أقلام

من ذكرياتي عن المدّاحين المتجولين

عقيل المسكين

مما أتذكره في طفولتي بالمرحلة الابتدائية أن هناك بعض المدّاحين والملالي المتجولين في الحارات وبين البيوت، يقرؤون المدائح والمراثي في آل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعادة يتم إجلاسِهم عند عتبة الباب من الداخل، أو في بداية صالة الدور السفلي من البيت ويضعون له كرسي أو وسادة خشنة يجلس عليها –من نوع تلك المخاذ التي تستخدم كمساند في المجالس-، ويبدأ بالمديح للنبي وآله إذا كانت المناسبة القريبة هي أحد موالد المعصومين عليهم السلام، أو يقرأ التعزية إذا كانت المناسبة القريبة هي وفاة أحد المعصومين عليهم السلام، وقد رأيت ذلك بأمّ عيني، حيث طرق أحد هؤلاء المداحين/القُرّاء باب بيتنا من الجهة الشرقية، وفتحنا الباب وإذا برجل ضرير كبير في السنّ قليلًا عليه ثوب متواضع من الصوف، ويلبس قلنسوة بنِّيّة اللون، ويلبس بِشتًا وغترة بيضاء وعقال، ويمسك بعصًا يتكئ عليها بيمينهِ، ويمسكه فتى مرافق له يدلّه على الطرقات، وقد أجلسته أمي – على ما أتذكره – بجانب الباب من الداخل؛ ثم بدأ بقراءة التعزية الحسينية، ولا أزال أتذكر صوته الجهوري في القراءة حيث كان يُتقن الطور الخاص بتلك القصائد والمقطوعات الرثائية الشجية والمحزنة، وبعد الانتهاء من القراءة أعطته أمي بعض المال على سبيل البركة، ثم قام من مجلسه قاصداً الخروج معه مُرافقه الفتي الذي جاء معه.

ونقل لي الأديب الحاج عبد الفتاح الدبيس قائلًا:

“هذه عادة مُتَّبعة في المنطقة قديمًا، ويُسمى هذا القارئ المتجوّل بالمادح، حيث يمدح آل البيت عليهم السلام، ويقرأ بعض التعزية والرثاء أيضًا، وعادة يقرأ لدقائق معدودة؛ ثم يُعطى بعض البركة من المال أو الطعام، ويذهب لبيت آخر وهكذا، وهذي هي مهنته، وأنا شاهدت ذلك عيانًا”.

أما الصديق الحاج علي حمود فيقول:

“لقد عشت هذه المرحلة، وهؤلاء يُسمّون بالمدّاحين، ومفردها المدّاح، وهم من قرى القطيف كالجش وأم الحمام والملاحة وغيرها وليسوا من سيهات، وعادة هم من الفقراء، وبالعادة يكون هذا المدّاح ضريرًا، ويأتي معه من قريته أو بلدته شخص آخر، مرافق له وهو “هَدِي” –كما نقول في لهجتنا العامية- أي يهديه إلى الطريق حتى يسير بشكل صحيح ولا يتعثر بأي عقبات موجودة أمامه أو على جانبيه بالطرقات والأزقة بين الحارات التي يقصدها مع مُرافقه، فيتنقلون من بيت إلى آخر، إلى النهار حيث يعودون من حيث أتوا، وعادة عندما يطرقون باب أحد البيوت، يقول المداح:

– يا الله يا الله.

فيقول من بداخل البيت:

– من بالباب؟.

فيقول المداح:

– أنا المدّاح.

وبعفوية النساء في تلك البيوت، يفتحون له الباب لأن الرجال في أعمالهم، وإذا كان بالبيت رجل فهو مُسنّ ومن الشَّيَبة، وكذلك يوجد بعض الأطفال من الأولاد والبنات الذين لم يذهبوا إلى المدرسة بعد، وأتذكر في بيتنا بالديرة – والكلام للراوي الحاج علي حمود- أننا كنا في حوش البيت فيدخل المدّاح ونضع له كرسي صغير يجلس عليه، أو خشبة أو أي شيء آخر مناسب للجلوس عليه، فيقرأ بعض القصائد الفصيحة والشعبية عن مصيبة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وكنّ نساء البيت يجلسن في جانب معين وهن يلبسن العبي ويتغطّون بما يلبسنه من “الغشوايات” أو “الغشاوي”، وهنّ يبكون وتفاعلن مع أبيات التعزية التي يقرأها المدّاح بصوتٍ حزين، ونحن معهن كذلك متأثرين بتلك الأنغام العزائية المفجعة حول مصائب أبي عبد الله الحسين عليه وأهل بيته، وبعد الانتهاء من القراءة أعطته أمي القليل من المال، وعادة نساء البيوت يعطونه إما المال أو القليل من الطعام يأخذه معه، وعادة يتم إعطاؤه ريالًا أو ريالين، أما بعض البيوت الفقيرة فيعطونه بعض القروش حسب مقدرتهم، وهم رغم احتياجهم للمال إلا أنهم يبذلون هذه القروش حبًّا في أبي عبد الله الحسين عليه السلام، وهؤلاء المدّاحون أعتقد أن بعضهم من السادة، لأن السادة لا تجوز عليهم الصدقة لذلك يتخذ بعضهم هذا العمل كمهنة يحل لهم أخذ الأجرة عليها بينما لا تحل لهم الصدقة، وهذا كلّه عايشته بنفسي ورأيته في ديرتنا بسيهات، وقد لحقت على آخر المداحين الذين كانوا يرتادون طرقات الديرة رحمهم الله وأسكنهم الفسيح من جنانه”.

وهذه العادة الجميلة التي عايشتها أيام صباي وأنا في المرحلة الابتدائية، أثناء سكننا بالبيت العود في ديرة سيهات، لهي عادة تستحق أن تُذكر لأنها ظاهرة تتعلق بنشر مصيبة أبي عبد الله الحسين عليه السلام والمصائب التي لحقت بأهل بيته الكرام وأصحابه من أجل نشر مبادئ وقِيم ديننا الإسلامي من آداب وأخلاق وحسن سلوك، وهذه العادة أيضًا لها فوائدها الجمة، كفوائد المجالس الحسينية المنتشرة في كل أرجاء المعمورة، وإن كانت عبارة عن جلسات عابرة تأتي دون تحديد للزمن فيها، لأن المدّاح يدور بما يحفظه من المدائح والمراثي في كلّ ديرة وحارة، ولهذه القراءة بشكل عام فوائدها الجمّة، ومن فوائدها أنها تعد على صِغرها من مجالس الذِكر التي ينبغي المداومة عليها، لما روي عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: “علَيكَ بمَجالِسِ الذِّكْرِ”، وينطبق ذلك أيضًا على المجالس الأسبوعية حيث تقام عادات القراءة الحسينية في البيوت، وكذلك ينطبق على المجالس الكبيرة والحسينية المنتشرة في البلدة والمدينة بشكل عام، كالعادة التي كانت تقام من أيام أجدادي الحاج مدن بن علي بن صالح المسكين؛ جدي لأبي، وأخيه منصور جدي لأمي، وهذا يعني أن مجلس العادة الأسبوعية الذي يقام في مجلسنا بالديرة مضى على إقامته أكثر من ستين عامًا ولله الحمد.

“واجتماع المؤمنين مع بعضهم البعض في المجالس الحسينية أمر راجح في نفسه ومطلوب لما فيه من فوائد عديدة، لما روي عن الإمام الصّادق عليه السلام قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله: “إذا رأيتُم رَوضةً من رياضِ الجنّةِ فارْتَعوا فيها”، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ، وما رَوضةُ الجنّةِ؟ فقالَ: “مَجالِسُ المؤمنينَ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى