أقلام

وفاةُ صديقٍ؛ وتأمُّلٌ وُجودِي

عقيل المسكين

المسك:

– في إحدى سنوات مرحلة التكوين الأوّلى توفي صديقنا حسين آل طالب، وكان أحد أفراد “الشلة” المكونة من عدة أصدقاء من بينهم (علي الحكيم) –رحمه الله-، و(علي الحمود)، و(سليمان عبد المجيد أبو المكارم) –رحمه الله-، و(أحمد مهدي المسكين)، و(علي صالح المسكين)، ومجموعة أخرى من الأصدقاء من سكان الديرة الشمالية والديرة الجنوبية، وكانت وفاته بحادث سيارة حيث توفي إثر اصطدامه بسيارة أخرى قادمة من الجهة المعاكسة في إحدى طرقات المزارع بالقرب من إحدى قرى القطيف من الجهة الشمالية الغربية من سيهات، وكانت لوفاته الأثر البالغ علينا جميعًا، وكنا من حضور مجلس الفاتحة في إحدى الحسينيات بالديرة، إلا أنني كنت أكثر جزعًا لوفاته، لأنني كنت أراه نشطًا وبكامل أناقته وحيويته وهو يقود سيارته الكراون الجديدة البيضاء، كما كنت أتذكر غالبية مزحاته البريئة معنا، مع إعجابنا الشديد بحسن أخلاقه وجمال أدبه واعتدال سلوكه مع الجميع، ثم بعد ذلك ننصدم بحقيقة رحيله عن الدنيا، وبهذه الطريقة المفجعة فكأننا نصطدم بجبل عظيم حتى نتهشم من هول حقيقة هذا الجبل وثباته وقوته، وكان موت هذا الشاب الصديق بمثابة هذه الصدمة الكبيرة المشابهة لوقوع الجبل على رؤوسنا إلى درجة أننا بتذكر رحيله هذا كأننا سنُغادر الدنيا بسبب هذه الصدمة المفاجئة.

لقد كان أمَلًا يتحرك على الأرض، كأي شابٍ من الأصدقاء أو من زملاء الدراسة، أو من رفاق نشأتي في حي الديرة من جيراننا في الجهتين الغربية والشمالية للبيت العود أو الجهتين الشرقية والجنوبية، وإذا بهذا الشاب/الأمل يغادرنا بشكل مفاجئ وبهذه الطريقة المحزنة، وكأنني أقرأ ما كتبته ذات يوم غادة السمان: “لقد مات الأمل ولذا تساوت الأشياء، واللقاء والفراق كلاهما عذاب”، هذا بالضبط ما شعرت به فأيّ لقاءٍ بعد ذلك وأيّ فراق هما بمثابة العذاب، لأننا جميعًا كنا نكنُّ لهذا الشاب احترامًا كبيرًا، وتقديرًا أكبر، ولم يتبدد هذا الشعور السوداوي عن مخيلتي إلا بعد أشهر وسنين، حيث كنّا نسلو في هذه الحياة بالكثير من المصائب الأخرى التي لم تتوقف أبدًا، حتى عرفنا طبيعة الدنيا، وأن الموت حقّ بشكل واقعي مُتحقق على مسرح الحياة.

لقد كان رحيله بمثابة الإيقاظ الحقيقي لشخصيتي الثقافية والفكرية، من حيث كون الإنسان لن يبقى مُخلّدًا في هذه الحياة، وعلَيه أن يستغلها أكبر استغلال لتكوين ذاته من الناحية الدينية والثقافية والفكرية والعلمية إلى أقصى حدّ يمكنه الوصول إليه، حتى يستطيع مواجهة حقيقةَ الحياةِ بحياةِ الحقيقة، وليس العكس، وحياةُ الحقيقةِ ليست تلك الأساليب الوضعية التي تمّ هندستها لتخدم حياة الواقع المفروض، ولم يتم هندستها لتخدم المفترض من واقع الحياة، وكان لابدّ من نهضة ذاتيّة حقيقية على الخطأ الدنيوي الذي ارتكبته الخُطى الدُّنيوية، بحيث يتم قدر المستطاع تجنّب ما تهدف إليه هذه الخُطى الدُّنيوية والاصطفاف إلى ما تهدف إليه الخُطى الأُخرَويّة، فالحياة ساعة ويجب أن نجعلها طاعة لا أن نجعلها معصية، ولا أعلم لِم فكّرت بهذا التفكير ولم وردتني هذه الخواطر في ذهني إلا أنها وردت هكذا؛ رغم أنني كنت في المرحلة الدراسية المتوسطة، ولما أدخل المرحلة الثانوية بعد، أي أنني في مرحلة البلوغ وبداية النضج الفسيولوجي، وهذه السنّ عادة ينتاب صاحبها أمثال هذه التأمّلات وهذه التفكيرات في الذات والحياة والواقع.

وكان هذا الحادث الذي أصاب صاحبنا حسين آل طالب بمثابة المفتاح لِأُفق آخر من هذه التأمّلات والتفكيرات.

كنت أستحضر في ذهني ذلك الشاب الوسيم والمفعم بالحيويّة والانطلاق وإذا بي أتذكّرُه قد مات وتم دفنه في التراب، وأقول في نفسي: أهذه هي الدنيا، وما تفعله بأهلها، شاب في مقتبل العمر يأخذه الموت، وبهذه الطريقة؟!.. في حادث سيارة مأساوي، وأعظم ما كنت أفكر فيه هو الموت ذاته، حتى لو عاش الإنسان 120 سنة على وجه الأرض فمصيره النهائي هو أن يموت ثم يُغسل ويكفّن ويُصلّى عليه ثم يُنقل جثمانه إلى مثواه الأخير، وكما جاء في القرآن الكريم {كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ} ، لقد نُقشت هذه الحقيقة نقشًا على جدران ذهني، ورددها عقلي كثيرًا حتى قلت في نفسي لماذا أعيش كما يريدون؟!.. لماذا لا أعيش كما أريد أنا؟.. وكما أعتقد به أنا؟.. وأؤمن به أنا؟.. وأيقِنُ به أنا؟!.. لماذا يريد الآخرون رسم الخط الذي يجب أن أسير عليه، بينما أرى هذا الخط معوَجًّا وليس مستقيمًا أبدًا، إنهم يريدون أن يصنعوا مني برغيًّا في إحدى مكائن هذه الحياة، على أن تشتغل هذه المكينة ردحًا من الزمن ثم يتم إحالتها إلى السكراب ويتم وضع مكينة جديدة متطورة مكانها ونذهب نحن مع مواد وقطع تلك المكينة السابقة إلى التراب، أهذه هي سنة الحياة كما يقولون؟..

الروائياتي:

– ولكن الحياة استمرت معك ولم تتوقف أليس كذلك؟

المسك:

– ماذا تعني بهذا السؤال؟.

الروائياتي:

– أعني ما ذكره مارك توين في مقولته: “لا تقف الحياة على فقدان أحد، ولكنها قد تمضي بشكل مختلف”.

المسك:

– نعم صحيح ما ذكره مارك توين، لقد مضت معي الحياة بشكل مختلف، لأن هذه الحادثة تسببت لي بصدمة كبيرة أو هزّة عظيمة أيقظتني من سبات عميق ليس على المستوى الفسيولوجي كنوم الجسد وإنما على مستوى النوم عن حقائق كثيرة كان ينبغي أن ننتبه لها، وأن نكون يقظين تجاهها في هذه الحياة.

الروائياتي:

– على أيّ حال “الموت ليس شيئًا رهيبًا، الرهيب هو أن لا نموت”، كما قال فيكتور هوجو.

المسك:

-صحيح ما ذكره فيكتور هوجو، فنحن بكل صراحة لا نخاف من الموت وإنما نخاف من خالق الموت، وهو الله، وهذا شيء طبيعي فينا، والموت للذي تفاقم عليه المرض راحة له حتى لا يزداد مرضه وتزداد آلامه، والموت صدمة لذوي المتوفّى وأصدقائه والمقربين منه، وهو أيضًا رسالة لهم للاستعداد للرحيل عن هذه الدنيا والتزود بالصالحات، وهو رسالة لغيرهم أيضًا لذات الغرض النبيل.

06/01/1446هـ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى