كنتُ أظنّها أُمّي
عقيل المسكين
ماذا تكتب؟
يقول لي (الرّوائياتي)، وهو جالسٌ على الكرسي المقابل لطاولة القراءة في المكتبة الداخلية بطابق مكتبة نادي عرش البيان الأدبي “لهواية الأدب” ببيت الديرة.
فقلت له:
-إني أكتب موقفًا حصل لي في الصف الخامس أو السادس الابتدائي حيث كنت جالسًا على حافّة رصيف العمارة أمام مدخل المنجرة مباشرة، وكان والدي يعمل داخل المنجرة مع بقية العاملين معه، وكنت بجانب دراجتي الـ (ريلي 24) الحمراء، وإذا بي أشاهد على جهة اليسار من بعيد جهة الطريق الفرعي المؤدّي إلى دكان السّكيري امرأة مُتغطية تمامًا بالسواد وغِشوايتها على رأسها وهي متجهة من الطريق القادم من البيت العَود، وتخطّت الشارع المسمّى بشارع السوق لتدخل الطريق المؤدي إلى دكان السكيري في القسم الآخر من الديرة، فقلت في نفسي:
– هذه أمّي، إلى أين ستذهب؟
فتركت دراجتي بجانب المنجرة بعد تثبيتها في العمود الأوسط للعمارة وركضت متجهًا صوبَ أمي، وصرت وراءها مباشرة وهي تدخل ذلك الطريق الفرعي، وشرعت في مناداتها:
-أمّي أمّي أين تذهبين؟.
فلم تأبه لندائي، ولم تردّ على سؤالي، وتقدمت إلى الأمام دون أن تلتفت إليّ، وصرت أكرر قولي:
-أمّي أمّي أين تذهبين؟.. ولماذا لا تردّين على سؤالي.
ولا تزال تمشي، وربما نطقت ببعض الكلمات لم أسمعهما جيدًا إلا أنني أعتقد أنها كانت مُتعجبة من ندائي وإلحاحي بطرح هذا السؤال عليها، فتعجبتُ من هذه التمتمة التي كأنني سمعتها ولم أسمعها في الآنِ ذاته، وهذا مثار عجبٍ ظل منقوشًا في ذاكرتي لسنين طويلة، إذ كيف للأمّ أن تتنكّر لابنها وهو يناديها؟!.
وكيف لا تجيب على أسئلته وهو يسألها؟!..
وكيف لا تلتفت إليه وتنظر إلى وجهه مُستبشرة وفرحة به وهو يُقبِل عليها بكلّ طفوليّته وبراءته واحتياجه الفِطري إليها وإلى دفء أحضانها وحنان لمسات يدَيها؟!..
وكيف لا تفتح غِشوايتها لأنظر إلى وجهها الجميل الذي تعودت عليه كلّ ذرة في جسمي منذ أول يومٍ نظرت فيه إليه فوجدته بابًا للرحمة التي تشبثت فيها طوال سِنِي حياتي وإلى أن أخرج من هذه الدّنيا؟!
فقال لي (الرِّوائيَّاتي):
– ذكرتني بمسرحية البير كامو (سوء تفاهم) وهي “مسرحية كُتبت سنة 1943م، وهي عمل رمزي، يسعى من خلالها «كامو» إلى محاولة الفهم!. كتب «كامو»: (إنَّ شقاء البشر يتولد عن عدم اتخاذهم لغة بسيطة، لو أنَّ بطل «سوء تفاهم» قال: أنا ابنك، لكان الحوار ممكنًا، ولما كانت المأساة، ما دامت قمة كلّ مأساة تكمن في صميم فكرة البطل، ففي الواقع المأساة دائمًا سوء تفاهم بالمعنى الحقيقي للكلمة”، وأنا أرى في هذا المشهد الذي جرى لك مع هذه المرأة أمرًا معاكسًا، فلو أن هذه المرأة أيها (المسك) أجابتك من أول نداء لما شعرت بهذا الإحباط الكبير وهذه التساؤلات الطفولية البريئة التي صدمتك.
“وتجسد شخصية «مارتا» في مسرحية (سوء تفاهم) دور الإنسان المحبَط، أو المعادل الموضوعي للإنسان الذى يحمِل عبء العالم، حيث تحمل حزنًا وألـمًا أكبر من عمرها، ملامحها قاسية طول الوقت، وفى حوارٍ، بكلمات راقية من المسرحية، كما في بعض أجوائها، وهي من ترجمة الأديب المصري الكبير «إدوارد الخراط»، حيث تسأل الأمُّ الابنة «مارتا» أن تبتسم مثل كلِّ الفتيات اللواتي في سنّها: لم أركِ أبدًا تبتسمين.. ما أشّد صلابة هذا الوجه الذى لكِ يا «مارتا»! فتقول «مارتا»: أمّي، عندما نجمع الكثير من المال، يكون بوسعنا أن نغادر هذه الأراضي، التي لا أفق لها، ونترك خلفنا هذا الخان، وهذه المدينة الممطرة، وننسى بلادًا لا ظلال لها.. يوم نكون أمام البحر الذى طالما حلمت به.. سوف ترينني أبتسم! وسنجمع الكثير من المال حتى يستطيع المرء أن يحيا حرًا أمام البحر!… والمسرحية في رمزيتها: أمّ تحلم، إنه حلم امرأة عجوز تتوق إلى السلام أو التديّن، أو إلى شيء من الانطلاق.. هو الصراع النفسي داخلها..! وابنة تحلم بالثراء والحرية.. وابن مغترب، كان غائبًا ثم عاد ليموت بسوء فهم! والخادم العجوز.. ومكان الأحداث هو فندق في مكانٍ مهجورٍ، وهم في معظم الأوقات يقتلان زوّاره من أجل المال؛ إلى أن يصير الضحية الابن.. لتحدث المفارقة، بل الصدمة!. ويحدث إذًا سوء التفاهم عندما يكون الصمتُ بديلَ التواصل.. ذلك الفهم الخاطئ، لكثيرٍ من الأقوال والأفعال معًا، في حياتنا”.
وقد جُرحتَ أيها (المِسك) بسبب عدم قيام تلك المرأة بكشف وجهها عليك وأنت طِفل ولم تبلغ بعد، حيث كان بإمكانها أن تريك وجهها وتبتسم، وتقول لك بكل اختصار: أنا لست أمك، وتعلم من خلال ذلك أنك اشتبهت وأخطأت في تشخيص أمك من بعيد إلى أن اقتربت منها وصرت تناديها وتطلب منها أن تلتفت إليك وترد على نداءاتك وأسئلتك؛ والآن أكمل قصتك، وماذا بعد ذلك.
فأرد عليه قائلًا:
– ولكن البير كامو كان عابثًا في تأليفه هذه المسرحية، وهو أحد رواد الأدب العبثي، وما ذكرته في قصتي لا يمتّ إلى العبث بشيء، بل هو مشهد واقعي لا يزال عالقًا بل منقوشًا في صفحات ذاكرتي عن أيام الطفولة.
فيقول الروائياتي:
– نعم صحيح.. ولكنني ذهبت إلى جزئية البساطة في التفاهم السريع، حتى لا يحدث هناك أيّ (سوء تفاهم) كما حدث في مسرحية البير كامو إلى درجة أن الأم قتلت ابنها دون أن تعرف الحقيقة، وأنت كدت أن تموت من الأسى وهذه المرأة لم تخبرك أنها ليست أمك، كأنكما في مشهد درامي حزين.
والآن أكمل ماذا حدث بعد ذلك؟.
– ولا أزال أشاهدها تمشي وأنا خلفها ولم تلتفتّ إليّ ولو بمقدارٍ بسيط، ثم انعطفتْ يسارًا داخل هذا الطريق الفرعي وكأنها تقصدُ منزلًا قريبًا من الجهة اليسرى في هذا المنعطف، وبالفعل توقفت عند أوّل بيتٍ وفتحت الباب ودخلت، وإذا بها ترفع غِشوايتها لي وتنظر إليّ مبتسمة، فانفرجت أساريري، من جهة لأنها ابتسمَت، وخجلت خجلًا شديدًا لأنها لم تكن أمي، بل كانت إحدى النساء اللواتي كُنّ يعرفن أمي وربما شاهدتها في مجلس “التعزية” ذات يوم في الدَّور الأرضي من (البيت العَود) في إحدى مناسبات القراءة النسائية التي تقيمها جدتي (أم ناجي)، ولم أتمالك نفسي وأنا أنظر إلى هذه المرأة حتى أطلقت لرجلَيّ العنان بالجري والعودة السريعة إلى منجرة والدي وأنا أحمل في نفسي كل تلك المشاعر إلا أنها تبدَّدت كالسّراب وكأنها لم تكن، لأنني – ولله الحمد – عرفت أن أمي لا تزال مكانتها في قلبي كما هي، ومكانتي عندها لا تزال كما هي، ولكنني عندما عدت إلى البيت نظرت إلى أمّي وأنا أبتسم وكلّي شغف باحتضانها، ولما رأتني كذلك ابتسمت وقالت لي:
-ما بك يا عقيل، ولم هذه الابتسامة؟.
فأخبرتها بِكلّ شيء فتعجبت من هذا التصرف الذي بدَر مني وضحكت بينما كان حنانها يُحيط بنا من كلّ جانب أنا وبقية إخوتي.
11/12/1445هـ