يُوزّع الحلويات بالتّساوي
عقيل المسكين
– أخبرتني أمي “حفظها الله ورعاها” أن والدها الحاج منصور بن علي بن صالح المسكين “رحمه الله”، وقد توفّاه الله قبل اقترانها بوالدي بِعدّةِ سنوات؛ أي قبل عام 1384هـ، عندما كان يعمل نجارًا في شركة آرامكو بالظهران برفقه أخيه الحاج مدن وهو جدي لأبي، وكان جدي الحاج منصور في بعض الأيام – ولا سيما عندما كان يقبض الراتب الشهري – يُحضر معه بعض الحلوى والكعك التي تُباع في بعض المتاجر والمحلات المخصصة لعمال أرامكو من السعوديين وغيرهم من الأمريكان والأوروبيين، وعندما يحضر في (الحوش) بالبيت العود بالقسم الذي كان يسكن فيهِ بأرضهِ مع أمهِ (أم منصور) الحاجة/صالحة المسكين “رحمها الله”، ومع قرينته جدتي لأمي الحاجة/ زهراء “رحمها الله”، كان يتجمّع بين يديه بناته (سلامة) و(فاطمة)، والأطفال من أبناء وبنات أخيه الحاج/ مدن، فهم يلتفّون حول عمّهم الحنون كالتفاف وُريقات الوردة بمركزها؛ مُشكلين بذلك حميمية عائلية بين جيلين، جيل الآباء والأعمام والجيل الجديد من الأولاد والبنات؛ وأولاد وبنات الأخ، وهو الذي يُبجل الصغير قبل الكبير؛ ويتعامل مع الجميع بكلّ احترام وتقدير، ويُشتهر عنه في أمثال هذه الحالات أنه كان يُخرج مِيزانًا صغيرًا ثم يقوم بوزن قطع الكعك والحلوى بالتساوي وبعد التأكد يقوم بإعطاء كلّ ذي سهمٍ سهمه حتى لا يظلم أيّ أحدٍ منهم، وكان يُقطّع الحلوى والكعك على عدد جميع الحضور، وكانوا يتعجبون من هذا الفِعل الذي ترك في أذهانهم معنىً تطبيقيًا لمفهوم العدالة والإنصاف، كما رسّخ في عقولهم جميعًا المعنى الواقعي للعدل في التعامل مع الآخرين، ولا سيما تعامل الأب مع زوجِهِ وأولاده من بنين وبنات، وكذلك تعامل العمّ مع زوجِهِ وبناته ومع أولاد أخيه من بنين وبنات فلا فرق، ورغم أن هذا التصرف وبهذه الدّقة المقصودة في هذا العطاء من المستحبات وليس من الواجبات، إلا أنه ما أراد القيام بذلك إلا ليربّي الجيل الجديد علَى قيمة العدل والإنصاف في العطاء المادي، والتعامل المعنوي، وقد تعجبت من هذه الصفة في جدّي لأمي وأكبرت فيه هذه الصفة التي قلّما اتصف بها الكثير من الناس، سواء من مُجايليهِ أو حتى في عصرنا الحاضر- بخصوص اعتماد الميزان المذكور في العطاء-، ولكن الدنيا لا تخلو من أمثال هؤلاء الذين يُضرب بهم المثل في التعامل العادل والمنصف مع الآخرين سواء كانوا من الأقارب أو من عامّة أبناء المجتمع.
وهذا ما وجدته أيضًا – ذات يوم – في “البيت العود” بالدور العُلوي وكنت جالسًا مع جدّتي الحاجة “أم ناجي” عفيفة المحسن “رحمها الله”، وكانت للتوّ قد فَرَغَت من تعبئة البرتقال والتفاح والموز في أكياسٍ بالتساوي على عدد أولادها وبناتها وهم أعمامي وعماتي الساكنين معها، حتى لا يتنازع أي منهم على هذا النوع من المؤونة التي يوفرها والدي “رحمه الله” لجميع أفراد العائلة في البيت العود، بالدور السفلي، والدور العلوي، وهذا التَّصرف ينمّ عن حبٍّ صادق للجميع من قبل الجدّة، وحتى تزرع فيهم جميعًا فكرة المساواة فيما بينهم لو نقصت الفواكه في مكان حفظها بالمطبخ، أو في الثلاجة القديمة التي لا زلتُ أذكر شكلها حتى اليوم، وإن كنت قد نسيت ماركتها أو موطن صناعتها، وهي لا تقوم بذلك إلا لتعلم أولادها أهمية حبّ الخير لبعضهم البعض وأن لا يطمع الأخ أو تطمع الأخت في حاجيات بقية الأخوة أو الأخوات، وحتى لا يأكل أحدهم أكثر من الثاني، وهذه الطريقة انتبهت إليها من جدّتي أم ناجي ولاحظتها تقوم بها عدة مرات من خلال جلساتي معها، وعرفت لماذا هي تقوم بذلك حتى لا يحدث أيّ تنازع بين الإخوة والأخوات في المؤونة والمعيشة اليومية، وقد لا يقوم بذلك الآباء أو الأمهات الذين لا يتحملون معيشة الكثير من الأطفال معهم، ولكن العوائل التي تعيل عدة أولاد وعدة بنات فإن من وسائل التربية لديهم هي هذه الطريقة في تقدير المعيشة وضبط الاستهلاك من المؤونة والطعام بشكل عام، وكم هي طريقة جميلة وعادلة في تعامل الآباء والأمهات مع جيلهم الجديد.
وهناك أسلوب آخر في ترسيخ قيمة العدل في تربية الأطفال وذلك بتعويدهم على حبّهم ومداراتهم لبعضهم البعض بغرس هذا الخُلق في أنفسهم بطرقٍ ما يتعودون عليها فتصبح لديهم ثابتة في وجدانهم وفي نفوسهم وتنطبع بشكل تلقائي في تصرفاتهم اليومية، وهذا ما كانت أمي تربينا عليه منذ الصّغر والدليل على ذلك ما قامت به أختي (منى –ولدت عام 1387هـ-) التي تليني في الترتيب حسب العمر، حيث ذهبت ذات يوم وهي طفلة صغيرة لجدّنا (أبي ناجي) الحاج مدن المسكين فقام بإعطائها قطعة نقود وقال لها:
– هذا مصروفك من جدّك.
فأخذت قطعة النقود بيدها اليُمنى، ووضعتها في جيبها الصغير، ثم مدّت يدها مرة أخرى، فتعجب الجدّ وابتسم، ثم سمعها تقول:
– “أخوي عقيل بَعَد”.
فأدخل يده في القلنسوة التي كان يلبسها وأخرج قطعة نقود مماثلة للأولى ووضعها في راحة يد أختي الصغرى، وقال:
– وهذا مصروف لعقيل.
فأُختي مُنى منذ صِغرها تربّت على هذا الخُلق الكريم وهو أن تهتم بإخوتها من البنين والبنات، وكذلك هناك مواقف أخرى بهذا الصدد منذ طفولتنا، وقد تعلمنا هذه الخصلة من والدتنا “أم عقيل” سلامة بنت منصور المسكين “حفظها الله”، ويبدو أن أمي اكتسبت هذا التعامل متأثرة بوالدها الجدّ الحاج منصور بن علي بن صالح المسكين “رحمه الله”، وكذلك تعلمته من كثرة قراءتها في مجالس العزاء وأداء رواية الحديث والتي تكون قبل التعزية في كل مجلس من المجالس اليومية في ذكرى محرم؛ أو في إقامة التعزية بذكريات وفيات الأئمة (عليهم السلام)، على مدار العام، لأن الرواية تذكر الكثير من أخلاق وآداب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وآل البيت (عليهم السلام)، من كرم وعطاء وبذل وعدالة وإنصاف.
الروائياتي:
– صفة العدل من أهم الصفات التي ينبغي لكل إنسان عاقل وملتزم بمبادئ دينه وقيمه، وبمناسبة تطرقك لهذا الموضوع من خلال واقع جميل طبّقه جدك لأمّك –رحمه الله-، أريد أن أورد لك بعض المقولات والحكم من شخصيات وروائيين عالميين وعرب تحدثوا فيها عن أهمية العدل مع الذات؛ ومع الآخرين من حولهم؛ ومع المجتمع وذلك حتى تنتشر هذه الصفة وتكون عادة حقيقية على مستوى الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة، والمجتمع الصغير في الحيّ، وبالتالي المجتمع المدني في المدينة، ومن ثم تصبح هذه الصفة عامة في الأمة بشكل أعم، ومنها ما قاله المهاتما غاندي: “العدل أن يكون في القول كما في الفعل، ولا ينفصل عنه، فمن يسعى في تحقيق العدالة يجب أن يكون عادلًا مع نفسه أولًا”، أما أبو الحسن الشاذلي فيقول: “إذا أردت العدل، فابدأ بنفسك، وإذا أردت الخير، فابذل جهدك في إسعاد الآخرين، فالتوازن بين الحقوق والواجبات هو أساس العدالة”، أما الروائي الشهير تولستوي فيقول:” ليس هناك عظَمة حيث لا يوجد بساطة، طيبة، وصدق العدل يبدأ من البساطة في التعامل مع الآخرين، ومن الطيبة التي تسكن في قلوبنا”، وهذا بالفعل ما فعه جدك منطلقاً من فطرته النظيفة، ويقول جبران خليل جبران: “العدل هو أساس الملك، وهو الذي يبني الأمم، وعلى الإنسان أن يكون عادلاً مع نفسه ومع غيره، حتى يكون جزءاً من بناء مجتمع قوي ومتماسك”، والروائي نجيب محفوظ يقول: “العدل هو أن تكون قدوة حسنة لمن حولك، أن تعطي كل ذي حق حقه، وأن تعمل على نشر الخير والإنصاف في مجتمعك الصغير والكبير”، وهذا ما فعله بالضبط جدك مع أطفاله وأطفال أخيه من بنين وبنات، ويقول جون لوك: “العدالة هي أن تعطي لكل فرد حقه، دون تمييز، فهي القانون الأول للطبيعة”، ويقول الفيلسوف ابن رشد: “العدل هو أساس السعادة الفردية والجماعية، وهو الذي يحفظ توازن المجتمع ويضمن استمراريته”، أما الأمين العام للأمم المتحدة السابق، كوفي عنان فيقول: “السلام لا يعني غياب الحرب فقط، بل يعني وجود العدل، الاحترام، وفرص متساوية للجميع”، وطه حسين يقول: “العدل هو أساس التقدم، فالأمة التي تقوم على العدل بين أفرادها هي الأمة التي ترتقي وتزدهر.”
أما أمير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) فيقول: “العدل أساس الحياة”، وتصرف جدك مع الأطفال في (البيت العود) من الأبناء والبنات ومع من يوجد من النساء أيضاً كجدتك لأمك وجدتك لأبيك؛ وزوجته “بت علي”، هذا التصرف العادل يربي فيهم هذه الصفة بطريقة تطبيقية مباشرة، ويترك فيهم أثراً إيجابياً لقيمة العدل في حياتهم الأسرية أولاً وبالتالي الاجتماعية بشكل أعم، وأظنّ من خلال معرفتي بك قد التزمت بهذه الصفة أيضاً، فأنت تسجل في دفترك الخاص – على حدّ علمي- كل الحقوق التي لك والتي عليك أليس كذلك؟
– نعم صحيح فهذا واجب عليّ، تعلمته من والِدَي.
الروائياتي:
– ثم إن أجدادك بتصرفاتهم هذه معكم وأنتم أحفادهم وأسباطهم إنما أرادوا أن يدخلوا السعادة على قلوبكم الصغيرة، تماماً كما قال مارك توين: “أفضل طريقة لإسعاد نفسك هي محاولة إسعاد غيرك”، ولا شك أنهم كانوا سعداء جداً بهذه المناقبيات الجميلة في شخصياتهم وهم إنما يجرون بها تلك السعادة أيضًا إلى قلوبهم الكبيرة حيث “إن السعادة تتحرك باتّجاهك في اللحظة التي تبدأ فيها نشر السعادة نحو الاخرين” كما قال مارك توين أيضًا.