أقلام

جَولاتي بالـ “سَّيْكَل” في المزارع عند جبل القرين

عقيل المسكين

– التجوّل بالدراجة الهوائية “السَّيكَل” – وهذه التسمية مأخوذة من الإنجليزية bicycle، – كان من أجمل هواياتي الحركية، حيث كنت أسيح به في طرقات وأزقة حي الديرة والأحياء الأخرى كالخصاب والحالة والطابوق واليحلوف والنّقا، كما إنني كنت أذهب مع أبناء عمتي مكية كلٌّ في سيكله الخاص به إلى العديد من مزارع النخيل بعد حي اليحلوف ونصل إلى جبل القرين، وهناك كنا نتجول بحرية داخل المزارع فنجمع الخلال المتساقط، وأحيانًا نجمع التوت من أشجاره المطلة على الطرقات، وأحيانًا نخطف أنفسنا للدخول بطريقةٍ ما إلى داخل هذه المزارع فنجمعه في أكياس خاصة نحملها معنا، كما نجمع اللوز، والبمبر، حيث يصعد بعضنا إلى أعلى الأغصان لنقطفه ونرميه على الأرضية ثم نجمعه ونتقاسم الغنيمة ونخرج بسرعة حتى لا يرانا أحدٌ من أصحاب المزارع أو العاملين فيها، وأحيانًا نستريح عند بعض عيون الماء كعين مايد وعين سيد أمين فنلهو هناك بالسباحة مع الموجودين في العين، ونتلهّى بأكل ما جمعناه من اللوز أو الخَلال أو التوت أو البمبر، حسب فصول جنيِهِ من أشجاره، وأتذكر أنني ذهبت مع أبناء عمتي وبعض أولاد الحي عدة مرات بتباعد زمني بين المرة والأخرى.

وكم كنت أستمتع بهذه الجولات المنفردة أو مع أبناء عمتي مكية وبعض الأصدقاء الآخرين من أولاد الديرة، وكم كانت تلك الجولات ممتعة للجميع أيضًا، حيث يكتشف بعضنا هوايات بعض كصيد الطيور بـ (الفخ)، وهو قطعة خشب مستقيمة عليها حديدة منحنية، يتم تثبيت الحديدة بالربل المقتطع من تيوب إطار دراجة هوائية أو يتكون من مجموعة من الجِلد الدائرية، وفي جانب الخشبة خرزة ومسمار يتم حني الحديدة وتثبيتها بالخرزة والحبل، ويوضع بجانبها الطعم فإن أكله الطير انفتح الحبل من الخرجة التي تثبت الحنية الجديدية فتسقط عليها وتمسك به، وبعد تجهيز الفخ وتثبيت الـ (عنيوش) به، والعنيوش عبارة عن حشرة تعيش في أطراف الساقية بالنخيل أو المزارع، يتم تثبيتها في طرف الفخ. ثم يتم رفع الحديدة المنحنية وتُثبت في الطرف الثاني من العصاة التي تحمل هذه الحديدة بين قطعة من الربل القوي الذي يُؤخذ من تيوب إطارات الدراجات الهوائية، فإذا تم إرجاع الحديدة إلى الخلف وتثبتها في المثبت يكون العنيوش هو المربوط في الجانب الآخر فإذا أكله الطير انفتح الخيط الذي يثبت الحديدة فتسقط عليه الحديدة وتصطاده، وهذا الفخ المجهز يتم وضعه في أماكن تجمع الطيور حتى ينزل أحد هذه الطيور ليلتقط العنيوش فيطبق عليه الفخ ويصطاده ويكون فريسة لصاحب الفخ، أو يصطاده مباشرة برميةٍ سديدة بـ (القُوص)، والتي تسمى في بعض دول الخليج ب:ـ (النُّبيطة) – وهو عبارة عن قطعة خشبية من ضلعين متقابلين كالسبابة والبنصر ويلتقيان في باقي الغصن كممسك في راحة اليد اليسرى، وفي طرفيه العلويين بعض الجِلَد المطاطية أو قطعة من المطاط ويثبت في آخرة ثباتة تمسك بالحجرة بين الإصبعين باليد اليمنى ويتم التثبيت على الطير بالنظر الدقيق ثم يفلت الإصبعان الثباتة التي تمسك بالحجرة الصغيرة فتنطلق لتصيب الطير أو لا تصيبه حسب مهارة الرامي.

ولم أكن أتقن وقتئذٍ الصيد بأي طريقةٍ كانت، إلا أنني كنت أندهش من ممارساتهم لهذه الهواية الجميلة والمدهشة، إلا أنني في نفس الوقت كنت آسى على تلك الطيور التي تُصاب بضربة الحديدة من الفخ، أو الضربة الخاطفة من قطعة الحديد أو الحجرة الصلبة من القوص، وذلك لأن قلبي رقيق في مواجهة أمثال هذه المواقف أما أولاد العمة وبعض الأصحاب الآخرين فكانوا بارعين في عملهم هذا وما كانوا يلتفتون إلى مَنْ يرقّ قلبه لهذه الطيور ولا يأبهون بأيّ إصابة لهذه الطيور مطلقًا، فالموضوع بالنسبة لهم مجرد تسلية والصيد مباح على أيّ حال كما يقولون.

أتذكر ذات مرة أن ابن عمتي زكريا بن عباس الداوود كان على أتم الاستعداد للخروج بسيكله الخاص، وكنت أنا جاهز بسيكلي أيضاً، إلا أنه وبعد أن ركب سيكله بالقرب من العمارة – التي فيها منجرتنا “منجرة المسكين”- حيث يسكن مع عائلته في شقة الدور العلوي من الجهة اليسرى، حيث كانت الشقة التي في الجهة اليمنى يسكنها المستأجر يوسف الحساوي مع عائلته، وعندما نزل ابن العمة زكريا ركب السيكل إذا بسيارة مُقبلة فاصطدمت به وقفز زكريا على الجنب مُتألمًا قليلًا إلا أن السيكل قد دُهِس تحت عجلات السيارة ولم يعد صالحًا للاستعمال، وتم تأجيل رحلتنا للتجوّل في الطرقات إلى المزارع والعيون في ذلك اليوم، حتى يتم إصلاح دراجته الهوائية، وكانت من موديل ريلي ومقاسه 26، أما السيكل الذي كان عندي في ذلك الوقت فكان موديل ريلي 24 فأنا لا أحب قيادة السيكل الكبير لأنه يتعبني كثيراً أثناء قيادته أما مقاس الـ24 فهو مناسب لي تمامًا رغم أنني أكبر سنًّا من زكريا ابن عمتي، إلا أن لكل فرد منا مزاجه الخاص في نوع السيكل وحجمه.

ولي مع أولاد عمتي مكية جولات أخرى، حيث كان زكريا يحتفظ بالكثير من الطيور، وكذلك الأرانب، والحمام، في عشّة قام بإنشائها مع إخوته في أرض يملكها عمه بالقرب من مدرسة البنات؛ وتسمى بالمدرسة الصفرا، التي تقع خلف مقبرة سيهات بالضبط – أي خلف المقبرة من الجهة الغربية-، وكنت قد ذهبت معهم إلى تلك العشة عدة مرات فيريني الطيور ويريني كيف يقوم بوضع الماء لها وكذلك الحبوب اللازمة لغذائها، وكذلك كان يُريني ماذا يعطي الأرانب من الماء والأكل الخاص بها كالجزر، وكنت متعجبًا من هذه الهواية التي كانت لديه وهو في بدايات دراسته في المرحلة الابتدائية مع إخوته شعيب وداوود، أما عباس فقد كان طِفلًا.

لقد كانت الحريّة التي نشعر بها في التعامل مع الحياة جميلة جدًا، ولم تكن حرية ساذجة أو منفلتة لما يُخاف علينا منه، وإنما كانت حرية البراءة، والطفولة الصافية، والدليل على ذلك كان العم عبد الله ينصحنا كثيرًا بالحفاظ على الصلاة وحضور المجالس الحسينية ومساعدة الجدة أم ناجي في وضع السواد كل عام مع صديق العائلة وصديق والدي مهدي المناسف، -وقد توفي رحمة الله عليه قبل عدة سنوات-، فكنا ننتهز الفرصة تلو الفرصة للقيام بكل نصائحه وإرشاداته، إضافة إلى كوننا نخاف من والدي (أبي عقيل) وله ما له من الهيبة عندنا كلّنا، ولم نسلم جميعنا من عصاته أو غضبه أو صُراخه علينا، إضافة إلى أن زكريا وإخوته كانوا يحترمون خالهم بل يحترمون كل أخوالهم وخالاتهم في البيت العود، ولا شك إن عامل الفضول والتطفّل في شخصياتنا بارز بشكل كبير للتعامل مع الحياة واكتشاف الأشياء من حولنا، وعامل الفضول له مكانته الخاصة عند جميع الناس – تقريبًا- فهو هاجس داخلي لمعرفة الأشياء ولاكتشافها باندفاع ذاتي يأتي بطريقة تلقائية، ومن طريف ما ذكره (البرت إنشتاين) عن هذا الموضوع قوله:

– “إنها معجزة أن ينجو الفضول من التعليم الرسمي”.

وهذا القول صحيح – إذا كان المقصد منه الفضول في حب الذات باكتشاف الأشياء والبحث عن المجهول-، لأن الفضول شيء طبيعي في كل الذوات عند البشر عمومًا، وهو لا علاقة له بمناهج التعليم، لأنه منهج فطري يتبعه كل فرد بطريقته الخاصة فنجد لديه حب اكتشاف المجهولات، وحبّ التجول للتعرف على الجديد من حوله، وكثرة القراءات الخارجية عن المناهج الدراسية، منذ أن يتعلم الإنسان القراءة إلى آخر يوم في عمره.

03/01/1446هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى