رافقت أمي لِعَينِ افنيطيس
عقيل المسكين
– في السنوات الأولى من المرحلة الابتدائية في مقر سكننا بالدور السفلي من البيت العود بحي الديرة، لم تكن عند أمي غسالة ملابس، وأتذكر ذلك جيدًا لأنها في كثير من الأحيان تقوم بتغسيل الملابس في الحمام في طشت معدني كبير خاص بغسيل الملابس، وكم كنت أشاهدها وهي تجهد نفسها في ذلك الحمام وهي تقوم بتغطيس ملابسنا وبطانياتنا وشراشفنا في ذلك الطشت الكبير، ثم تنثر عليه من علبة (صابون التايد) الذي كان مشهورًا في تلك الأيام، إضافة إلى بعض (الكلوركس) إذا كانت قد وضعت في الطشت كل قطعة بيضاء من أنواع الملابس حتى تتنظف جيدًا، وكانت تدعك بيديها كل هذه الملابس وترفعها ثم تدعكها جيدًا بيديها وتعصرها عدة مرات، وهكذا حتى تأتي على جميع القطع من كومة الملابس التي لديها، وقد أصيبت يديها ببعض الحساسية من جراء تكرار هذا العمل اليومي، حتى راجعت مستوصف سيهات وكتبوا لها مرهمًا خاصًا تضعه على يديها حتى تذهب تلك الحساسية التي سببت لها ما يشبه الحروق في كلتيهما، وكان ذلك بسبب عدم لبسها للقفازات الخاصة، وربما لم تكن متوافرة أمثال هذه القفازات وقتئذٍ في الصيدليات؛ أو هي موجودة ولا تستطيع والدتي توفيرها لضيق ذات اليد.
وفي بعض الأيام كانت أمي ترافق بعض النساء للذهاب إلى عين افنيطيس في الديرة الجنوبية من بلدتنا سيهات، وفي عين افنيطيس كان الماء يتدفق بشكل قوي من الحنفيات التي يتم فتحها وإغلاقها حسب الحاجة، وكان يوجد العديد من النساء يحضرن أطشاتهنّ على رؤوسهن حيث يضعن على رؤوسهن طوقًا دائريًا من المطاط القوي خُصص لهذا الغرض بحيث تضع المرأة طشتها على هذا الشيء المطاطي الدائري فيثبت على رأسها وهي قد جاءت إلى العَين أو انتهت من غسيلها وتستعد للذهاب إلى بيتها، كذلك والدتي كانت تضع هذا الشيء الذي يشبه الطوق الدائري – والذي لا أتذكر اسمه الآن – على رأسها وتضع الطشت وهو مليء بملابستنا وكنت تعطيني كيسًا صغيرًا فيه علبة الصابون وقارورة صغيرة من (الكلوركس)، وعندما نصل لتك العَين كانت أمي تمارس غسيل الملابس، أما أنا فكنت أستحم بجانب إحدى الحنفيات. واللطيف أنني كنت أستحم دون أن أخجل من النساء الموجودات لأنني كنت طفلًا صغيرًا وقد اعتدت على ذلك ولأنني أيضًا برفقة حارستي وحافظتي بعد الله وهي أمي – حفظها الله وأطال في عمرها -.
هذه الذكريات الجميلة قد حُفِرت في جدران ذاكرتي ولا يمكنني نسيانها أبدًا، وهي تمثل لي في هذه الحياة فلسفة التعامل مع الماء الذي كان متوافرًا عبر العيون الارتوازية في سيهات وفي كل قرية من قرى القطيف وصفوى والمنطقة بشكل عام، وقد كان الماء صديقًا للجميع ولا يمكنه أن يُؤذينا لأنه من الأساس قد منحنا الحياة، كما لا يمكنه أن يُضيّق علينا معيشتنا أو يفرض علينا ثمنًا باهضًا للحصول عليه لأنه يتعامل معنا برحمة وحياة مصداقًا لقوله تعالى {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، حتى ألِفنا هذا الصديق الذي لا نستطيع أن نعيش بدونه، ولا يستطيع هو أن يعيش بدوننا لأنه كما علمت بعد ذلك يحيا لأجلنا فهو أحد مصاديق ما جاء في الأحاديث القدسيات ان الله يقول: “عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي”، فهذا الماء متوافر في بيوتنا من عيون الماء التي كان الأهالي في كل حيّ من أحياء سيهات يشتركون فيها لتمديد الماء لبيوتهم وكان هذا الاشتراك بمبالغ رمزية جدًا بحيث يستطيع كل إنسان دفع هذا المبلغ دون أي ضنك أو ضغط على ميزانيته حتى لو كانت بسيطة، وقد علمت فيما بعد أن بعض أهالي مدينة سيهات يمتلكون بعض السجلّات الخاصة بهذه العيون وخزانات المياه التي يشترك فيها أهالي كل حي من الأحياء. وذكر لي هؤلاء أن المبالغ بالفعل كانت رمزية لتسيير عمل المكينة التي تعمل بالديزل – وقتئذٍ- من صيانة ووقود وتشحيم، إضافة إلى بعض الترميمات لعين الماء نفسها وللخزان التابع لهذه العين.
أما عين افنيطيس فهذا هو اسمها وهو اسمه مشابه لمنطقة في الكويت اسمها بنفس الاسم الفنيطيس، وهي منطقة من مناطق محافظة مبارك الكبير في الكويت، وقد سميت بهذا الاسم لوجود خزان ماء صغير فيها اسمه الفنيطيس، ونظرًا لعدم توافر مياه عذبة بالكويت سابقًا كان هناك من يجلب هذه المياه من شط العرب عن طريق السفن إلى الكويت، وكانوا يصبون هذه المياه عند وصولهم للشاطئ بخزانات فكان الخزان الأول كبيرًا، والخزان باللغة العربية فنطاس، وكان الخزّان الثاني صغيرًا، وعادة أهل الكويت التعبير عن الصغير بزيادة الياء فكان يطلقون اسم خزيّن أو فنيطيس، كذلك تسمية عين افنيطيس في سيهات ربما جاءت من هذا الباب أيضًا، لأن لعين افنيطيس أيضًا خزّان خاص يمتلئ من العين الارتوازية التي بجانبه.
والكثير من جدّاتنا وأمهاتنا لديهنّ ذكريات عن هذه العَين، ولعل الكثير من الأبناء الذين أصبحوا آباءً وأجدادًا لديهم أيضًا الكثير من الذكريات عن تعاملهم مع هذه العين، ومرافقة جدّاتهم وأمهاتهم، وهذه الذكريات هي بمثابة ممارسة التعلم باللعب، وقد استفدت شخصيًّا من هذا الجانب التعليمي، لأن والدتي – حفظها الله- كانت تُكثر من إرشادي، بأن لا أمسك بها جيدًا أثناء الاستحمام، حتى لا أتزحلق بسبب الصابون، أو أهمية الالتفات إلى كيس أغراضنا حتى لا يسقط من الجدار المجاور للحنفية التي تقوم والدتي بفتحها للبدء بتغسيل الملابس في ذلك الطشت، كما كانت ترشدني إلى أن أبقى بجوارها ولا أبتعد عن العين حتى تطمئن على نظافتي وعدم توسخي بالتراب، حيث كانت الطرقات المجاورة لهذه العين كلها طرقات ترابية، ويوجد من الصبية من يلعب فيها بعض الألعاب، كما كانت تنصحني بعدم الاقتراب من النساء الأخريات المشغولات بغسيلهنّ أو بتحميم أبنائهن من باب عدم إشغالهن أو النظر إليهن، وكانت هذه النصائح والإرشادات بمثابة دروس في الحفاظ على أصول السلامة، ودروس في الحفاظ على النظافة الشخصية، ودروس أخلاقية في احترام النساء الأخريات.
وهكذا ينتهي بنا الوقت في عين افنيطيس، فتقوم أمي بتغسيل الملابس في ذلك الطشت الذي تحمله على رأسها، وأقوم أنا بالاستحمام ولبس ملابسي النظيفة، فأعود مع أمي من ذلك الطريق الذي يقطع الديرة الجنوبية لوسط الديرة حيث نمر بالعديد من الطرقات والأزقة حتى نصل للبيت العود، وأنا أحمل معي مزاجًا مُرتاحًا، وأكون في نفسية عالية للمذاكرة من جهة، وكذلك للاطلاع في مجلاتي الجميلة وقراءة بعض القصص، وممارسة بعض هواياتي الأخرى.
وعلى ذكر الماء ونعمة الماء الذي خلقه الله عز وجل لكل الكائنات والمخلوقات في هذه المعمورة، هذا الماء أصبح في الثقافة العالمية من ضمن الأزمات التي تعاني منها شعوب العالم كلها، وفي بلادنا تم تنظيم هذه الخدمة عن طريق مصلحة المياه، كما تم فرض رسوم شهرية تكون متناسبة مع نسبة الاستهلاك الشهري لكل وحدة سكنية، وهذا شيء طبيعي تفرضه الحضارة وتطورها، والمملكة لا تزال في تطوّر وتوسع مستمر، وأمثال هذه الخدمات يتم تنسيق توفيرها للجميع دون استئثار أحد على أحد، ولله الحمد، وبما أننا نُواجِه كدولة وكشعب هذه الأزمة العالمية – أزمة المياه – فعلينا أن نحمد الله على قيام حكومتنا الرشيدة بتوفير هذه الخدمة لكلّ الشعب في كلّ مدينة وقرية وهجرة وفي كل منطقة ومحافظة ببلادنا العزيزة، وهذا يعني ديمومة النّعم وتوفيرها بسهولة ولله الحمد والمنّة.
الروائياتي:
ما تطرقت إليه أيها المسك من هذه الذكريات البسيطة/ الجميلة، يمكنني أن أضيف إلى كل ما ذكرته أن اللعب في عيون الماء له ذكريات جميلة جدًا في أذهان الكثير من الناس، وفي كل مكان تتوافر فيه هذه العيون، حيث يمارسون السباحة واللعب والتسلية في مرحلة الطفولة في هذه العُيون، وعادة تكون بالمزارع وأراضي النخيل التي يمتلكها بعض من يمتهن أعمال الزراعة والاتجار بالفواكه والخضروات والتمر، سواء في المملكة أو بقية دول الخليج أو في كثير من البلدان العربية الأخرى، وما قمت بذكره من ذكريات خاصة مع والدتك، هو بحدّ ذاته شيء جميل وانعكاس طبيعي لحنان الأم مع أولادها، وهنا سأتطرق إلى بعض الأمثلة التي كتبها الروائيون في رواياتهم والقصاصون في قصصهم عن ممارسة السباحة واللعب لمختلف أنواع الشخوص في هذه الأعمال السردية، سواء من الأدب العربي أو الأجنبي، والأدب والأجنبي يتضمن العديد من المشاهد التي تصف لحظات اللعب في الماء والسباحة كجزء من تجارب الطفولة، وغالبًا ما تكون هذه المواقف محملة بالحنين إلى الماضي أو تحمل معاني رمزية تعكس براءة الحياة ومتعتها، ففي “النخلة والجيران” لـ (غائب طعمة فرمان) من العراق يصف في روايته الحياة البسيطة في الأرياف العراقية، حيث الأطفال يلعبون حول الأنهار والجداول، وفي هذه الرواية يبرز أحد المشاهد للأطفال وهم يسبحون في النهر المجاور للمزارع، تعبيرًا عن براءتهم وفرحهم بمتعة الطبيعة، وهذا الموقف كان يرمز إلى الهروب من صعوبات الحياة اليومية نحو لحظات الطفولة الجميلة.
وكذلك في “الأيام” لـ (طه حسين)، وهي سيرته الذاتية يصف ذكرياته عن قريته في صعيد مصر، ويتحدث عن المياه في الترع والنيل، وعن تجربة السباحة في الصغر وكونها تجربة محورية في حياة الصبية، تترافق مع مشاعر الانتماء إلى الطبيعة والقرب من الأسرة والجيران.
وفي رواية “أن تُولد من جديد” لـ (ثروت أباظة) من مصر، نجد في هذه الرواية التي تتناول الحياة الريفية، العديد من مشاهد السباحة في الجداول كجزء من حياة الطفولة السعيدة، وتجسد علاقة الإنسان بالماء كرمز للتطهير والانطلاق.
وفي “شرق المتوسط” يتناول (عبد الرحمن منيف)، في هذه الرواية ذكريات الطفولة في القرى الصغيرة بالمملكة، حيث يُظهر منيف مشاهد لعب الأطفال في عيون المياه والبرك الصغيرة في المزارع، كجزء من تفاصيل حياة البساطة والانسجام مع البيئة الطبيعية.
وفي الأدب الأجنبي نقرأ لـ (مارك توين) من الولايات المتحدة روايته الشهيرة “مغامرات توم سوير”، وهي واحدة من أشهر الروايات التي توثق طفولة مفعمة بالمغامرات، هناك مشهد ساحر يصف السباحة في نهر المسيسيبي، حيث يلعب توم وأصدقاؤه ويمرحون، والسباحة هنا ليست مجرد نشاط ماتع بل تعكس الحرية والتمرد على الحياة التقليدية.
وكذلك في رواية “في الطريق” لجاك كيرواك، من الولايات المتحدة أيضًا، نلاحظ أن هذه الرواية مليئة بالمشاهد التي تصف السفر والحرية، وفيها لحظات تُظهر السباحة كطريقة للراحة والاستمتاع بالمغامرة، خصوصًا في الأنهار الصغيرة التي يعبرها الأبطال خلال رحلاتهم.
وقد تطرقت أيّها (المسك) إلى جنبة اللعب بالماء وهو غالبًا يرتبط بتحسس معنى الحرية، والعودة إلى البساطة، والانفصال عن تعقيدات الحياة، كما تطرقت ضمنيًا في كلامك عن تلك الذكرى القديمة في عين افنيطيس إلى تحسين المزاج وتجديد النفسية، والمتفلسفون أطلقوا على ما يقارب هذا المعنى بالتطير الروحي والبداية الجديدة، لذلك فإن العديد من الروائيين الذي تطرقوا لأمثال هذه المشاهد سواء في السواحل أو البحيرات أو في الأنهار أو في عيون الماء، بالنسبة للروائيين في دول الخليج – على سبيل المثال- تحمل هذه المشاهد دلالات رمزية أعمق إلى جانب كونها تعبيرًا عن ذكريات طفولية بريئة.
18/11/1445هـ