في ذِكرَى الأحبة.. محمد عبدالله الخليفة (بو ياسر)

د. عبدالجليل الخليفة
فُجِعنا قبل أسبوع بفقد الأخ العزيز محمد عبدالله الخليفة (بو ياسر) طيّب الله ثراه. لقد كنا نعلم بحب المجتمع له الصغير منهم والكبير، وشوقهم للقائه أسبوعيًا أيام حياته بابتسامته المعهودة وحديثه الطيب طيلة العشرين عامًا الماضية التي عانى فيها من عدم قدرته على المشي والحركة. ولكن ما أثلج صدورنا وأثار دهشتنا هو تلك المشاعر الوجدانية والكلمات الرقيقة والذكريات الجميلة التي شاركنا بها زملاؤه في العمل قبل عشرات السنين، وأصدقاؤه الذين سموه بوالدهم العزيز، وأقرباؤه الذين أحسوا بفقده الكبير، ومن هاتفنا معتذرًا لعدم علمه برحيل الفقيد إلا بعد انتهاء مراسم العزاء، فلهم جميعًا جزيل الشكر والعرفان على هذه المشاعر الفياضة.
رحمك الله يا أبا ياسر فقد كنت أبًا وأخًا وصديقًا وحكيمًا وخادمًا لمجتمعك ووطنك حتى آخر أيام حياتك. لقد قدّمت للوطن وللمجتمع خدمات جليلة طيلة عملك في وزارة العمل كموظف ومدير ومدير عام عبر إيجاد فرص عملٍ كريمةٍ لجميع المواطنين دون استثناء، وعبر دعمك غيى المحدود للشركات وللمؤسسات في بناء وتمكين مواردهم البشرية وتيسير أعمالهم، وعبر أفكارك البناءة في إيجاد فرص العمل الصيفي للطلاب، وفي تمكين المواطنين من ارتقاء المناصب الإدارية المهمة. إن حياتك النزيهة ويدك البيضاء وعملك الدؤوب وقلبك الحنون وكفاءتك الإدارية الفذة وتلك الكاريزما المميزة مثلت معالم سيرتك الزكية العطرة، وهي سبب هذا الحب الكبير والعشق العظيم الذي عبّر عنه المجتمع في حياتك وبعد وفاتك. هذه هي معالم الحياة الناجحة التي يحلم بها البشر، عطاءٌ وذكرًا حسنٌا في الدنيا ورضوانٌ من الله في الأخرة إن شاء الله بفضله وإحسانه.
هذه المقالة ليست سردًا لسيرة فقيدنا الراحل ولا لبيان عطائه، بل هي تحليلٌ وبيانٌ لأسباب نجاحه رحمه الله عسى أن تكون درسًا لنا ولأجيال المستقبل.
عوامل النجاح في حياة الفقيد:
الحب للآخرين: لقد أفنى الفقيد حياته محبًا عاشقًا للآخرين، يلتمس العذر لهم، يتلمس حاجاتهم، يتواضع لهم، يسعى لقضاء حوائجهم، تجري دموعه لمصائبهم، يبذل وجاهته لحل مشاكلهم، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، يستأنس بمجالسهم، يبتسم عند سماع كلامهم، ينظر إلى البعيد والقريب منهم على حدٍ سواء وهو يسعى لخدمتهم، وكثيرًا ما خرج المراجعون من مكتبه وملؤهم العجب من خدماته الجليلة لهم وكأنه يعرفهم من عشرات السنين. هذا الحب العابر للعوائل والأطياف والمناطق، هو حبٌ إنساني بحت لا تشوبه الأهواء الشخصية والمصالح الأنانية. لقد مرّت فرصٌ ذهبيةٌ على الفقيد كان باستطاعته أن يترك وظيفته في مكتب العمل ليلتحق بإحدى الشركات للعمل فيها بأضعاف راتبه الشهري، ولكنه آثر أن يبقى في وظيفته خادمًا للآخرين يسعى في قضاء حوائجهم،
الفهم الدقيق : عاش الفقيد عصاميًا يعمل ويدرس حتى أنهى المرحلة الجامعية، فجمع مع دراسته الأكاديمية خبرةً عمليةً زادت عن أربعين عامًا، درس فيها نظام العمل نظريًا وطبّقه عمليًا حتى فهم بحق كيف يحفظ المصلحة العامة للشركات والمؤسسات وفي نفس الوقت يحفظ المصلحة الخاصة للعامل والموظف، وكيف يكون هذا التوازن أداةً في بناء الوطن ودفع مسيرة التنمية. وحين يملك الإنسان هذا الفهم والإخلاص يرضى به الجميع حكمًا وحكيمًا، فيخرج من عنده رجل الأعمال أي مالك المؤسسة وكذلك العامل وهم في غاية الرضا والقبول بما رأوه من فهم كاملٍ للنظام وحكمةٍ بالغةٍ في التطبيق.
العمل الجاد: تميز الفقيد بالعمل الجاد لساعاتٍ طويلةٍ دون كللٍ او مللٍ، وكثيرًا ما رجع من عمله بعد يومٍ طويلٍ مثقلٍ بالمراجعين وهموم العمل وهو يحمل في يديه ملفاتٍ يدرسها في ليلته قبل رجوعه للعمل صباح اليوم التالي.
الاستقامة والنزاهة: عاش الفقيد في غاية الطهر والعفاف فلم يكن يبحث عن حيل قانونية يلتف فيها على القانون أو الشرع في حياته الخاصة والعامة، فكثيرًا ما كان يحتاط لمصلحة الآخرين على حسابه الخاص حتى أصبح مثالًا يضربه الآخرون في مجالسهم الخاصة وكثيرًا ما ذكر ذلك رجال الأعمال في غيبته أمام الآخرين، فرغم المغريات المادية، أبى إلا أن يعيش نزيهًا عفيفًا خادمًا أمينًا للوطن وللمجتمع،
الكاريزما : تميزت شخصية الفقيد بدعائم ثلاث، وهي:
أولًا: الفهم الدقيق للنظام والقدرة على تكييفه عمليًا، مشفوعًا بالثقافة الواسعة في جميع المجالات من شعرٍ وأدبٍ وعلمٍ وعملٍ واجتماعٍ وغيره،
ثانيًا: التفاعل الاجتماعي والقدرة على زرع المحبة والمودة في قلوب الموظفين والمراجعين عبر عشرات السنين من الحياة معهم وحلّ مشاكلهم،
ثالثًا: الإخلاص لجميع المواطنين وتحقيق مصالحهم ضمن القانون، فهو العادل الأمين الذي يخدم الجميع دون تمييز،
وحدة المسار: لقد ضرب الفقيد أروع الأمثلة في الاستقامة والنزاهة والفهم والعمل والإخلاص في عمله ووظيفته، وعاش المسار نفسه في بيته ومجتمعه، فهو الأب الحنون والأخ الكبير والخيمة الواسعة والقلب الطاهر الذي لا يعرف الحقد والحسد، والباب الذي يطرقه القريب والبعيد للاستشارة أو لحل المشاكل أو لإصلاح ذات البين، فلا عجب أن أحبه القريب والبعيد، فهم فيه شركاء، الكلّ يحسبه من فرط حبه له فقط، وهو لهم جميعًا،
النية الخالصة: كنت أكتب بعض مذكرات حياته، وحين قرأت بعضها عليه، طلب مني ألّا أميط اللثام عن بعضها بل أتركها دون ذكر، وحين سألته عن سبب ذلك، قال بتواضعه المعهود، إنه عملها خالصة لوجه الله وليس لحديث الناس. هذا ما يفسر هذا التوفيق الرباني العظيم له طيلة حياته، حتى أبقى ذكره في قلوب الناس وكأنّه حيٌ بينهم.
رحمك الله يا أبا ياسر، وجعلك نبراسًا نقتدي به ونستضيء بذكراه العطرة، وأسبغ عليك شآبيب رحمته، وحشرك في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والحمد لله ربّ العالمين.