أقلام

تأنيبٌ طُفولي

عقيل المسكين

– في إحدى سنوات المرحلة الابتدائية وفي أحد الأيام خرجنا من (البيت العود) مع إخوتي الصغار نلعب في الشارع المقابل الذي يفصل حيّ الديرة عن حيّ الخصاب؛ ويُسمّى في تلك السنوات الخوالي بشارع الملك فيصل، أما حاليًّا فيسمى بشارع أبي أيوب الأنصاري، وكان العمال يشتغلون على وضع الإسفلت لجزء من الشارع، وهناك عدة شاحنات من ضمنها سيارة تنزيل الإسفلت المخلوط بالقار، ومن خلفها الرَّصَّاصة التي ترصف هذا الإسفلت بشكل مُسطّح ومضغوط، ونحن كصِغار إذا شاهدنا هذه الأعمال نفرح بها كثيرًا ونحتشد بالقرب منها، وقد كنت أتجوّل بدراجتي الهوائية “ريلي 24” الحمراء بالقرب من المكان، أما أخي حسين ومدن فكانوا واقفين يشاهدان هذه الأعمال من علَى الرصيف الملاصق لبيت الحاج حسن الحكيم، وفي الأثناء كان أخي ناصر يريد أن يعبر إلى الرصيف الأوسط فإذا بسيارة قادمة يقودها شخص لبناني فيضربه ضربة خفيفة ويسقط من دراجته وأُصيب في رأسه وسال الدم، هنالك قام أحد الأشخاص الموجودين وحمل أخي ناصر ونقله بسيارته إلى مستوصف سيهات، وأحدهم أبعد الدراجة عن الشارع ليضعها على الرصيف بجانب الصبية الذين يتفرجون، ومن ثـمَّ تم نقله بالإسعاف إلى مستوصف القطيف المركزي وتم عمل اللازم له، حيث قالوا بأنه جرح سطحي وتم خياطة بعض الغرز في الرأس ووضع عليه مرهم الجروح وتم تغطيته بالشاش الخاص بذلك؛ ثم لفّوا رأسه بعصابة من الشاش –مربع الشكل- ثم تم لفّ رأسه بعصابة خاصة بمثل هذه الجروح، إلى أن تم إعادته إلى (البيت العود)، أما اللبناني فقد توقف جانبًا أثناء حدوث الحادث، وعند نقل أخي ناصر إلى المستوصف كان مرافقًا لهم بسيارته وقد أبدى تعاونه؛ كما شهد بعض الحضور بأن المخطئ هو أخي ناصر لأنه عبر الشارع فجأة دون أن ينتبه هل هناك سيارة أم لا، وسائق السيارة لم يُخطئ مطلقًا بل ضغط على فرامل التوقف وأُصِيب أخي ناصر من الجانب الأيمن الأمامي وليس من الصدّام، وهذا دليل على أنه هو الذي أسرع راكضًا للعبور أثناء قدوم السيارة، ولم يُسجّل أي محضر على اللبناني، إلا أنه بعد يوم من الحادثة اتصل اللبناني بنا – لأنه أخذ الرقم بعد الحادث مباشرة – وحضر بنفسه إلى سيهات وذهب بناصر مع والدي إلى أحد المستشفيات بمدينة الخبر لإجراء فحوصات وأشعة على الرأس وظهرت النتيجة أن الجرح سطحي وأن الغرز التي تم عملها في مستشفى القطيف المركزي كانت ضرورية لذلك، ولا يوجد أي كسور أو أي ارتجاجات أو أي نزيف داخلي، فاطمأن والدي من ذلك كما اطمأن اللبناني، وهذا التصرف النبيل من اللبناني ينمّ عن إنسانيةٍ رفيعة في شخصيته، وينمّ عن احترام للذات وللآخرين، وكبُر ذلك في عين والِدي ووالِدتي.

والغريب في الأمر أنني عندما كنتُ أتجول بدراجتي الهوائية قريبًا من موقع عمل الشاحنات وسيارة الإسفلت والرّصاصة، وكان العديد من الأطفال وأولاد وبنات الحي يتفرجون من على الرصيف المقابل لبيت الحاج حسن الحكيم، وأخي ناصر كان معهم، ثم قفز ليذهب إلى الرصيف الأوسط من الشارع، كنتُ قد لمُتُ نفسي أنني أهملت في الحفاظ على أخي والانتباه له، لأنني لم أكن قريبًا منه لأمنعه من القفز إلى الرصيف الأوسط، إذ كيف أمنعه وأنا كنت أقود دراجتي الهوائية وأنا بعيد عنه، إلا أن هذا الإحساس الطفولي كان يُراودني، حتى إنني قلت ذلك حينها لأمي فقالت: هو ولد شقي ويحبُّ الحركة، وأنت كنت بعيدًا عنه ولم تنتبه إلى ذلك، بينما بقية إخوته وأخواته كانوا واقفين بكلّ هدوء وكلّ فرح على الرصيف دون أن يبدوا منهم أيّ تهور في عبور الشارع.

وفي ليلة من ليالي شهر ذي الحجة 1445هـ، كنت أسترجع هذه الذكريات مع والدتي “حفظها الله” ومع أخي ناصر، فقالت لي أمي:

– هو ناصر الذي تحرك من الرصيف الأول المحاذي لبيت الحكيم إلى الرصيف الأوسط بشكل مفاجئ ولم ينتبه جميع الواقفين على الرصيف؛ وأنت لا دخل لك بما فعله على الإطلاق، لأنك كنت بعيدًا عنه، بينما الأقرب هم إخوته الذين كانوا واقفين مع بقية أولاد الحيّ على الرصيف الأول.

وكذلك أخي ناصر نفسه أكّد لي ذلك أيضًا، والمشكلة كلها حدثت بسرعة ولم يكن بالإمكان تفاديها بتدخل أيٍّ من الواقفين من الصغار.

الروائياتي:

– عجيب أيها (المِسك) أن تروي هذه الذكرى، وذكريات الحوادث القديمة أيام الطفولة والصبا لا يمكن نسيانها، وربما تكون مدعاة لتذكر العديد من المواقف المصاحبة لها، وهي بحد ذاتها نقاط للتأمل والتفكير الذاتي في الواقع -وقتئذ- وفي الذات وفي الوضع العام للأسرة من والدين وإخوة وأخوات وطبيعة المعيشة أيام الطفولة، وكيف إن هذا الحادث الذي جرى لأخيك ناصر – وهو حادث بسيط – غرس الحبّ الحقيقي والخوف على حياة بقية أفراد العائلة حتى تعمّق هذا الحب في الجميع إلى أن كبروا وتقدّمت بهم الأعمار.. وهم على هذه الحالة من الحميمية والذِكرى والتَّقارب الأسري، وذكريات الطفولة غالبًا ما تترك أثرًا عميقًا في نفوسنا، لأنها تحمل بين طياتها مشاعر بريئة وتجارب بسيطة لكنها مؤثرة، وعلى ما يبدو من خِلال روايتك لهذه الذِكرى في البداية، كانت هناك حالة من الذعر والقلق بين أفراد العائلة، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى لحظة تجمع الجميع فيها للعناية به، بدءًا من تنظيف الجروح إلى تطمينه وتحويل الموقف إلى شيء طريف، وبعد هذا الحادث، لاحظت كيف أن الجميع أصبح أكثر حذرًا واهتمامًا ببعضهم البعض، حيث تحوّل هذا الحادث البسيط إلى نقطةِ تحولٍ في العلاقات الأسرية، وزاد الترابط والتلاحم بين جميع أفراد عائلتكم وكلما اجتمعتم بعد ذلك كنتم تتذكرون تلك اللحظة بروح من الفكاهة والمحبة، وكيف أنها كانت سببًا في تقوية الروابط الأسرية، والآن وبعد مرور سنوات طويلة على تلك الذِكرى ما زالت تلك تجلب الابتسامة إلى وجوهكم جميعاً وكلما تذكرتموها تستحضرون حالة من اللطف وحميمية العائلة تجاه بعضها البعض، وتذكركم بقيمة العائلة وأهمية الحب والدعم المتبادل بين أفرادها، فهنيئاً لكم هذه الحميمية وهذا التقارب العائلي الجميل.

23/12/1445هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى