معنى أنْ لا تحملَ مصروفًا
عقيل المسكين
في المرحلة الابتدائية (1384هـ/1399هـ) كنت في بعض الأيام أذهب إلى المدرسة دون مصروف، وإنما أحمل معي صمولة فيها بعض الجبن والمربى، أو بيضة مسلوقة مع بعض قطع الطماطم وقد رششت عليها القليل من الملح ورشة أو رشتين من الشطة، وفي بعض الأيام إذا استيقظت متأخرًا قليلًا أنسى أن آخذ وجبتي هذه معي، أو لا يكون عندي الوقت الكافي لإعدادها، فأذهب للمدرسة وأبقى جائعًا إلى الظهر، وقد اعتدت على ذلك حيث كنت أدّخر مصروفي الذي أحصل عليه في حصالتي الخاصة؛ التي أغضب منها في بعض الأيام حتى أسميها بـ (الحصالة المسرفة) لأستطيع شراء القصص والحكايات ومجلات المغامرات التي كنت أتابع بعضها بشكل أسبوعي، وبعضها بشكل شهري.
وفي بعض الأيام لا أستطيع الحصول على المصروف لأن الحالة المادية لعائلتي كانت على غير ما يرام، فتمرّ بعض الأيام أذهب فيها إلى المدرسة بإحدى أنواع السندويتشات تلك فكان الأمر عندي أمرًا عاديًا سواءً حصلت على المصروف أو لم أحصل عليه، ولكن الشيء الذي يحزّ في نفسي هو عدم قدرة بعض الطلاب على إحضار أي أكل من بيتهم لتناوله في الفسحة، كما إنهم لا يحضرون معهم أي مصروف لأيام كثيرة من سنتهم الدراسية، وعلمت فيما بعد بأنهم من العوائل الفقيرة وهم من ذوي الدخل المحدود جدًا، وإذا وُجد بعض الدخل لديهم فإنه يذهب لمصاريفهم الهامة جدًا؛ وقد يُضحي والدهم بعدم إعطاء أبنائه حتى المصروف المدرسي لعدم قدرته على ذلك، أما الوضع المجمل لعائلتي فكان حال الوسط، بحيث تأقلمت مع أية حالةِ ضنك أو حالةِ ضيقٍ تمر بها العائلة، وكنت عندما أرى أحد الطلاب الفقراء وهو يصبر على عدم تناول أي طعام في الفسحة ولا أراه يذهب إلى المقصف كبقية الزملاء أشعر بالحزن، وأتذكر أنني كنت أتقاسم ما لدي من السندويتشات مع بعض هؤلاء الزملاء، وفي بعض الأحيان أشتري له من المقصف حيث كنت في بعض الأحيان أحضر بعض المال من حصالتي الخاصة فأستطيع شراء سندويشة إضافية مع علبتين من العصير واحدة لي وواحدة لزميلي، فأكون قد استضفته على وجبة إفطار دون أي منٍّ أو أذىً على الإطلاق وإنما بشعور الأخوة المتكاتفة والود المتبادل بيننا ليس إلا.
والأعجب من هذه الحالة أنني في بعض الأيام أكون في حالة إفلاسٍ تام فلا حصالتي تحتوي على بعض القروش، ولا جيبي أيضًا، وأنا الآن في المدرسة وقد بدأت الفسحة، ويلاحظني ذلك الصديق الذي كنت قد ضيّفته قبل عدة أسابيع على وجبة إفطار أراه يخرج إلى المقصف ويعود بسندويشتين وعلبتي عصير فأفطر معهُ بكل حِبيّة وارتياح، ونحن ننظر في عيون بعضنا البعض ونتذكر موقِفَينا الموقف السابق معه، والموقف الحالي معي، فيقول لي والابتسامة مرتسمة على ثغره:
– “يوم لك ويوم عليك”.
فأقول له:
على ما يبدو هذه هي الحياة بشكل عام، والله يستر على القادم.
ولكنني في بعض الأيام أبقى جائعًا للظهر فأشعر بنوعٍ من الارتياح النفسي، وكأن الصوم الجزئي هذا هو بمثابة تطعيم صحي للجسد، وقد تذكرت قول الروائي إبراهيم الكوني عندما قال: “خواء الطبل يبدع لحنًا، وخواء البطن يبدعُ عقلًا”.
وهذه إحدى أهم فوائد الجوع، والصوم الجزئي أو الكلي لنهاية اليوم حتى أذان المغرب، وكما جاء في حكم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): “إذا امتلأت المعدة انطفأت الفكرة”.
الروائياتي:
– موضوع المصروف اليومي للطلاب من آبائهم، موضوع جميل وشائق لما فيه من الذكريات الحميمة مع الوالدين والأسرة بشكل عام، ولهذه الذكرى المدهشة تواجدها في الأدب والفنون، ولها العديد من الأمثلة في الأعمال الروائية، والقصصية، والمسرحية، والسينمائية، والتلفزيونية، والإذاعية، ومن أمثلتها في الأدب رواية (الطريق إلى مكة) لنجيب محفوظ، حيث يذكر المصروف المدرسي كجزء من الحياة اليومية للطلاب، وكذلك في روايته “أولاد حارتنا” حيث يظهر المصروف المدرسي كعامل مساهم في تكوين شخصيات الطلاب، وهو يؤثر بشكل إيجابي على من يُعطى المصروف، ويؤثر بشكل سلبي على من يُحرم منه، أما في رواية “البيت الكبير” لإحسان عبد القدوس: يُستخدم المصروف المدرسي لتوضيح العلاقات الاجتماعية بين الطلاب، ونقرأ في الأعمال المسرحية، مسرحية “الطلعة” لمحمد عبد الحق حيث يُظهر المصروف المدرسي كجزء من المشاكل التي يواجهها الطلاب، وكذلك في مسرحية “الطلاب الثلاثة” لأحمد باسم يُستخدم المصروف المدرسي لتوضيح الصداقة والتعاون بين الطلاب، أما في الأعمال السينمائية والتلفزيونية فنشاهد “الناس والفيل” (فيلم، 1972) حيث يظهر المصروف المدرسي كجزء من الحياة اليومية للطلاب، وكذلك في “الطوق والأسورة” (مسلسل، 1982) ويُستخدم فيه المصروف المدرسي لتوضيح العلاقات الاجتماعية بين الطلاب، أما في “الجسر” (مسلسل، 2013) يُظهر المصروف المدرسي كجزء من المشاكل التي يصطدم بها الطلاب، وإليك بعض الأمثلة في الأعمال الإذاعية ففي “حكايات الطلاب” (برنامج إذاعي) يُستخدم المصروف المدرسي لتوضيح قصص الطلاب والمشاكل التي تواجههم، وكذلك في “الطلاب الثلاثة” (برنامج إذاعي) يُظهر المصروف المدرسي كجزء من الحياة اليومية للطلاب، أما في الأعمال القصصية فنقرأ “قصص المدرسة” لمحمد صادق الذي استخدم المصروف المدرسي لتوضيح قصص الطلاب والمشاكل التي تقف كحجر عثرة أمام طريقهم، ونقرأ أيضًا “الطلاب الصغار” لأحمد زكي حيث يُظهر المصروف المدرسي كجزء من الحياة اليومية للطلاب، وما ذكرته أنت أيها (المسك) من خلال تجربتك الشخصية يُضاف إلى قصص الواقع في هذا الموضوع، وهو جزء من سيرتك الذاتية، إضافة إلى كونِه جزء ممن تجربتك الذاتية في تكوين شخصيتك الأدبية بشكل عام.
05/01/1446هـ