أقلام

فَتَحَتْ لي بَابَ الحِكمة

عقيل المسكين

المسك:

– أثناء اللقاءات العائلية الجميلة بيني وبين أعمامي وعمّاتي في البيت العود، وبالتحديد في غرفة الجلوس بالدور العلوي، وأحيانًا في الصالة، كان طعم تلك الجلسات لذيذًا جدًّا، ورائحتها زكية، ومنظرها جميل، لأن المناقشات والمحادثات معهم جميعًا لها طابع حميمية الأهل والأقارب التي لا يمكن لطفل مثلي أن ينساها، وهي تتسم بالتشويق من حيث الاستماع إلى الحكايات العجيبة والقصص الغريبة والمواقف المدهشة وأحوال المجتمع وأخبار كلّ فرد من أفراد العائلة الكبيرة الأعمام والعمّات، وأبناء وبنات العّمات المتزوجات كالعمة مكية، والعمة معصومة، وأزواجهنَّ، وكذلك ما يتم التطرق إليه عن الجيران الذين نراهم بين يوم وآخر، إما في مجلس الرجال مساء كل أحد أثناء قراءة الملا العادة الأسبوعية بالنسبة لبعض رجالهم أو بعض أبنائهم، وكذلك أثناء قراءة النساء في صالة الدور السفلي حيث يحضرن بعض الجارات للاستماع إلى القراءة الحسينية للملاية شيخة وبعض ما يساعدنها في قراءة الرواية والحديث مثل والدتي أم عقيل واختها فاطمة وبعض القارئات الأخريات، وكانت كلّ هذه الأحاديث عن البيئة الاجتماعية المحيطة ببيتنا العود تُشكّل حميمية في العلاقة مع الآخرين من حولنا.

لقد كنا نشعر كأننا عائلة واحدة (البيت العود) وجميع بيوت أهل الديرة، كيف لا وبيتنا العود يُعد ممرًا خاصًّا للكثير من جيراننا حيث يَعبرن من الجهة الغربية إلى الجهة الشرقية لحيّ الديرة عن طريق البوابتين الغربية التي تطل على الجانب الغربي؛ والبوابة الشرقية التي تطل على الجانب الشرقي؛ وهذه العادة لم يختص بها بيتنا العود، بل هناك بيوت أخرى في أحياء مغايرة تتم فيها هذه العادة الحميدة التي تعبّر عن ألفةٍ ووُدّ بين الجيران، وفي أثناء عبور الجارات عبر البوابتين كانت الأخبار تُتداول بشكلٍ تلقائي أثناء السلام ورد السلام، والسؤال عن الأحوال والتقاط آخر الأخبار عن المجتمع الصغير للحيّ بشكل مختصر أثناء مرور هؤلاء النساء.

أعود لحديثي عن جلساتي مع أعمامي وعماتي في غرفة الجلوس بالبيت العود أثناء مرحلتي الدراسية الابتدائية من 1394هـ حتى 1399هـ، حيث كانت هذه الجلسات بمثابة التلقي للجيل الجديد من الجيل الأكبر منه، كالجدة والأعمام والعمّات، أما الجلوس مع العمة أمينة كان له طعمًا فريدًا؛ لأنها أرادت لهذه الجلسات العائلية أن تكون أكثر فائدة من القصص والحكايات وأخبار العائلة، وأحوال المجتمع وما إلى ذلك؛ لقد كانت تتحدث لي عن العقيدة الإسلامية، وتاريخ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، وأتذكر أنني لأوّل مرة قرأت في كتاب (ديوان الإمام علي عليه السلام)، كان على يدَي عمتي هذه، وكذلك كتاب عن قصار الحكم لأمير المؤمنين عليه السلام، وأيضًا كتاب (نهج البلاغة)، وكتب وكُتيّبات أخرى، كما استفدت منها الكثير من الحكَميّات التي تنطبق على أحداث الواقع، وأهمية الانطلاق في الحياة من المبادئ والقِيَم وليس الانطلاق من الحاجة إلى الأكل والشرب والسكن واللبس والنوم وما إلى ذلك من هذه الاحتياجات وشبهها فقط، لأن كل هذه وسائل معيشية لغاية نبيلة وسامية، وحتى أعمّق هذا الفهم في ذاتي؛ لقد كانت تعطيني بعض الكتيبات لأقرأ فيها وأزداد علمًا ومعرفة وثقافة وفكرًا، ولا أزال أتذكر أنها كانت تعطيني جزءًا جزءًا من سلسلة (تفسير من وحي القرآن) وكنت أقرأ في هذه الأجزاء بشغف كبير حتى إنني أدركت تلك المعاني الكبيرة التي كانت تُسهّلها لي في بعض الشروح المختصرة التي كانت تتحدث بها إليّ، وعرفت أن ثمة فرق كبير بين الشرح المبسط والشرح العلمي التفصيلي المعتمد على الأسلوب البلاغي في فن النثر الموضوعي والعلمي، ولا سيما في تفسير القرآن والتدبر في آياته الحكيمة.

وأتذكر أيضًا أنها كانت تساعدني في بعض الأيام على شرح بعض الموضوعات من كتبي الدراسية، وكان شرحها جميلًا ومُبسّطًا لدرجة أنني لم أستصعب هذه الدروس مطلقًا بعد تلقي هذه الشروحات الجميلة لتلك الدروس سواء في مادة الحساب أو مادة المحفوظات أو غيرها من المواد، ولا أنسى عمي عبد الله فهو أيضًا في بعض المرات كان يساعدني في مذاكرة دروسي ولا سيما في مادة الحساب، واللطيف أنه بعد الانتهاء من دراسته الجامعية عمل محاسبًا في إحدى دوائر شركة آرامكو، إلا أن عمتي أمينة هي الأكثر في مساعدتي أثناء دراستي في تلك المرحلة، وهي بارعة جدًا في الشرح والتعليم لذلك عملت بعد تخرجها من الجامعة كمعلمة في إحدى المدارس النظامية وكان تخصصها الكيمياء، ومما أعجبني كثيرًا ولا يزال ذلك عالقًا في ذهني هو تشجيع جدّتي لأبي (أم ناجي) على هذه الحميمية بين جميع أفراد العائلة، وكانت الابتسامة وعلامات السعادة واضحة على مُحياها عندما تشاهد ابنتها أمينة تقوم بتعليمي وشرح بعض الدروس لي، وهذا ما كان أيضًا يُدخل السرور على قلبي ويزرع في نفسي الكثير من بذور الطمأنينة، فإذا بي أراها كالحديقة الغنّاء مثمرة بالحُبّ والوُدّ والعِرفان.

الروائياتي:

– جميلة هذه الذكرى أيها (المسك).. لأنها تعرّف الآخر مصادر معرفتك والكتب التي اطلعت عليها في صغرك أثناء رحلة التكوين المعرفي الأوّلي، وهذا مهم جدًا في السيرة الذاتية، كما هو مهم أيضًا أن تذكر الدور الكبير الذي قامت به إحدى قريباتك وهي عمتك الصّغرى في مساهمتها الكبيرة في صقل هذا التكوين الأولي لشخصيتك وتوجيهه للوجهة الصحيحة.

المسك:

– نعم.. هذا صحيح، وأنا سأحاول قدر المستطاع، وبما تسعفني فيه الذاكرة أن أتطرق لمثل هذه الموضوعات ضمن هذه السلسلة من المقالات/القصصية، أو القصص/المقالية، سمّها ما شئت، وأما بخصوص عمتي الصغرى أمينة فقد كانت علاقتي الكبيرة بها علاقة مميزة منذ المرحلة الابتدائية، في بيتنا القديم بحي الديرة، وكان لهذه العلاقة أثرها الكبير على شخصيتي الثقافية والعلمية والأدبية، لقد كانت مثقفة وقارئة جيدة، وأديبة وشاعرة –رغم اختيارها التخصص العلمي في المرحلة الثانوية والجامعية-، وما أكد لي أنها شاعرة هو قراءتها قصيدة جميلة جدًا في رثاء أحد مراجع التقليد الذي نزل على جميع مُقلديه بل على كل الأمة الإسلامية كنزول الصاعقة على مسامعهم، وكانت هذه القصيدة التي كتبتها تعبيرًا عن هذا الحزن، وأدبها هذا هو انعكاس طبيعي لكثرة قراءتها للكتب الأدبية والدواوين الشعرية، ولذا تعلمت منها حبّ القراءة منذ صغري، ولا سيما كتب تفسير القرآن وكتب الآداب والأخلاق، إضافة إلى الكتب التي تتحدث عن العقيدة الإسلامية وما يتعلق بها، وقد شقّت القراءة في حياتي الخاصة دربًا مستقلًا في حب القراءة واقتناء الكتب منذ تلك الطفولة البريئة حتى الانتهاء من الابتدائية والمتوسطة والثانوية.. حتى عصرنا الحاضر، هذه العمّة هي الأساس لأنها هي التي فتحت لي أبواب الحكمة منذ طفولتي، ولا أنكر بقولي هذا الدور الكبير لوالدي ووالدتي فهما كانا خير عون وسندًا أيضًا، إلا أنه بحكم انشغال والدي بالعمل في المنجرة كنت أنا أمارس هذا الدور وكان والدي يشجعني على ذلك، أما أمي فكانت تعلمني قراءة القرآن لا سيما تلك السور المفروضة علينا كطلاب لقراءتها أو تسميعها.

الروائياتي:

– هناك العديد من الأمثلة في عالم الواقع من التاريخ الإنساني تنطبق على هذا الحالة، وكذلك هناك العديد من الأمثلة في عالم الروايات والقصص والمسرحيات تشبه هذه الحالة، حيث تؤثر العمّة في ألاد أخيها من بنين وبنات ويكون هذا التأثير تأثيرًا كبيرًا في تربيتهم، وتثقيفهم، والمساهمة في نشأتهم نشأة علمية وأدبية، وهذا التأثير في حياتك يذكرنا بالعلاقات العائلية الوثيقة في الأدب، ففي “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، نقرأ الكثير من التفاصيل في العلاقة بين الأبناء وأعمامهم، وكذلك في “البيت الكبير” لإحسان عبد القدوس، نقرأ ما يظهره هذا العمل الأدبي من تأثير العمة في تربية الأبناء، وكذلك نقرأ “الطريق إلى مكة” لنجيب محفوظ الذي ذكر دور العمة في تثقيف الأبناء.

أما في الأدب الآسيوي فنقرأ “الغابة المقدسة” لاريغو كيودا (اليابان)، حيث عكس هذا العمل الأدبي تأثير العمة في تربية البطل، وهنا يتجلّى الدور البطولي الحقيقي للعمة في صناعة البطل أيضًا، أما في “الطفولة في قرية صغيرة” لليو تولستوي (روسيا) فيتجلى ظهور دور العمة في تثقيف الأبناء، وكذلك في “شجرة النخيل” لكاتو كازو (اليابان) حيث يذكر الكاتب تأثير العمة في حياة البطل.

أما في الأدب الأوروبي فنقرأ “أليس في بلاد العجائب” للويس كارول (إنجلترا) حيث ينعكس تأثير العمة في حياة أليس بطلة هذه الرواية الشهيرة، أما في “الغابة المظلمة” لجوزيف كونراد (بولندا) فيظهر دور العمة في تربية البطل أيضًا، وفي “الطفولة السعيدة” لجين أوستن (إنجلترا) فيذكر الكاتب تأثير العمة في حياة البطلة، وفي الأدب الغربي فنقرأ “البيت الصغير” للورا إنغلس ويلدر (أمريكا) فيعكس هذا العمل تأثير العمة في تربية الأبناء، وكذلك في “الغرب المتوحش” لزاني غراي (أمريكا) فيظهر دور العمة في تثقيف البطل، وفي “أنا كارينINA” لجين أوستن (إنجلترا) فيذكر تأثير العمة في حياة البطلة، وفي المسرحيات، فنقرأ في “الخوف من الخوف” لجبران خليل جبران تأثير العمة في حياة البطل، وفي “الغابة المظلمة” لمارك توين نقرأ انعكاس دور العمة في تربية الأبناء، وكذلك في “البيت الكبير” لمحمد عبد الحق الذي يذكر تأثير العمة في تثقيف الأبناء.

وفي رواية “آن في المرتفعات الخضراء” (Anne of Green Gables)، في هذه الرواية الشهيرة، رغم أن ماريلا كوثبرت ليست عمة آن، لكنها تلعب دورًا شبيهًا بالأم أو العمة، حيث أثرت بشكل كبير في تربيتها وتنشئتها، وشجعتها على القراءة والتفكير المستقل.

وكذلك في رواية “نساء صغيرات” (Little Women) للويزا ماي ألكوت، شخصية العمة مارش هي مثال آخر، حيث تمثل شخصية صلبة ولكنها مع ذلك تساعد في توجيه الفتيات الأربع (الأخوات مارش) بطريقة غير مباشرة نحو النضج الفكري والأدبي.

ولا تخلو المجموعات القصصية أيضًا من دور كبير للعمة في تربية أبناء أخيها ففي “قصص الطفولة” لجبران خليل جبران تعكس تأثير العمة في حياة الأطفال، وكذلك “قصص الشعب” لمحمد صادق يظهر دور العمة في تربية الأبناء، وفي “قصص الحب” لإحسان عبد القدوس الذي يذكر تأثير العمة في حياة الأبناء.

المسك:

– هذا على صعيد الأعمال الأدبية كالروايات والمجموعات القصصية والمسرحيات، فماذا لديك في هذا المضمار على صعيد الواقع، والتاريخ؟

الروائياتي:

– هناك العديد من الأمثلة الواقعية في التاريخ حيث نقرأ في تاريخنا الإسلامي عن السيدة صفية بنت عبد المطلب (عمة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم) التي لعبت دورًا كبيرًا في حياة النبي ﷺ، حيث كانت من أوائل المؤمنين والمؤيدين لدعوته، وتاريخها يعكس كيف يمكن للعمة أن تكون مصدرًا للدعم والإلهام.

ومن حياة الكُتّاب والعلماء والمصلحين الذين تأثروا بأفراد عائلتهم الإمام الشافعي الذي تأثر بشكل كبير بوالدته وأقربائه من النساء، حيث كانت والدته من أبرز الشخصيات التي غرست فيه حب العلم والقراءة منذ الصغر، هذا من التاريخ الإسلامي،

ونقرأ من التاريخ الغربي عن ماري كوري العالمة الشهيرة التي تأثرت بمحيطها العائلي في صقل حبها للعلم، أما من المجتمعات العربية التقليدية، فقد كان لأفراد العائلة الممتدة، مثل الأعمام والعمات، دور كبير في التربية والتثقيف، خاصة في البيوت التي تولي أهمية كبيرة للعلم والأدب.

سيهات، 08/ 01 / 2025م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى