مناجاة محب
زكي السالم
أهديها لحبيب من أغلى الناس أبي علي الحاج حسين الجاسم والذي ترحل عن هذه الحياة قبل أيام قليلة :
أبا علي أعلم أنك في ملكوتك الأسمى تسمع همسي ، وأدري أنك في عليينك الأرقى تتسمعُ بوحي ، وأوقن أنك في فردوسك الأعلى تتحسس مناجاتي.
فاسمح لي أن أبثك بعضًا من لواعج ، وقليلًا من أحزان ، ونتفًا من شجن ؛ فقد حاولتُ كثيرًا أن أحمل كل أشجاني بثقلها ، وأسايَ بحرارته ، فلم تحملها حروفي ، وأشفقن منها ؛ وأنّى لها ذلك وثقلها تنوء به الجبال الرواسي ، وحَملها يُعجز السماوات والأرض.
أبا علي لم نعهد منكَ قسوة ، ولم نرَ منك جفوة ؛ فلماذا حين قررت أن تقسو غادرتنا بسفرٍ دون توديع ، مخلفًا وراءك طوفانًا من لوعة ، وحين أزمعت أن تجفو مرة منذ عرفناك فاجأتنا برحيلٍ بلا استئذان تاركًا خلفكَ جبالًا من أسى ، ومفجرًا دموعًا من حُرقة . وهديرًا صاخبًا من شجن دافق .. أهكذا وفاؤك لأحبتك ، ولم نعهدك يومًا قليل الوفاء ، وهكذا جفاؤك لإخوتك ، ولم نعهد للجفاء طريقًا إلى قلبك.
أبا علي .. أصارحك بشيءٍ قد يضحكك ، وقد يرسل بين شفتيك بسمة محب ، وإشفاق حانٍ : أني منذ تلقيتُ نبأ وفاتك الزلزال ، وأنا أجدُّ في تذكر موقف لك أي موقف ولو مرة واحدة يبدو غير محبب ، أو أي تقصير فيه منك معنا أو مع غيرنا ليساعدني على إطفاء ولو بعضٍ من حرقة ، أو تخفيفِ شيء من براكين مشتعلة بداخلي لهذا الرحيل المر. صدقني وبالله وتالله لم أجد في بياض سيرتك ولو نقطةً رمادية واحدة ، ولا في صفائك ولو بعض كدرٍ يتيم يعينني على تحمل هذا الجبل الجاثم على صدري ، الذي ناءت بحمله ضلوعي. هذا الصفاء في سيرتك كنهر رقراق ، وهذا البياضُ في قلبك كبنفسجة نديّة ، وهذا الحنو علينا كأب رحيم ، وهذا الاحتضان الرابت على أكتافنا احتضان أم رؤوم ، لم يجفف دمعةً في عيوننا ، ولم يُسكت أنة في صدورنا ، ولم يُزل غصة في حلوقنا .
كيف أنسى أننا جميعًا كلما داهمتنا هموم ، أو فاجأنا تكدر طرنا بقلوبنا قبل أجسادنا إليك نلقيها في حضنك فتخففها عنا بما يملكه قلبك الرحيم من حنو ، وما يحتويه صدرُك الواسع من احتواء ، فنعودَ مغسولةً قلوبُنا كقاع نبع زلال ، إذ لا هم ولا تكدير ولا أسى.
كيف ننسى تلك الطيبة الكبيرة ، التي كنا نعاتبك عليها كثيرًا لعظمها وخروجها عن المألوف ، ونسألك التخفيف منها كي لا تخنقك ، ولكنك تأبى وتصر عليها. أتذكر يا أبا علي كم مرةٍ أُسيء فهمُك ، وتلقيتَ من البعض قسوة في تعامل بسبب مواقف كنت أنت المحق فيها ، ولكنك أيضًا كنتَ المبادر بالاعتذار ، والمسرع في طلب العفو ، باتصال هاتفي ، أو بعَنوة لمنزل من قسا لتعتذر منه وتسأله أن يعود كما كان. وهنا أقطع أن كل من يقرأ هذه السطور النازفة من محبيك ولصيقيك عنده من هذه الأمثلة الشيء الكثير.
آآه – يا أبا علي .. كم كنتَ وفيًا مع أحبابك ، وبارًا بأهل صفوتك ؛ كنتُ إذا تأخرتُ عن مجلسك ولو قليلًا تلاحقني باتصال سائلًا مطمئنًا وأحيانًا ضاغطًا علي لأنهي ارتباطي وأجيئك مسرعًا. أتذكر يا أبا علي .. هذا الموقف الضاحك ، والذي يعبر عن وفاء منقطع النظير منك ، وعطف أخوي صادق : تتذكرُ نقدي اللاذع لمن يضع في ( بروفايل ) واتسابه صورة غيره كصورة ابنه أو والده ، وكنت أشدد أن ( البروفايل ) لم يوضع إلا لتضع صورتك أنت لا غيرك فيه ، وأشدد لائمًا على مَن يضع صورة مشتركة مع أحد لا يُعرف فيها من صاحب الواتس !، وكنت متفضلًا عليّ بوضع صورتي معك في بروفايلك الواتسابي ، فتجيبني حاسمًا ( ما راح أشيلها لو يصير اللي يصير واذا بتزعل ازعل هههه ) وكل هذا وفاءٌ صادق لي أثقلت به ظهري عن رده.
آآه يا أبا علي .. كم الرحيل قاسٍ ، وكم فراق الأحبة يطيح بأعتى الرجال ، ويفتك بأجمد القلوب ، ويخلعُ باب التصبر.
أدري بأنك مطلعٌ الآن على ما نحن فيه من ألم ، وأعلم يقينًا أن لو كُشف عنك الغطاء، لبذلت كل نفيسٍ وغالٍ كي لا نعيشَ هذا الشَجن الأليم ، وهذه الوحشة القاتلة ، ولا أظن أن هناك وحشة تمر على المرء كفراق أحبته ، ولا عتمةً في الحياة كحلكة ترجل عزيز لك استجابةً لموتٍ متوحشٍ ، متيقنين بمالاقاته يومًا من الأيام ولكننا نهرب منه هروبنا من أسد ضارٍ ونسلي نفوسنا بتكذيب هذه الملاقاة ، وكما قال المتنبي :
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إِلى الكذبِ
حتى إِذا لم يدع لي صدقُه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وكم شرق بنا الدمع – أبا علي – مراتٍ ومرات حتى كاد يختقنا.
أبا علي .. وأنت في ملكوتك الأعلى ، مطلع على ما نحن فيه ، يصعبُ عليّ أن أخفي دموعي عنك ، كما بذلت جهدي أن أخفيها عن أخيك وعضدك أبي عبد الله ، كل ذلك رغبةً في تجفيف ولو قطرة من سيل دموعه ، وتخفيف شيء من ألمه ولوعته ، لكن هل أستطيع وأنا أنزف هذه الحروف أن أخفي دموعي عنك ، وأنت تراها تتحدر على خدودي كسيلٍ منهمر ، وتتفجر في قلبي كطوفان كاسح.
صدقني يا أبا علي – وأنا وحدي هنا – حاولت كتمها لم أستطع ، حاولت إخفاءها عنك ففشلت ، بذلت جهدي أن أكتب هذه الكلمات خالية من دموع ما تمكنت.
آآه يا أبا علي .. كم لغز الموت أعيا أنضج العقول عن حله ، وفك شفرته ، وسبر عمقه ، وكشف كنهه ، نعلم به واقعًا لا محالة ولكننا نجهل معناه.
وكم رددت بيني وبين نفسي بيت الجواهري :
لغز الحياة وحيرة الألبابِ
أن يستحيل الفكرُ محضَ ترابِ
حين رأيتك مسجىً بيننا لا حراك تبديه ، ولا ضحكة تطلقها عودتنا عليها بكل لقاء ؛ تذكرت ضحكاتك الفارات من قلبك الكبير قبل ليلتين فقط .. ليلتين فقط يا أبا علي وأنت في أحسن حالاتك تضاحكنا الواحد تلو الآخر وتمازحنا واحدًا واحدا ، وكأنك تقول لنا : تزودوا مني فإنكم لن تروني بعدها .. ساعتها توقعنا كل شيء إلا أنها تكون ضحكاتك الأخيرة ، وأن كل هذي هي مشاعرُ مودع في سفرٍ لا عودة منه.
آآه يا أبا علي .. أول مرةٍ أشعر أن الحروف أسرعُ مني ، وأن دفق المشاعر أسرع منها ؛ فما عساي أن أقول في هذه العجالة التي لن تجفف – مهما طالت – هذا الشلال المتدفق من دموع، وهذه النيران المشتعلة من مشاعر لاهبة ، ولواعج متقدة. ولكني أعاهدك أننا لن ننساك من دمعة ، ولن نغفل يومًا عن دعاء لك ، ولن تغادر ذكراك العطرة الطيبة قلوبنا حتى نلقاك عند رب رحيم والسلام عليك حبيبي وأخي وصديقي.
*حتى هذه اللحظة أقنع نفسي بأن نومي ثقيلاً ، وكنت أحلم وقد طال حلمي* .
*فهل ياتُرى أنا فعلاً في حلم أم في علم* .
*تمنيت لو كنت نائما حالما ليصبح ما حصل أضغاث أحلام وعزيزنا أبا علي باقٍ على قيد الحياة في سلام ، نراه ونرى ضحكاته التي تحتضنا في مجيئنا لمجلسه وتودعنا لو إستطعنا المغادرة. ففقيدنا يأنس بوجود الجميع ولايدع أحداً يغادر دون توديع* .
*لكن الأمر لله الواحد الأحد . فبعد قراءة وسماع مناجاة أخي أباعدنان التي أزاحت عني سواتر آمالي المتمثلة في أن يكون ما أعيشه كان خيالاً . لكن ومع الأسف أصبحت الفاجعة التي عشناها في الأيام الماضية لفقد أخينا أبو علي حقيقة واقعة فعلاً ولم تكن في الخيال* .
*فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ولَا حَوْلَ ولَا قُوَةَ إِلَا بِاللَّهِ العَلِيِ العَظِيمْ*.
*فقدنا أخاً عزيزاً علينا فتح لنا قلبه قبل مجلسه ، ننهل الخلق منه كما لو كنا في مدرسه*
*مرَحِبا بالصغير والكبير ، ومبديا لهم كل تقدير*
*رحمه الله تعالى رحمة الأبرار وحشره برفقة محمد وآله الأطهار عليهم السلام* .
*أحر التعازي والمواساة لأخينا ابوعبدالله وعائلته ولأبناء المرحوم ولأسرته ولكافةأعزاءه وذويه*
*والعزاء موصولاً لكم أنتم إخواني الأعزاء* .
*عظم الله لنا ولكم الأجر والثواب وأحسن لنا ولكم العزاء* .
*الفاتحة لروحه الطاهرة مع الصلوات*.