أقلام

أثر الغياب وتجلي البقاء – قراءة في “يرحلون ولا يرحلون” 

عماد آل عبيدان

تحليل وقراءة نقدية لقصيدة الشاعرة رباب حسين النمر، يرحلون ولا يرحلون في رثاء جدها المغفور له بإذن الله حسن محمد الحسين النمر رحمه الله.

أولًا: البنية العامة والمعمار الفني

القصيدة تتخذ من البحر الكامل بحرًا لها، وهو بحر ذو إيقاع قوي ومتدفق، يتناسب مع موضوعها الذي يجمع بين رثاء الفقد وعظمة الفقيد. ويظهر التزام الشاعر بوحدة القافية (الباء المضمومة) مما يضفي على النص تناغمًا موسيقيًا رصينًا يتماهى مع طابع الحزن والهيبة.

ثانيًا: التناول الموضوعي

تنطلق القصيدة من لوعة الفقد وأثر الغياب، ثم تتصاعد تدريجيًا نحو تمجيد مناقب الفقيد، حيث يبرز الشاعر سماته القيادية والأخلاقية، قبل أن يختم بالدعاء له في مقام الخلود. هذه البنية التصاعدية تعكس بمهارة تطور المشاعر من الصدمة والأسى إلى التقدير والرضا بقضاء الله.

ثالثًا: الصور الشعرية والتخيل الفني

يبرع الشاعر في تشكيل صور تنبض بالحياة، ومن أبدعها:

1. “وضجّت في مآقينا السحابُ”

• صورة بليغة حيث جعل السحاب كناية عن الدموع، لكنه لم يكتفِ بذلك، بل أضفى عليه فعل “ضجّت”، في تشخيص للحزن كأنه كائن يهدر في العيون، وهي صورة جديدة مقارنة بالصور التقليدية للبكاء والمطر.

2. “نلوذُ به مسجى فوق نعشٍ فيسخرُ من فجيعتِنا الترابُ”

• هنا تناص خفي مع مفهوم سخرية القدر والموت، حيث يُبرز الشاعر مأساوية الفقد بجعل الأرض وكأنها كائن ساخر، في مفارقة مأساوية تعمّق الشعور بالفجيعة.

3. “ويخطفُ من سماء الروح بدرًا”

• هنا استعارة مكنية رائعة، جعل فيها الفقيد بدرًا مضيئًا يُنتزع من سماء الروح، حيث يلتقي الجانب الحسي (البدر) بالجانب الروحي (السماء والروح)، مما يخلق صورة تجمع بين الرهبة والجمال.

4. “تجودُ بما لديك كضوءِ شمسٍ له في كلِّ ناحيةٍ إيابُ”

• هذه الصورة ترسّخ معنى العطاء اللامحدود، حيث جعل الكرم صفة ملازمة له كما أن الشمس لا تحجب نورها عن أحد، بل ترحل وتعود باستمرار.

5. “وفي يمناكَ تنبتُ بالمعالي حقولُ البرِّ، يؤنسُها انسكابُ”

• استعارة فخمة تجسد سخاء اليد وبذل المعروف، حيث يجمع الشاعر بين الزراعة والقيم النبيلة، فتصبح اليد التي تعمل هي نفسها التي تُنبت الخير، مما يعزز العلاقة بين الجهد الإنساني والنتائج الخيّرة.

6. “إذا مست يداكَ يباسَ قومِ تبدل يانعًا وأتى الصوابُ”

• هنا نرى إحالة إلى رمزية المسيح الماحي للألم، حيث تتحول اليابسة إلى خضرة بلمسة منه، وهو تعبير عن قدرة الفقيد على إحياء الأمل، وكأن يده كانت سرّ البركة والإصلاح.

رابعًا: العمق الفكري والدلالات الرمزية

• القصيدة لا تقتصر على المدح المباشر، بل تتجاوز ذلك إلى رسم صورة للقائد الحكيم صاحب البصيرة، فكأنها تقدم نموذجًا للإنسان الذي يعيش ليترك أثرًا خالدًا.

• استخدام كلمات مثل: الفصل، الخطاب، الحكمة، الحزم، الحق، النصيحة يُشير إلى أن الفقيد لم يكن مجرد كريم اليد، بل كان رجل موقف وحكمة.

خامسًا: النهاية والدعاء

• تختتم القصيدة بدعاء مكثف “سقاك الله كأسًا من دهاقٍ وكنت مع الذين زكوا وطابوا”

• وهنا إحالة قرآنية (كأسًا كان مزاجها كافورًا، ومزاجها زنجبيلا)، مما يضفي على الختام روحانية ووقارًا.

• ثم تأتي الخاتمة “وأسكن روحَك الفردوسَ، رَوحًا وريحانًا، فيا نعمَ الأيابُ”

• وهذه الجملة تجمع بين السجع والموسيقى، مما يجعل وقعها على السمع رائقًا ومؤثرًا.

الخلاصة النقدية

القصيدة تجسد رثاءً يتجاوز العاطفة المباشرة إلى تصوير جمالي فلسفي للموت، حيث يصوّره الشاعر كأمر جلل لكن محتوم، يترك خلفه أثرًا خالدًا. الإيقاع قوي، الصور زاخرة بالإيحاء، واللغة رصينة، مما يجعل القصيدة تحفة فنية في أدب الرثاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى