أقلام

تَأمُّلٌ طُفُوليّ

عقيل المسكين

– أسئلتي التي كنت أُطلِقُها في طفولتي لم تكن ساذجة على الإطلاق؛ لأنني – بكل صراحة- لم أسألها تعنّتًا وإنما سألتها تأمُّلًا للفهم والإحاطة بما حولي من الواقع المادي والوجودي؛ والواقع المعنوي والمعرفي، وأسئلة الأطفال في صغرهم، وكثرة استفساراتهم عن الحياة والمجتمع والواقع والوجود بطرق طفولية وأساليب بريئة تناسب أعمارهم تلك.. هذه الحالة يُواجهها الآباء بشيء من الذكاء والتبسيط في الإجابات بحيث تصل المعلومات لأطفالهم بطريقة مقنعة ولعل الأمثلة المبسطة التي تمزج بها هذه الأجوبة هي التي توصل الحقائق لهم فيقتنعون وتنمو عقيدتهم المعرفية، وأتذكر أنني كنتُ أسأل مَنْ حولي مِنَ زملاء الدراسة بعض الأسئلة العجيبة فتأتي الإجابات كلّ حسب اجتهاده وثقافته، وكذلك أسال بعض المعلمين فتأتي إجاباتهم كلٌّ حسب أسلوبه وطريقته في الشرح، هذا في المدرسة، أما في البيت العود فكنت أسأل أعمامي وعماتي وأمي وبعض الجيران من الأصدقاء أيضًا.

الروائياتي:

1. بالطبع – أيّها المِسك-، الأسئلة الكثيرة التي يطرحها الأطفال عن الحياة والمجتمع والوجود تعكس فضولهم ورغبتهم في فهم العالم من حولهم، ويمكن للآباء والمعلمين الاستفادة من الأمثلة والقصص البسيطة لتوضيح المفاهيم المعقدة بطريقة يمكن للأطفال استيعابها، فيما يلي بعض الأمثلة الواقعية والأمثلة من عالم القصص والروايات التي يمكن استخدامها للإجابة على تساؤلات الأطفال، فمن الأمثلة الواقعية: مفهوم الزمن؛ فعندما يسأل الطفل عن الزمن وكيف يمر، يمكن استخدام الساعة الرملية كأداة بصرية، ويمكن للوالدين شرح أن الرمل الذي يمرّ من الجزء العلوي إلى السفلي يمثل مرور الوقت، وكلما انتهى الرمل في الجزء العلوي، يكون وقت معين قد مرّ، وهكذا.

وكذلك قد يسأل الطفل عن دورة الحياة؛ فإذا سأل الطفل عن الحياة والموت، يمكن للوالدين استخدام مثال الفراشة، فيشرحون كيف تبدأ الفراشة كيرقة ثم تتحول إلى شرنقة وأخيرًا إلى فراشة جميلة، مما يعكس دورة الحياة والنموّ والتغيُّر.

كما قد يسأل الطفل عن مفهوم المال؛ فعندما يسأل الطفل عن المال والاقتصاد – حسب فهمه بالطبع- يمكن للوالدين استخدام لعبة “مونوبولي” لتوضيح كيفية كسب المال وإنفاقه وإدارته بطريقة مبسطة، أو يمكن للوالدين توضيح ذلك من خلال بيئته البسيطة التي يعيش فيها كوجود المصروف عند الطفل ليستطيع شراء وجبته المفضلة من المصف المدرسي، وعدم وجود المصروف لا يمكّنه من شراء هذه الوجبة، والمصروف هذا يقوم الوالد بتحصيله من خلال عمله اليومي كموظف أو كاسب في أحد المحلات أو أحد المعامل، على أن يكون تحصيل المال والغنى لا بد أن يكون لصالح من يسعى إلى ذلك قبل كل شيء كما قال جول فيرن: “كن على علمٍ أنك لن تكون غنيًا إذا لم تستفد من ذلك”.

ومن الأمثلة في عالم القصص والروايات نقرأ في قصة الأمير الصغير (Le Petit Prince ) لـ “آنتوان دي سانت إكزوبيري” حيث يوجد فيها عدة شخصيات ورموز بسيطة لتوضيح مفاهيم معقدة مثل الحب، المسؤولية، والعلاقات الإنسانية، وعلى سبيل المثال اللقاء بين الأمير الصغير والثعلب يوضح أهمية تكوين الصداقات وتحمل المسؤولية تجاه من نحب.

وفي قصة “الأسد والساحرة وخزانة الملابس” من سلسلة “نارنيا” لـ .س. لويس حيث تستخدم هذه القصة عوالم خيالية وحيوانات ناطقة لشرح مفاهيم الخير والشر، الشجاعة والتضحية، والبحث عن الحقيقة.

وفي قصة “هاري بوتر” لـ “ج.ك. رولينج” نقرأ في هذه السلسلة تحتوي على العديد من الأمثلة التي توضح قيمة الشجاعة، والصداقة، والتضحية. ويمكن للوالدين استخدام مشاهد من هذه السلسلة لشرح مفاهيم مثل التغلب على الخوف ومواجهة التحديات.

أما من أمثلة القصص الشعبية:

فنقرأ قصة “الأرنب والسلحفاة” ففي هذه القصة البسيطة توضح للأطفال أهمية المثابرة والعمل الجاد، ويمكن للوالدين استخدامها لتعليم الأطفال حيث أن الجهد المستمر يمكن أن يتغلب على القدرات الطبيعية، وكلما جاهد الإنسان وعمل بشكل جاد فإن قدراته من خلال ذلك تكون أكثر من قدراته العضلية أو حتى العقلية البسيطة، لأنه بذلك سيحقق أهدافًا كبيرة وغايات نبيلة، وفي قصة “الثعلب والعنب” تساعد هذه القصة في شرح مفهوم “العنب الحامض” وكيف يمكن للبشر أن يقللوا من قيمة ما لا يستطيعون الحصول عليه، ويمكن تطبيقها كمثال على كثير من المواقف حتى في ميدان علاقات الأطفال ببعضهم البعض.

وبالطبع إن إجابة الكبار عن أسئلة الأطفال ينبغي أن يستخدمون فيها اللغة البسيطة من حيث اختيار الكلمات السهلة والمفهومة التي تتناسب مع مستوى الطفل العمري، ومن الجميل استخدام الوسائل البصرية كالرسم أو استخدام الألعاب لتوضيح الأفكار، وهو ما يعرف بمصطلح (التعليم باللعب) – وقد تم الإشارة إليه في مقالات سابقة من هذه السلسلة-، وكذلك التشجيع على الأسئلة؛ وتعزيز فضول الطفل والسماح له بطرح المزيد منها، وربط الإجابات بالحياة اليومية بحيث تكون الإجابات بأمثلة من حياة الطفل اليومية لجعلها أكثر واقعية ومفهومة، وبهذه الطريقة يمكن للأطفال أن يفهموا المفاهيم المعقدة بطريقة مبسطة ومسلية، مما يساعدهم على بناء معرفتهم وفهمهم للعالم من حولهم.

المسك:

– كل ما ذكرته جميلٌ جداً، ولكن لماذا لم تسألني عن طبيعة هذه الأسئلة الكبيرة على مستواي كطفل، والتي كانت متعلقة بالواقع الشخصي وواقع العائلة، وواقع الحياة في البيت العود، والديرة، وسيهات بشكل عام؟.. ولو أنك سألتني لأجبتك بأنني كنت أسأل من خلال ملاحظاتي المؤلمة عن واقعنا الشخصي وعلى سبيل المثال: لماذا بيوتنا غير مستطيلة كاملة أو مربعة كاملة؟.. ولماذا هي متعرجة من جهةٍ وزاوية غير مستقيمة أو شبه زاوية من جهةٍ ثانية وشبه منحنية من جهةٍ ثالثة؟.. ولماذا أرى الكثير من البيوت الجديدة –وقتئذٍ- بيوتًا إما أن تكون مستطيلة ولها أشكال مُنسقة وجميلة ومبنية بالطوب الحديث، وجدرانها مصبوغة بأصباغ جميلة ومنمّقة، وإما أن تكون مربعة الشكل ومنتظمة في هندستها؟.

ومن الأسئلة التي كنت أسالها: لماذا بعض الطرقات في الأحياء الجديدة منتظمة ومستقيمة مثل حي النور – الذي يُسمى سابقًا بحي الطابوق-؛ بينما الطرقات في الأحياء الأخرى طرق متعرجة وغير منتظمة، ضيقة هنا، وواسعة هناك، ملتوية هنا، وشبه مستقيمة هناك؟.

ومن الأسئلة أيضًا: لماذا أرى بعض الناس يلبسون أفخر الثياب والأحذية ويركبون أفخر السيارات ويسكنون أرتب المنازل وأنظرَها وغالبية الناس يسكنون في بيوت قديمة، غير مرتبة، وغير منتظمة، وغير مبنية بالطرق الحديثة التي كنت أشاهدها في بعض الأحياء الأخرى؟.

وأسئلة مُحيرة أخرى مثل: هل العالم كلّه هكذا كما شرحته في الأسئلة السابقة؟. أم أن الاختلافات في كل مكان كما أشاهدها في أفلام الأبيض والأسود من قناة الظهران أو قناة البحرين عندما يبثون الأفلام المصرية القديمة حيث الحارات الشعبية التي كان فريد شوقي يمثل دور البطل أو زعيم العصابة أو (الفتوّة) ويتغلب على كل الخصوم بلكماته وضرباته القوية؟.

ومن الأسئلة الغيبية التي كنت أطرحها وبالذات لأنني كنت أمرّ بشكل يومي لمدة 6 سنوات متتابعة منذ 1394هـ حتى 1399هـ على مقبرة سيهات بسورها الحجري القديم، فكانت أسئلتي: ما هو الموت؟.. وكيف تخرج روح الإنسان من جسده؟.. ومن الذي يُخرجها؟.. وأين يذهب بها؟.. وهل الميت يشعر بشيء عندما تخرج روحه؟.. وما مقدار الألم الذي يشعر به أثناء نزع الروح؟.. ومن هو ملك الموت؟.. وما شكله؟.. وهل يأتي بمفرده؟.. أم معه ملائكة آخرون؟.. وعندما يُوضع الميت في قبره كيف يُحاسب؟.. وكم مقدار الزمن الذي سيمر على الميت وهو في قبره إلى أن يبعث يوم القيامة للحساب ومن ثم تقسيم الناس مجموعة كبيرة يُذهب بهم إلى الجنة، ومجموعة أخرى يُذهب بهم إلى النار؟.. وأسئلة كبيرة وصغيرة من هذا النوع، وهي كثيرة جدًا سببت لي الكثير من الأرق في التعمق بالتفكير فيها، والكثير من الألق الثقافي والمعرفي بالاطمئنان إلى الإجابات المقنعة ممن أِسألهم هذه الأسئلة الغريبة والعجيبة.

الروائياتي:

– إنها أسئلة عامة تمرّ على الجميع – تقريبًا- وهي أسئلة الوجود بشكل عام، وأسئلة الواقع الاجتماعي، وأسئلة الحياة، وأسئلة الجري وراء لقمة العيش والاستقرار الشخصي والعائلي، وكل هذه الأسئلة يتعلم الإنسان إجابتها بشكل فطري أولًا، كما يتعلمها من خلال الدراسة النظامية والتحصيل الذاتي أيضًا، ويتعلمها أيضاً بشكل تلقائي من المحيط الذي يعيش فيه، حيث إن البدهيات تكبر لدى الطفل من خلال هذا المحيط بالتعامل المتواصل مع من حوله من جميع أفراد العائلة، والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها بالحارة، والبلدة، والمدينة، وهكذا.. كما سيتعرف على أشياء كثيرة من خلال القراءة والبحث العلمي والمعرفي كل حسب اجتهاده وحسب مثابرته لتثقيف ذاته، وهكذا، وأظن من خلال تجاربك الشخصية لقد تعبت كثيراً أيها “المسك” في القراءة والتحصيل الذاتي، وكأنك تستحضر قول جول فيرن: “من الحكمة أن نفترض الأسوأ من البداية، ليأتي الأفضل كمفاجأة لنا”.

وقد كنت تقرأ بطريقة ذكية منذ دراستك الأولى في مدرسة الأندلس الابتدائية لآخر 1399هـ، حتى الأول الثانوي بثانوية سيهات العامة وبالتحديد سنة 1404هـ، وقد كنت تفترض الأسوأ في التوقعات ولكنك لا تجد بعد ذلك وبعد البحث والقراءة والتحصيل العلمي والفكري والأدبي المضني إلا الأفضل مُسلّمًا بالحقيقة أولاً وثانياً الإيمان بقضاء الله وقدره.

18/11/1445هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى