جدّي المُدخّن
عقيل المسكين
المسك:
– روت لي أمي – حفظها الله – بأن جدي لوالدي الحاج مدن بن علي بن صالح المسكين –رحمه الله-، كان يدخن بشراهة، ونوع الدخان الذي يدخنه هو اللف، حيث يمتلك علبة خاصة بذلك فيها نوع معيّن من الورق، وفي ذات العلبة فتات من التتن فيقوم بوضع هذا التتن في الورقة ثم يقوم بلفّه بطريقة بارعة، وبعد ذلك يشعل الكبريت ثم يقوم بإشعال السيجارة ويدخنها، والدليل على حبّه الشديد للدخان، عندما كان مريضًا في المستشفى كان يحرّص على ابنه الأكبر ناجي أن يحضر معه علبة الدخان مع الكبريت أثناء زيارته، وإذا لم يحضر معه المطلوب عليه أن لا يدخل الغرفة لزيارته مطلقًا حيث لا يريد أن يراه إلا بعلبة الدخان والكبريت، وبالفعل لقد نهره في إحدى المرات ولم يسمح بدخوله الغرفة لزيارته، ووالدي الحاج ناجي المسكين – رحمه الله – كان يخاف على والده، وكان يتحدث معه بأنه في حالة مرض والأطباء يمنعونه من التدخين حتى لا تَحدث له مضاعفات في رئتيه وجهازه التنفسي بشكل عام، إلا أن جدّي – رحمه الله- كان مُصرًّا على طلبه إحضار علبة الدخان مع الكبريت.
الروائياتي:
– هذا أمر طبيعي ويحدث في كلّ مكان، وكبار السن من المدخنين يكونون أكثر شراهة في التدخين كلما كبروا وشعروا بشيء من الوحدة، أو يفكرون في قرب رحيلهم عن الدُّنيا، أو أنهم بالفعل قد أدمنوا هذه العادة الذميمة، وللطب رأيه في هذه الحالة من حيث أضرار التدخين على الرئتين والقلب والجهاز التنفسي بشكل عام، كما لعلماء الاجتماع رأيهم في ذلك بما يتعلق وأضرار هذه العادة السيئة على الأسرة والأقرباء المحيطين بهؤلاء المسنين الذين أدمنوا هذه العادة، كما لعلماء النفس رأيهم في تحليل نفسية هؤلاء وهم يدمنون هذه العادة ولماذا؟.
وإدمان التدخين لدى كبار السن، خاصة عندما يتفاقم مع التقدم في العمر والشعور بالوحدة أو التفكير في الموت، هو موضوع يثير اهتمام الأطباء وعلماء النفس والاجتماع، أما الأطباء فيرون أن التدخين يصبح عادة متأصّلة وعميقة الجذور مع مرور الزمن، وبالتالي يصبح من الصعب على كبار السن الإقلاع عنه مع تقدم العمر، وقد يشعر المدخنون بزيادة التوتر والقلق بشأن صحتهم وقرب الموت، مما يدفعهم للتدخين أكثر كشكل من أشكال التهدئة أو الهروب من الواقع كذلك، وقد يكون لديهم إحساس بأن التوقف عن التدخين لن يكون له تأثير إيجابي كبير في هذه المرحلة من حياتهم، مما يجعلهم أقل رغبة في الإقلاع.
وعلماء الاجتماع يرون أن الشعور بالوحدة والعزلة الاجتماعية يمكن أن يدفع كبار السن إلى التدخين بشكل أكبر، والتدخين قد يكون وسيلة لملء الوقت والشعور بشيء من الارتباط بالآخرين (حتى ولو عبر الذكريات)، كما أن التدخين يمكن أن يكون نوعًا من “الطقوس الاجتماعية” التي ترافق الذكريات والأوقات الماضية، مما يعزز الرغبة في مواصلة هذه العادة.
أما علماء النفس فيفسّرون شراهة التدخين لدى كبار السن بأنها قد تكون نتيجة مزيج من الإدمان الفسيولوجي والنفسي مع تقدم العمر، حيث يواجه الفرد العديد من التغيرات النفسية مثل فقدان الأحبة والشعور بالعزلة، مما يمكن أن يزيد من الحاجة إلى “ملاذ” نفسي مثل التدخين، والتدخين قد يعمل كآلية للتكيّف مع مشاعر الحزن أو القلق، وهو ما يجعل الإقلاع عنه أمرًا صعبًا.
أما ما ورد الأدب العربي حول هذا الموضوع بالذات فهناك العديد من الأمثلة التي تصور شخصيات مدخنين شرهين، خاصة في مراحلهم الأخيرة من الحياة. مثلًا، في رواية “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، نجد أن شخصية “سعيد مهران” تعاني من مشاعر الوحدة والخيانة، وهو مدخن شره يعبر عن تمرده ويواجه نهايته المأساوية.
وكذلك في رواية “الشحاذ” لنجيب محفوظ، يظهر “عمر الحمزاوي” كشخصية تائهة ومضطربة نفسيًا، وتزيد شراهته للتدخين مع ازدياد مشاعر القلق والحيرة التي تواجهه، وما ذكرته هو من الأمثلة التي تسلط الضوء على كيف يمكن أن يكون التدخين ملاذًا نفسيًا للشخصيات الأدبية في مواجهة أزمات حياتهم، وتوضح العلاقات المعقدة بين الإدمان والاضطرابات النفسية والاجتماعية.
أما بخصوص جدك أيها المسك فهو شخصية حقيقية، ولا تنطبق عليه هذه الأمثلة التي ذكرتها لك – كما تعلم – وإنما أردت تقريب الصورة لأن حالة الشعور بالوحدة يُصاب بها الكثير من كبار السن في كلّ زمان ومكان ولا سيما إذا تقاعدوا عن عملهم ولم يعودوا يستطيعون ممارسة عملهم مرة أخرى، كما هي الحال لدى جدك لأنه كما ذكرت لي أنه تقاعد من شركة أرامكو وأسس المنجرة في العمارة وطلب من ابنه الأكبر – وهو والدكم – أن يمارس مسؤولية الإشراف على العمل بهذه المنجرة منذ أواخر سنوات حياته أليس كذلك؟.
المسك:
-نعم صحيح أيها الروائياتي.. وعلى ما يبدو حالة استعمال جدي للدخان كانت فردية بالنسبة له في جوّ العائلة، لأن أعمامي (حفظهم الله جميعاً) كلّهم لا يدخنون إلى يومنا هذا، حتى والدي رحمه الله لم يدخن مطلقًا إلا في بعض الحالات النادرة وهو جالس مع بعض أصدقائه في المجلس أو في مكتب المنجرة، ولم يدمن على الدخان بل لم يشترِ الدخان لنفسه مطلقاً فقد كان يأخذه من أحد جلسائه أثناء جلسة الشاي أو المسامرة مع الرفاق في مجلس البيت بالديرة أو بيت الفردوس أو بيت النمر، ولكن المؤسف هو قيام بعض أخوتي بممارسة عادة التدخين، ابتداء من أخي حسين، ثم مدن ثم عاطف، ثم محمد ثم ناصر؛ أما الأخ تيسير لم يدخن مطلقاً وكذلك الأخ كميل وهو أصغرنا لم يدخن مطلقًا.
22/08/2024م