أقلام

كنتُ أهوى الخطّ، ولكن!

عقيل المسكين

– لم نحظ بمدرس خطّ بارع يعلمنا بحق قوانين خط الرقعة والنسخ والديواني والكوفي والنستعليق والعثماني والفارسي وغيرها من أنواع الخطوط، وإنما كانت المهمة موكلة لمدرس مواد اللغة العربية، فيقول لنا: افتحوا كراسات الخط واكتبوا التمارين للدرس الجديد بنفس القوانين الخطية المكتوبة في الدرس نفسه، وإن قام بشرحها فإنه يشرحها لنا كما هي في الكراسة، وقد لاحظنا أن المعلم نفسه ليس خطاطًا مُحترفًا، وهذا نقص كبير كان موجودًا في المدرسة وقتئذٍ، وأنا أتحدث هنا عن السنوات التي درستها في صفوف هذه المدرسة منذ 1394هـ حتى 1399هـ، ولعل هناك في صفوف أخرى من له خبرة في الخط، ولذلك يمارس أثناء عملية الشرح مهارته في شرح قواعد هذه الخطوط وفنياتها.

وقد كنت ألاحظ بعض المدرسين عندهم هذه المهارة ويتم الاستفادة منهم في كتابة اللوحات الكبيرة الخاصة بأسبوع الشجرة أو اليوم الوطني وما أشبه، أو للمناسبات الأخرى في النصف الأول والنصف الثاني من السنة.

وقد حاولت أن أحسّن خطي، لذلك اشتريت في مرة من المرات كراسة خط خارجة عن المنهج كانت تباع في محل خاص بالشارع العام في منتصف حي الطابوق، يعود لعائلة “المتروك” بسيهات، وبالفعل صرت أمرّن نفسي بشكل ذاتي بأداء التمارين في صفحات هذه الكراسة، ولكنني للأسف لم أجد من يرشدني، وأصابني الحياء من طلب ذلك من المعلمين في المدرسة، لأنني كنت مشغولًا بالدروس والواجبات، وكذلك القراءة في القصص والمجلات التي كنت أتابعها وقتئذ، لذلك لم أعط لمهارة الخط حقها ولم أصبح خطّاطًا محترفًا.

وفي سنوات لاحقة كنت أستعين بالخطاط حسن، ومحله يكون خلف عمارة البيات التي تقع خلف المخبز العصري، وذلك لعمل قرطاسة مُفرّغة الحروف باسم فريقنا الحواري لكرة القدم حتى نرشّ هذا الاسم على صدور فانلات الفريق، وكذلك كان يخط لنا الأرقام، لنرشّها بصبغ الرشّ على ظهور الفانلات فيصبح فريقنا مُميزًا بذلك، وكنا نجمع المصاريف من المنتسبين لفريقنا جميعهم، ومن طريف ما أتذكره أنني في أحدِ مواسم لعب كرة القدم بشكل يومي في العطلة الصيفية – أثناء المرحلة الابتدائية – قد قمت بنفسي برشّ الفانلات باسم الفريق وكان اسمه وقتئذٍ –الجوهرة-، وكنت قد دفعت قيمة الاشتراك، وعندما سلّمت الفانلات لكابتن الفريق أبَى أن يُعطني إحدى الفانلات وأعطاها لشخص آخر، ولا أعلم لماذا؟!.. وبسبب ذلك عقدت العزم أن أترك هذا الفريق وأذهب لفريق السّحاب، ويُسمى أيضًا (فريق اعيال احمود)، بالديرة.

ولو كنت أنا الخطّاط وقتئذٍ لحصلت أنا على أجرة خطّ هذه القرطاسة التي فُرِّغت حروفها والقراطيس الأُخرى التي فُرّغت أرقامها لخطّ اسم الفريق وأرقام الفانلات، ولكن كما يُقال في مثلنا الشعبي: “الحيا قطّاع رزق”.

الروائياتي:

-كان من الأجدى أن لا تخجل من المعلمين وتخبرهم بحبّك للخطّ، ويكون ضمن هوايتك الجميلة القراءة، والكتابة، حيث يمكنهم أن يعرّفوك بالأُستاذ المختص بالخطّ والذي تُنسّق معه إدارة المدرسة لخط اللوحات الخاصة بالمدرسة، وكانت هذه فرصة كبيرة لك لتتعلم من شخص مُتمكن ومحترف، ولكن خجلك وحياءك هما اللذان منعاك من ذلك، وفي الأدب العربي، والعالمي الكثير من النصوص والكلمات الجميلة شعرًا ونثرًا عن هذه الظاهرة في الإنسان الخجول الذي يُضيّع على نفسه فرصًا كان بإمكانه أن يستغلها بكسر حاجز الخجل والحياء، ومن ثم الإقدام لخوض هذه الهوايات الجديدة والممارسات النافعة لبناء شخصيته، وكان بإمكانك فيما بعد احتراف الخطّ بأنواعه كأحد الفنانين المختصين، ولكنك لم تفعل، وللمفكرين والفلاسفة عبر التاريخ حكم أيضًا في هذا المضمار، وعلى سبيل المثال نقرأ في الأدب الحديث في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، تصويرًا للآثار السلبية للخجل والحياء في شخصية البطل سعيد مهران، ومن خلال ذلك انحرف عن الجادة، حيث إن الخجل والحياء هما العدوان الكبيران لأية موهبة في الإنسان، إنهما يكبلان الإنسان ويعوقانه عن الإبداع، وبالتالي سيقول الشخص الذي تمرّ عليه السنوات ولم يُقدم ولم يتطور في حياته: “لقد كنت أشعر بالخجل والحياء أمام الناس، وكنت دائمًا أتعثر في خطواتي الأولى، ومع مرور الزمن أدركت أن الخجل والحياء هما مرضان يجب التخلص منهما.”

أما من أقوال الفلاسفة والأدباء والمفكرين، فيقول الفيلسوف اليوناني سقراط: “الحياء والخجل هما عقبة كأداء في طريق الحكمة.”

ويقول الكاتب الفرنسي جان جاك روسو: “إن الشعور بالخجل والحياء يحرم الإنسان من العديد من الفرص، قد تمر السنوات وتضيع المواهب لأن أصحابها لم يجرؤوا على ممارستها”، ويقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “الحياء والخجل هما السجن الذي يبنيه الإنسان حول ذاته، وإذا لم يجرؤ على كسره فإنه سيظل محبوسًا في حدود ضيقة طوال حياته”، ويقول الكاتب الأمريكي ديل كارنيجي: “الخجل قد يكون سجنًا يسجن فيه الإنسان قدراته ومهاراته. إن التغلب على هذا الشعور هو الخطوة الأولى نحو تحقيق الأهداف واكتشاف المواهب”.

وهذه النصوص والاقتباسات تعكس كيف يمكن للخجل والحياء أن يكونا عائقًا أمام الإنسان يمنعانه من استكشاف وتنمية هواياته ومهاراته على مر السنين.

– كلّ ما ذكرته صحيح، ولكنني “أزيدك من الشعر بيتًا” – كما يقولون- وهو يتعلق بعنصر الحاجة، حيث أنني لم أشعر بحاجة مُلحّة للتخصص في فنّ الخطّ اختصاصًا احترافيًّا، وإنما كنت أريد هذا الفن لتكملة لشخصيتي بعد التخصص الرئيس في كتابة مختلف أجناس الأدبي العربي كالشعر والمقالة والرواية والقصة، وأنت تعلم بقانون الحاجة ويمكنني أن أشير إلى مقولة قرأتها في أحد المواقع الإلكترونية لجول فيرن ومفادها: “لا تنحسر الحضارة أبدًا، فقانون الحاجة دائمًا ما يدفعها إلى الأمام”، والحضارة لم تتوقف منذ ذلك الوقت الذي تمنيت أن أكون خطّاطًا حتى يومنا هذا، ثم إنني لم أكن محتاجًا لممارسة مهنة الخطّ كوظيفة بعد التخرج من الدراسة ولم أكن أطمح إلى ذلك بالتحديد، لأن طموحي منذ بدايات دراستي أن أكون متوجّهًا للكتابة الأدبية بشكل عام، ولو وُفقت في إتقان الخطّ بأنواعه لكان ذلك نورًا على نور.

21/01/1446هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى