أقلام

أمِّ الخَضَرْ والليفْ

عقيل المسكين

المسك:

– كتبت ذات يوم وأنا أنوي استخدام مُسمى (أم الخضر والليف) في جِنِيّة جميلة؛ بل رائعة الجمال:

“(أم الخضر والليف) تلك الجنية الجميلة، التي كانت ترافقني في مسامراتي بحوش (البيت العود) لسنواتٍ عدة وأنا أعيش في هذا البيت أحلى ذكريات الطفولة، وأجملها، وأقساها في الآنِ ذاته، بينما أمّ الخضر والليف لم تكن جميلة فحسب فلقد كانت فائقة الجمال، ولم تكن حلوة فقط بل كانت أحلى من السُّكَّرِ ذاته، المشكلة هي عدم وثوق أقراني من الزملاء في المدرسة والأصدقاء في الحيّ بكلامي هذا، بل كانوا يسخرون مني ومِنها ومن كلّ كلمة كنت أقولها لهم عن هذه الجنيّة الرائعة التي لم أر مثلها أبدًا لا في بيوت الجيران، ولا في النَّخيل المجاورة لِحيّنا، كما لم ألاحظها في الخرائب التي كان بعضها في حينا حي الديرة وبعضها في الأحياء الأخرى، والتي تتراكم بججارتها القديمة ودنشلها المترامي هنا وهنا التي كانت يومًا ما عبارة عن بيوت نابضة بالحياة وإذا بها خاوية على عروشها، كما لم أسمع عن هذه الجنية الفاتنة حتى في الحِزَّايات والخرَّافات التي كنت أندهش منها على لسان أمي، أو من خالتي أم حسين فاطمة منصور المسكين، بل لم أسمعها من جدتي لأبي (أم ناجي), وجدتي لأمي (بت علي)”.

لقد كانت هذه الجنية (أم الخَضَر والليف) رغم اسمها الغريب إلا أنها كانت ممشوقة القوام، معتدلة الخصر، دقيقة البطن، طويلة الرقبة، مستديرة الرأس، منفوشة الشعر، ناعمة البشرة، ناهدة الصدر، واسعة العينين، رائعة القدمين، ساحرة اليدين، تتزين بثوب حريري أخضر، ويلف هذا الثوب تطريزٌ ذهبي يشبه الليف في لونة لا في خشونته، وإذا وضعت أناملك عليه وجدته أنعم من الحرير، وأبرق من الذهب، وأبرع من المطرزات النفيسة، وما إن تتحرك في حوش البيت بالدور السفلي بين النخيلات الثلاث، أو عند الركية حتى ألاحظ سحر فتنتها يملأ عينيّ ويكاد قلبي أن يطير من شدة روعتها وحلاوتها.

وكانت هذه الجنية تتجاذب معي أطراف الأحاديث، عندما نجلس سويًّا عند النخيلات الثلاث بحوش البيت العود، الذي يقع من الجهة الغربية حيث الدروازة التي بجانب (الركيّة)، وكانت هذه الجنيّة تقص عليّ الكثير من القصص والحكايات عن عالمها العجيب في وادي الجنّ الذي يقع في ناحية بعيدة من صحراء الربع الخالي، وكنت أُصدّق تلك القصص والحكايات حتى إنها كوّنت مُخيلتي، ودَعَمت البيان الأسطوري في تجربتي الأدبية، وساهمت بشكل فعّال في النزوح بالمعاني إلى عوالم تعمل فيها ريشة الرسم بالكلمات الكثير من أعمالها العجيبة، وقد قال المختصون في الأدب قديمًا: “أصدق الشعر أكذبه”، حيث يقصدون بذلك الشعر الذي ينحى إلى الخيال الذي لا يمكن أن يصدقه العاقل، ولكن تصدّقه البلاغة التي تنحو نحو هذه الأساليب المدهشة، وأضفت إليها ما يدعمها بعكس كلماتها أيضًا: “أكذب الشعرِ أصدقه”، ففي الصدق أيضًا ما هو أغرب من الخيال الذي يمكن أن يسمى بالكذب الأدبي المباح.

ولكنني مع وصف هذه الجنية الخيالية التي لم أرها إلا في ذهني الفطري ومخيلتي البريئة وتصوراتي المختلقة، لم أكمل ذلك الوصف لتك الجنية المزعومة (أم الخضر والليف)، لأنها ليست كذلك أبدًا ولن تكون كذلك حتى يلج الجمل في سم الخياط، ولم تكن (أم الخَضَر والليف) – على رأيٍ – سوى تلك النخلة التي أحبها مُنذ صغري، ولم تكن جنيّة أبدًا، وإنما هذه التسمية مجرد كناية عنها، وفي حقيقة الأمر لم تكن نخلة واحدة في ذلك الحوش الصغير ببيتنا العود من جهته الغربية، وإنما كنَّ ثلاث نخلات فارعات الطول، جميلات المنظر، زاهيات الطلعة، وهفهافها كأنه النسيم من حدائق غنّاء، وكنت أحب اللعب بجانب هذه النخلات الثلاث، إلا أن أمي كانت تخوفني حتى لا أصعد لي نخلة منهن، لأنني طفل ولا يمكنني القيام بذلك.

“أمِّ الخضَرْ والليف” – بكلّ صراحة – كنتُ أعتقد في طفولتي أنها من الجنّ وأنها متلحّفة بلباسٍ أخضرٍ ويحيط بها الليف من شدة بشاعة منظرها، وكانت أمي “حفظها الله” تُخوّفني بها عندما تريد أن تنوّمني للاستقاظ مبكّرًا استعدادًا للذهاب إلى المدرسة، وكذلك بقية إخوتي وأخواتي كانت تستعمل معهم هذا الأسلوب، وظلّ معي هذا الفهم عن “أم الخضر والليف” حتى بضع سنوات من الابتدائية، إلى أن فهمت ذات يوم أن المقصود بهذه الجملة شيئًا آخر ولا علاقة لها بالجنّيات لا من قريب ولا من بعيد، وأنا طوال تلك السنوات منذ أن وعيت على الدنيا وحتى بضع سنوات من الابتدائية كنت أخاف عندما تقول لي أمي ذلك، وأفكر كثيرًا في هذه الجنِّيَّة التي قد تظهر للأطفال وتخيفهم إذا لم يطيعوا والِديهم ولم يستسلموا للنوم على مراقدهم حتى يستيقظوا مبكرين للذهاب إلى مدارسهم، كما عزز قولي هذا ما ذكره لي كلة من الفنان عبد الله الرمضان في حديث جرى بيننا يوم الاثنين 27 رجب 1446هـ ، وكذلك ما ذكره لي السيد زكي الصاخن، والحاج علي حمود، ومن هذا الخوف الذي تملّكني وهذا التهديد من أمّنا جعلني أرى أحلامًا عجيبة غريبة، ولا أزال مفزوعًا منها لسنواتٍ عدة في طفولتي، وهي ذكريات لا تزال عالقة في ذهني حتى الثامنة أو التاسعة من عمري وأنا في المرحلة الابتدائية، ببيت الديرة، أي قبل نيف وخمسين عامًا من تاريخ كتابة هذه السطور.

وقد روى لي الأستاذ الكاتب عبد الفتاح الدبيس “حفظه الله”؛ وهو يكبرني سنًّا ومعرفةً وخبرةً – في تسجيل صوتي أُجرِي معه بتاريخ 20 سبتمبر 2024م-:

– “في زمننا أتذكر أن الوالدة (رحمها الله) كانت تستخدم معنا نفس هذا الأسلوب حيث تخوّفني أنا وجميع الأخوة بهذه الجملة، حيث إنها عندما تريدنا أن ننام مبكرين تقول لنا:

– ناموا ولا أزعقْ علَى أمِّ الخضَرْ والليفْ.

ومن هذا الخوف نذهب لننام فورًا”.

ومن لطيف ما قرأت عن هذا الموضوع ما كتبه الكاتب أبو حامد العرادي في صحيفة الأيام بعددها رقم 11147 الصادر يوم الأربعاء 16 أكتوبر 2019 الموافق 17 صفر 1440ه:

– “كثير من الناس يسمعون عن الخضر لكنهم لا يعرفون معنى الخضر؛ لأن الخضر جمع خضرة، الكلمة حسب منطق اللغويين مثلثة، أي أن الحروف الثلاثة الأولى من الكلمة مفتوحة كل حرف عليه فتحة، وسعف النخلة مقسم ويبدأ من القلب ومن السعف الأبيض، وهو القلب، ثم السعف المطروح بعد القلب القلبة يسمى الخوافي جمع خافية، وبعده الخضر الذي يسبق السعف اليابس، أما الليف فهو الشبك الأحمر الذي يحيط بجمارة النخلة ويصل من الكربة إلى الكربة نفسها، وهو شبك من أعواد خفيفة.

وهم يخوفون الأطفال بـ(أم الخضر والليف)، وهي كناية عن النخلة، ولكن الأطفال لا يدركون معنى أم الخضر والليف، والخضر هو أقوى سعف النخلة، إذ يضربون به المثل في القوة ويهددون بالضرب بالخضر؛ لأنه أقوى السعف”.

وبالتالي فإن أم الخضر والليف هي أقوى سعف النخلة لأنه أقوى من بقية أجزاء السعفة الطويلة، وكم في أقوال أجدادنا وجدّاتنا من بلاغة قوية في معاني هذه الأقوال ومطابقتها لما هو موجود بالفعل، وهذا هو الرأي الثاني وأعتقد بأنه الأصوب، وإن كان يجوز أن تكون “أم الخضر والليف” كناية عن النخلة بشكل عام، من باب تسمية الكل بالجزء.

الروائياتي:

• جميلة هذه اللفتة التراثية من حياتكم القديمة في منطقة الساحل الشرقي من المملكة، وهي قيام كبار السن من الآباء والأمهات، والأجداد والجدات باستخدام أسلوب التخويف البريء حتى لا يتعرض الأطفال للضرر من سوء السلوك اليومي، أو عدم تناول الوجبات، أو عدم تنظيم نومهم، وما إلى ذلك من الأمور التي يجب أن يلتزمون بها لصالحهم، وبذلك يكفّون عن الشقاوة والسلوك المتمرد مع الآخرين، وهذه ظاهرة منتشرة في غالبية مجتمعات العالم، ويمكننا الاطلاع على نماذج من ذلك في الأدب الإنساني، لأنه ترجمان عما يجري على مسرح الواقع، وبمختلف لغات الدنيا، حيث توجد العديد من الأمثلة سواء في الروايات أو القصص أو المسرح، وقد استُخدمت شخصيات أسطورية أو خيالية لترهيب الأطفال أو تقويم سلوكهم، وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على منطقة معينة، بل تنتشر في ثقافات متعددة حول العالم، ففي الوطن العربي وآسيا تم استخدام الغول والعنقاء والجن، ولطالما استُخدمت هذه الشخصيات في الحكايات الشعبية لتخويف الأطفال، وفي الأدب العربي التقليدي، يظهر الجن والغول في ألف ليلة وليلة كرموز للخوف والترهيب، كما في قصة “أبو رجل مسلوخة” (مصر)، وهي قصة شعبية تُروَى للأطفال لتخويفهم كي يتصرفوا بشكل جيد، وكذلك في في أوروبا تم استخدام شخصية كرمبوس (Krampus) في ألمانيا والنمسا وسويسرا، وهي شخصية أسطورية مرعبة مرتبطة بالكريسماس، ويُقال للأطفال إن كرَمبوس سيأتي ليعاقبهم إذا لم يكونوا مطيعين، وفي عموم أوروبا وأمريكا يتم استخدام شخصية (The Bogeyman)وهي شخصية غامضة تُستخدم لتخويف الأطفال بغرض الالتزام بالقواعد وإطاعة الكبار، وكذلك في روسيا وأوروبا الشرقية استخدموا اسم (Baba Yaga) وهي ساحرة تعيش في غابة وتأكل الأطفال، وتُروى حكاياتها لتحذير الأطفال من الابتعاد عن منازلهم أو الغابة، أما في جنوب أفريقيا فقد استخدموا اسم (Tokoloshe) وهو كائن خرافي يُستخدم لتخويف الأطفال أو تحذيرهم من البقاء وحدهم ليلًا، أما في غرب أفريقيا فقد استخدموا اسم (Anansi) وهي شخصية عنكبوت حكيمة أحيانًا وشريرة أحيانًا أخرى، تُستخدم قصصه لتعليم الأطفال القيم والحذر.

وفي الأمريكيتين، استخدموا اسم (La Llorona) كما في أمريكا اللاتينية، وهي (المرأة الباكية) وتمثل قصة شبح امرأة تبحث عن أطفالها الذين غرقتهم. تُروى لتخويف الأطفال ومنعهم من الخروج ليلًا، وفي إسبانيا وأمريكا اللاتينية أيضًا استخدموا اسم (El Coco) وهو يشبه الـ “بوغي مان” في الغرب، وهو شخصية تُستخدم لتخويف الأطفال، أما في عالم الأدب والمسرح فنقرأ “الأميرة والعفريت” لجورج ماكدونالد، وهي قصة خيالية فيها مخلوقات تُستخدم كرموز للخوف والشر، ولكنها تحمل دروسًا أخلاقية، وكذلك “الجميلة والوحش” حيث يمثل الوحش في القصة دور الخوف في البداية، لكنه يُظهر في النهاية أن المظاهر قد تخدع.

مثل هذه الشخصيات والخرافات لم تكن تُستخدم فقط لتخويف الأطفال، بل كانت وسيلة لنقل القيم الاجتماعية، وتعزيز الانضباط، وتحذير الأطفال من المخاطر، مثل الابتعاد عن المنزل أو التعامل مع الغرباء، وهذه الحكايات هي جزء من الإرث الإنساني المشترك، حيث يُوظَّف الخيال والخرافة لتعزيز السلوكيات المرغوبة أو لتعليم الأطفال دروسًا حياتية بطرق بسيطة وفعّالة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى