أقلام

رحلةُ البحثِ عنِ الذَّات

عقيل المسكين

المسك:

– ما رأي علماء النفس عندما يرى الصبي قبل المراهقة وفي أيام شبابه أن الهوايات التي يُمارسها ما هي إلا محطّات لمحاولة التعرف على الحياة والبحث عما تميل إليه الذات حتى يكوّن ما تميل إليه في مضمار ممارساته من هذه الهوايات وحتى تكون إحداها هي مبتغاه وما سيصل إليه في المستقبل؛ وهذه التي سيبدع فيها ربما تكون نوعًا من أنواع الرياضة والاحتراف فيها، أو جمع الطوابع والتخصص فيها، أو ألعاب الخفة وما تُسمى بالألعاب السحرية الاستعراضية ليكون أحد أبطالها، أو هواية تجليد الكتب ومن ثم التخصص الفني فيها، أو أعمال النجارة الفنية والتخصص فيها.. وهكذا بينما لا يجد هذا الشاب نفسه في كل هذه الهوايات .. بل يجد نفسه بعد ذلك كله في شيء آخر.. فبعد مرحلة الطفولة الأولى والمرحلة الثانية حتى سن 14 ثم المرحلة الثالثة حتى سن 21 وممارسة هوايات كثيرة بحماس في بعضها وبحماس أشد في بعضها الآخر وبتردد في بعضها وإحجام في بعضها الآخر حتى يجد نفسه في هواية أخرى مارسها في المراحل الثلاث وهي القراءة والكتابة.. حيث وجد نفسه في القلم والكتابة الأدبية.. ما رأي علماء الاجتماع وعلماء النفس، والفلاسفة، في هذه الحالة في البحث عن الذات؟

هذه التساؤلات أطرحها على ذاتي وأبحث عن إجابات المخصتين من خلال الكثير من قراءاتي والكثير من كتاباتي أيضًا، على اعتبار أن الكتابة نوعٌ من الدواء للكثير من أمراض الذات أيضًا، وقد وجدت من خلال الكثير ممن المراجع والمصادر أن ما وصفته بخصوص هذه الإشكالية يتعلق بمفهوم هام في علم النفس والاجتماع يُعرف بـ “البحث عن الهوية” أو “تكوين الهوية”، وهذا المفهوم يرتبط بشكل وثيق بفترة المراهقة والشباب، وهي فترة يمر فيها الفرد بتحوّلات نفسية واجتماعية كبيرة، ويحاول فيها اكتشاف ميوله واهتماماته وهويته الشخصية، وسوف أستعرض هنا هذه الآراء، وقد تطرق علماء إلى ذلك فهم ينظرون إلى هذا السلوك على أنه جزء طبيعي وصحي من التطور النفسي للشخص، ومحاولة استكشاف وتجربة مجموعة متنوعة من الهوايات والأنشطة يُعد جزءًا من عملية تشكيل الهوية، وهي عملية تستمر عادة من مرحلة المراهقة وحتى بداية الشباب، ومن هذه المرحلة من الطبيعي أن يجرب الشخص أشياء مختلفة قبل أن يستقر على شيء معين يشعر بأنه يمثل اهتماماته وميوله الحقيقية.

الباحث النفسي إريك إريكسون، على سبيل المثال، وضع نظرية مراحل النمو النفسي/الاجتماعي، وأشار إلى أن مرحلة المراهقة تتعلق بـ “أزمة الهوية مقابل تشتت الأدوار”، وهذا بالضبط ما شعرت به أنا من خلال تجاربي الكثيرة في مرحلة الابتدائية حتى 1399هـ بمدرسة الأندلس الابتدائية بسيهات، حي الخصاب، وفي مرحلة الكفاءة المتوسطة حتى نهاية عام 1403هـ المدرسة النموذجية المتوسطة بسيهات، بل وحت الصف الأول الثانوي عام 1404هـ بثانوية سيهات العامة، ففي هذه المراحل يبحث الفرد – عادةً- عن هويته الخاصة ويحاول تحديد مستقبله المهني والشخصي، وبالتالي فإن تعدد الهوايات والتجارب المختلفة يُعتبر محاولة طبيعية لاستكشاف الذات.

أما من منظور علماء الاجتماع، فهذه العملية تُعد جزءًا من تفاعل الفرد مع المجتمع، فالمجتمع يوفر للفرد مجموعة متنوعة من الخيارات والفرص ليختار من بينها ما يناسبه، والتجارب المختلفة تُساعد الفرد على التعرف على نفسه من خلال التفاعل مع الآخرين ومع المواقف المختلفة، ويعتبر هذا البحث عن الهوية مهماً لتكوين شعور بالانتماء داخل المجتمع، وهذا بالضبط ما كنت أراقبه في ذاتي من خلال ما يراه الآخرون، لأنني أتأثر بما تمليه عليَّ عائلتي من الوالد والوالدة، وكذلك الأعمام والعمات، وكذلك المعلمين والطلاّب الذين من حولي في المراحل الدراسية الثلاث، حتى المحيط الاجتماعي الذي هو من حولي كالجيران والأقارب والأصدقاء والرأي العام السائد كثقافة اجتماعية مشتركة، ومُتوافق عليها، ولا سيما أن المجتمع من حولي هم من مجتمع الموظفين الحكوميين، والموظفين في الشركات الكبرى، والشركات المتوسطة، والمؤسسات الخدمية والمنشآت الصناعية المتوسطة والصغيرة، وكذلك المحلّات والمتاجر المتوسطة والصغيرة، وكذلك فئة من الذين يعملون في الأعمال الحرّة والكَسَبة، والعائلة -بشكل عام – تضغط على الأبناء للجد والاجتهاد في الدراسة ومواصلتها للحصول على مستقبل وظيفي مناسب، وكلما اجتهد الطالب لتحصيل أعلى الدرجات ومن ثم التخصص الدراسي بمواصلة المرحلة الجامعية كلما كانت فرصته أكبر للحصول على المركز المرموق في التخصص الوظيفي، وهكذا.

أما رأي الفلاسفة في هذا الموضوع فهم ينظرون إلى البحث عن الذات كجزء من الرحلة الوجودية للإنسان، ومن وجهة نظر الفيلسوف جان بول سارتر، على سبيل المثال فالإنسان يُعرّف نفسه من خلال أفعاله وتجارب الحياة، وكل تجربة تساهم في تكوين هوية الفرد.

أما الفيلسوف سورين كيركغارد، فيرى أن البحث عن الذات والهوية هو جزء من وجود الإنسان ومسؤولية فردية يجب على كل شخص أن يتحملها في حياته.

وخلاصة القول بشكل عام، علماء النفس وعلماء الاجتماع والفلاسفة يعتبرون هذا البحث عن الذات وتنوع التجارب والهوايات جزءًا طبيعياً ومهماً من نمو الفرد، وهذا التنوّع في التجارب يُساعد في تكوين شخصية متكاملة ومتوازنة، وفي النهاية، يساهم في تحديد مسار حياة الفرد بشكل أفضل وأكثر انسجامًا مع ذاته وميوله الحقيقية، وكلنا نعي هذه الحقيقة من كل النواحي النفسية والاجتماعية والفلسفية بتلك الآراء التي طرحوها في تنظيراتهم وكتاباتهم أو بما يتقارب معها، فالحكمة بشكل عام ومجمل يحملها الإنسان العاقل معه، ويعبر عنها كلٌّ بأسلوبه الخاص، ويقتنع بها ويطبقها على شكل برامج حيوية على مسرح الواقع بطريقته الخاصة، ولكنه سيلتزم بالمناهج الدراسية التي يتعلم منها في جميع مراحل تحصيله العلمي منذ الابتدائية حتى الجامعة والتعليم العالي أيضًا.

الروائياتي:

– ما تطرقت إليه أيها (المسك) هو في صميم التخصصات التي تطرقت إليها، وتجربتك في مراحلك الدراسية جديرة بالاهتمام من خلال كتاباتك عن سيرتك الذاتية على شكل مقالات قصصية، أو قصص مقالية، كما قصدت ذلك كأسلوب مُبسّط وجميل في الآنِ ذاته، وسوف أتطرق هنا لمثال وهو الشيخ محمد عبده في بداياته حيث كان يبحث عن ذاته؛ رغم أنه حفظ القرآن الكريم في عامين وأرسلوه إلى طنطا للدراسة الدينية، وأصيب بشيء من العُقدة النفسية بسبب أجرومية الكفراوي لأنه لم يستوعبها، ثم عاد لبلده وتزوّج؛ وعمل في الفلاحة مع والده، إلا أنه فشل في الفلاحة، ثم عاد لِـ (طنطا) لمواصلة الدراسة الدينية مع أخيه مجاهد للتأهّل لدخول الأزهر الشريف، وأصرّ بكل جهد لإتقان دراسته ثم حفظ أجرومية الكفراوي – بعد اللتيا والتي -.

كذلك أنت أيها المسك سرت في درب رحلتك الطويلة التي دامت نصف قرن من الزمان، حتى وصلت لتعلّقك بأملك الخاص وهو العلم والمعرفة والأدب، والكتابة في مختلف أجناس الأدب العربي، وهذا ما لاحظه الكثير في شخصيتك، كما لاحظته أنا أيضًا.

المسك:

– جميل منك ذلك أيها (الروائياتي)، ولكنني سأزيدك شيئاً مهمًا عن تجربتي الشخصية في رحلة التكوين، وهي التعقّل في كلّ خطوة، حيث أردت أن تكون الـ (أنا) التي أتحدث عنها وهي (ذاتي) مقتنعة بما تعتقده وتعتبره ضمن تكوينها الثقافي والفكري والمعرفي، لا أن تكون هذه الـ (أنا) مجرد كشكول تجمع من كل بحر قطرة ثم تنطلق من هذه الخلفية الساذجة غير الحيوية.

الروائياتي:

– ما شاء الله، هذا لطيف جدًا أيها (المسك)، وأنت تذكرني بمقولة لـ (كافكا) حيث قال: “كيف أصبحت الشخص الذي هو أنا؟ هل أنا نفسي فعلاً، أم صنع مِنّي الآخرون بالأحرى الشخص الذي أنا هو؟”.

وهذا يعني أنك لم تكن “إمَّعة” أبدًا، بل كنت تفكر وتفكر وتفكر حتى تطمئن لما كنت تبحث عنه، وتؤمن به، وأنت بذلك تذكرني في عالم الرواية برواية (قلب الليل) لنجيب محفوظ، حيث ذكر جدّ الطفل جعفر الذي حرِصَ على تأهيل حفيده جعفر ليحفظ القرآن الكريم؛ ومن ثم دخول الأزهر واستمرّ في توجيه النصح والإرشاد له بشكل منتظم ليشبّ طالبًا يافعًا.

وأنت أيها المسك لم أجد في سيرتك جدًّا يهتم بك هذا الاهتمام الصريح، وذلك بتوجيهك مباشرة، وقد مات جدك لأمك وأنت لم تأتِ بعد، ثم مات جدك لأبيك وأنت لم تصل للسادسة بعد، أما في رواية نجيب محفوظ فجد جعفر كان موجوداً وأصر على أن يوجه حفيده جعفر إلى طريق العلم الديني والثقافة الإسلامية عبر المعلمين الذين خصصهم في قصره لتدريسه، بينما تبنى جد جعفر صديق حفيده شكرون ليتعلمه الإنشاد الديني والغناء والموسيقى، وكان ذلك سائدًا في مصر، وهناك فرق في مختلف محافظات مصر يؤدون هذا اللون من الفن الديني، وكان موقف الجد من ذلك لأنه وجد في شكرون الاستعداد النفسي للنبوغ في ذلك، فخصص له بعض المدربين ليشق دربه في الإبداع بالإنشاد الديني والغناء، أما جعفر في رواية (قلب الليل) كان يبحث عن ذاته، وأنت كذلك في كل فصول ذكرياتك هذه تبحث عن ذاتك في خوض الكثير من الهوايات ثم تركتها لتذهب إلى منوال آخر وهكذا لعلك تجد نفسك فيه؛ وما ستؤول إليه في قابل أيامك، بعد الانتهاء من الابتدائية والمتوسطة والثانوية، بل لم تقف عند ذلك بل درست ثلاث سنوات في الحوزة العلمية، ثم بعد ذلك مارست العمل الوظيفي، وفي أثناء عملك حصلت دبلوم التجارة، وبعد ذلك حصلت على درجة البكالوريوس في تخصص اللغة العربية 2004م، وبعدها حصلت على درجة الماجستير في الأدب العربي 2010م.

ونجيب محفوظ على أي حال في روايته هذا استطاع أن يناقش فكرة فلسفية عظيمة وهي فكرة حرية الإنسان التي تنبع من داخل أعماق نفسه ودهاليز ذاته، فالإنسان عندما يأتي إلى هذه الدنيا سيصطدم بحتميات كثيرة جدًا، كأن يكون ذكرًا، ولم يختر ذلك، وأن يكون له هذا الأب وتلك الأم وهو لم يختر ذلك، وتكون له هذه البيئة العائلية بالذات ولم يختر ذلك، ويعيش في هذا المجتمع بالذات وهو لم يختر ذلك، كما إنه وجد نفسه على هذه الديانة وهذا المذهب الذات وهو لم يختر ذلك، فهل لو قرر هذا الإنسان التمرد على كل هذه القوالب هل سيواصل حياة ملؤها السلام والاستقرار والطمأنينة، أو أن هذه الحرية سيكون ثمنها أفدح من هذه الأمور بشكل كبير جداً؟.

هذه الفكرة على كِبَر حجمها وثقلها على قدر ما هي صعبة جدًا، ونجيب محفوظ عبر عنها بشكل مبدع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى