التي كانت تصدر من لبنان، ومجلة سمير التي كانت تصدر من مصر، ومجلات أخرى، أو كتلك الشخصيات المبتدعة التي شاهدناها في أفلام الكرتون بالأبيض والأسود في تليفزيون الدور العُلوي من البيت العود، حيث نجلس بهدوء مع بعض إخوتي وأبناء وبنات عمّتي مَكيّة ومنهم زكريا وشعيب وضحى عندما يحضرون عند جدّتي أم ناجي –رحمها الله-، وأحيانًا يجلس معنا العم جعفر وهو يصغرني بسنة أو سنتين.

وفي تلك الليلة التي خوّفتني أمي بهذا المخلوق الغريب؛ وعندما أسلمت نفسي لسلطان النوم، لم يكن هذا السلطان ليأتيني بصورتِهِ الملائكية التي تعوّدنا عليها وخفت أن يكون هذا السلطان الجميل قد خاف أيضًا من (ادعيدع) نفسه، ولفرط حاجتي لأن يأتي إليَّ هذا السلطان المحبوب كأنني صرت أناجيه هامسًا:

أين أنت أيّها السلطان الجميل؟.. أيّها الملاك الوديع والكائن البديع، لماذا لا تأتي إليَّ لكي أرافقك على مركبة الأحلام الوردية المبهجة؟.. لماذا لا تربّت على كتِفَيَّ بِيَدَيك الناعمتين، وتُهدئ من روعي، وتودع في قلبي بعضًا من السَّكينة وتجعلني أشمّ من عطرك الأخّاذِ نفحاتٍ من الهدوء وهنيئاتٍ من الراحة والاطمئنان؟..

أتراكَ قد أزعجتك كلمات أمّي عن ذلك المخلوق البشع؟! ذلك الجنّي الذي أدخل على قلبِي الصغير هذه الهواجس المقلقة، والخواطر المرهقة، أتُراك قد لبثت في مقرّك البعيد عني ولم تحضر إليّ كعادتك في أغلب الليالي؛ لقد تركتني أعاني بين هذه الوِسادة التي أتعبتها مخاوفي ولم يُغمض لها جفن مثلي؛ وبين الظلام السارح خلف هذه النافذة المغلقة، وأنا أنظر إليها لعلّني ألمح من وراء زجاجها ظلال ذلك العفريت المفتول العضلات؛ وألاحظ قرنَيه اللذين يشبهان قرنَي ثورٍ هائج يتطاير منهما الشرر؛ وذيلُه الذي يتحرك بخبث كأنه ذيل شيطانٍ رجيم، وما لهاتين الأذنين تُنصتان لمواءِ القطط القريبة والبعيدة، وأصوات الصراصير المختبئة؛ وأفكّر في كلّ شيء موجودٍ خارج الغرفة وزوايا الحوش، كما يمرّ في ذهني كلّ تِلك الكُوَى والفتحات والثقوب المتوسطة والصغيرة المنتشرة بين الأساسات وبقايا تهديم الغرفة المجاورة لغرفة جدتي “أم منصور” –رحمها الله- في الجانب الغربي من البيت العود؛ لعلّ هذا العفريت قد اتخذ مخبئًا بينها ونحن لا نعلم عن ذلك شيئًا.

وما لهاتان الأذنان تنصتان لهبّات الهواء التي تحرّك النافذتين، إنها إما أن تُداعبهما أو تلهو معهما؛ فتحدث ظرفتا كلّ نافذةٍ منهما تلك الطقطقة بين فراغاتها؛ وكأنّ هذه الطقطقة الخفيفة همسات الشياطين أو مناوشات الجنّ بين بعضهم البعض وهم يتلامزون ويتهامزون، أو كأنّها هسهسة مخلوق غريب في ظلام الليل، يتحرك بخفة وهدوء حذِر.

استيقظتُ صباحَ ذلك اليوم، استعدادًا للذهاب إلى المدرسة على صوتِ أمّي، وهي تناديني، بينما بقية أخوتي الصغار فهم على مراقَدِهم الإسفنجية يلتحفون ببطانيات الصوف؛ وكل منهم في سابع نومة -كما نقول-، إلا أنني قمت وأنا كُلّي خجل حيث أسرعت – وكأنني هاربٍ من شيء ما- وأخذتُ ملابسي النظيفة من دولابي الصغير مُتوجهًا للاستحمام، وعندما خرجت، كانت أمي قد رسمت على ثغرها ابتسامة جميلة، بدّدت كُلَّ مخاوفي ولله الحمد، وسامح الله صديقنا القديم (ادعيدع) إنه ساهم في ترسيخ هذه الذكرى بذهني الصغير وقتئذٍ، حتى هذا اليوم وقد انتهيت من عِقدي السادس.

– إنكَ تُذكرني بمقولة للروائي محمد شكري حيث قال: “هذه هي مهمة الفنّ، أنْ تجمّل الحياة حتّى في أقبح صورها”، وأنتَ تتذكر هذا الفصل من الرعب والخوف في بدايات مرحلة طفولتك الثاني وأنت في سنتك الثامنة أو التاسعة، وتعتبر هذه الذكريات شيئًا جميلًا تستأنس به، والدليل على ذلك هو عدم نسيانك لهذه الصفحات من حياتك بل وتثبتها في كتاباتك عن سيرتك الذاتية، مع إن مظاهر الخوف وآثارها على النفس وعلى الجسد بشكل عام ليست شيئًا جميلًا وإنما هي عوارض مُتعبة وقد تسبب الإجهاد للجهاز العصبي ذاته، إلا أنك قاومت ذلك بشيء من الذكاء الفطري لديك ومن ثمّ تعوّدت على أمثال هذه الحكايات والقصص الجالبة لهلعِ الذات وارتعاد الفرائص، واشتعال كانون التوتّر في شخصيتك، وهذا ما تطرق إليه جورج أورويل في روايته الشهيرة 1984 عندما قال: “إنَّ ألدّ أعدائك هو جهازك العصبي، وما يعتمل في نفسك من توتّر قد يورطك في عملٍ لا تحمدُ عقباه”، ولكنك أيها “المسك” انتصرت على هذا العدو بل وروّضته في بقية مسيرة حياتك؛ إلا الخوف المنطقي والذي تعالجه بالمنطق ذاته، حيث الفكر يعمل بشكل ذاتي لديك للانتقال من حالة الجهل إلى حالة العلم، وحالة الشك إلى حالة اليقين، وهكذا.

– نعم صحيحٌ ما ذكرته أيها “الرّوائياتي” بنسبة وتناسب –كما يُقال-، ولكن هناك حقيقة نسيت أن تتطرق إليها وهي كون الجنّ حقيقة ثابته، وقد تطرق إلى ذلك القرآن الكريم، والسنة الشريفة، وهذه الحقيقة جزء لا يتجزأ من الواقع، وهي إحدى مصاديق القوانين الطبيعية في عالمنا هذا، ولجول فيرن الروائي المشهور برواياته العجيبة كلمة حول ذلك حيث يقول: “قد نستطيع التغلّب على القوانين البشرية، لكن القوانين الطبيعية لا يمكن مقاومتها”، كالرياح والعواصف، وشدة الحر، وشدة البرد، والبراكين والزلازل، وهياج البحث وطغيان المدّ، وكذلك وجود مخلوقات أخرى لم نرها ولم نعهدها – بشكل مجمل- كالجن والعفاريت والشياطين وما إلى ذلك، وهم محبوسون عن مخالطتنا والتعايش معنا إلا باستثناءات خاصة وضئيلة –لا مجال هنا للتطرق إليها-.

– نعم .. ما ذكرته مُكمّل لحديثي، أحسنت.

17/05/1446هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى