“في أربعينية النمر: وداعًا يا أبا جعفر… وستبقى ذكراك خالدة”

محمد ملاحسن الأصمخ
قال الله عز وجل: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”.
في البداية، أتقدم بأحر التعازي إلى أفراد أسرة الفقيد، وعائلة النمر الكريمة كافة، وبالخصوص إلى سماحة الشيخ عبد الله النمر، أطال الله في بقائه.
اليوم نرثي رجلًا عظيمًا، فاضلًا، زاهدًا، صاحب شيم وكرم وتقوى وورع وعلم، سماحة الفقيد المربي الفاضل، [الشيخ عبد المحسن النمر]، تغمده الله بواسع رحمته. كان نورًا في حياتنا، ومرشدًا في طريقنا، وسندًا في أوقات الشدة. كان رجلًا فريدًا، يملك قلبًا كبيرًا، وروحًا عالية.
ورغم تدافع العَبَرات وانهمار الدموع في هذا المصاب الجلل، نقول: الحمد لله على كل حال.
لقد كان هذا الشيخ رجلًا عفيفًا، طاهرًا، حريصًا على حقوق الآخرين، محترمًا للجميع، باحثًا عن الحق، مجتهدًا في سبيل الله.
إن فقيدنا الغالي، سماحة الشيخ [عبد المحسن النمر]، ينتمي إلى مدرسة نادرة، وهي مدرسة التواضع.
في هذا اليوم، نرثي رجلًا كان يتحلى بكل الصفات الحميدة، رجلًا يُلهم الآخرين، ويجذبهم إلى طريق الحق. كان يملك قلبًا كبيرًا، وروحًا نقية.
رحمك الله يا شيخنا العزيز، اللهم أجرنا في مصابنا، واخلفنا خيرًا منه، وألهم ذويه وألهمنا الصبر على هذا المصاب الجلل.
نودعك، يا أبا جعفر، بقلوب يعتصرها الألم، ودموع يملؤها الحزن، ووجدان يفيض بالفقد واللوعة.
بالأمس القريب كنت بيننا، تلهمنا بنفحات روحك الزكية، وبقيمك وأخلاقك وحسن سيرتك مع الآخرين، لكنك اليوم في دار البقاء، عند الله نحتسبك.
الموت هو الحقيقة الكبرى التي قد نغفل عنها، لكنه سيدركنا لا محالة: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ”.
في المجتمعات الغافلة، يُتناسى الموت، وتصم الآذان عن هذه الحقيقة العظيمة، أما في حضارتنا الإسلامية، فنذكر الموت، ونجعله جزءًا من حديثنا وحياتنا، ونحضر جنائز موتانا، كما علمنا أئمتنا الأطهار، وفق فلسفة ديننا الحنيف.
إن رحيل شيخنا الفقيد رسالة لنا، نحن الأحياء، لنذكر هادم اللذات، ونتأمل في الموت بتخشع وتدبر، استعدادًا للقاء الله عز وجل.
لقد كان الفقيد حاملًا لرسالة سامية، وصاحب قضية. كان يردد دائمًا أن طالب العلم له دور اجتماعي، إلى جانب أدواره الأخرى، وكان يؤكد على المسؤولية الاجتماعية. فطالب العلم قدوة في الأخلاق، وحامل للقيم التربوية في المجتمع.
لقد ترك برحيله ذكرى غالية لكل من عرفه أو سمع عن مناقبه، واستحق الثناء من الجميع دون استثناء. فقد كان من الرجال المؤمنين الفاضلين، الساعين إلى أعمال الخير، يساعد الفقير والمحتاج، ويبذل في العطاء سرًا دون أن تعلم يمينه ما أنفقت شماله. كان يسعى دون كلل أو ملل في مساعدة من يستحق العون، ومن يطلب منه المساعدة دون تردد.
رحمك الله يا أبا جعفر، فقد كنت من الرجال القلائل الذين تركوا أثرًا خالدًا وحزنًا عميقًا في قلوبنا وقلوب محبيك. لقد كنت رجلًا تقيًا، نادرًا في زمنك.
فإلى جنات الخلد، يا مربي الأجيال. وإن رحلت من دار الفناء إلى دار البقاء، فإن ذكراك العطرة ستبقى راسخة في قلوبنا، وستجد أعمالك الخيّرة في ميزان حسناتك بإذن الله تعالى.
سنفتقد ابتسامتك، وصوتك، وكلماتك، وشهامتك، وإنسانيتك، وكرمك، وصورتك البهية التي لطالما رأيناها في المسجد وفي محرابه. لكنك ستظل في ذاكرتنا على الدوام.
وفي الختام، نقول لكم: عزاؤنا واحد. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا شيخ لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم ارحم فقيدنا برحمتك الواسعة، واغفر له، وأسكنه فسيح جناتك، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وارزق أهله وذويه الصبر والسلوان. اللهم ارحم جميع موتى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. آمين يا رب العالمين.
نم قرير العين، أيها المربي، يا أبا جعفر، فقد تركت لنا إرثًا خالدًا، نستمد منه الكثير من سمو أخلاقك وتربيتك. وكما يُقال: “لا تموت ذكرى رجل خلّف وراءه أنجالًا كرامًا، وطلاب علم أكفاء، نهلوا من علمه وحسن تربيته، وتحلّوا بعظيم أخلاقه، ولن يتوانوا عن إكمال مسيرته”.
*ذكرى وألم*
▪️في ذكرى رحيل سماحة العلّامة الشيخ عبد المحسن محمد طاهر النمر (رحمه الله)، يعود بنا شريط الذكريات إلى كل موقف وصورة وحديث ومشهد؛ في مواطن العبادة، ومواقع الكلمة، ولحظات ألم الموعظة.
▪️ويأتي حفل التأبين محمّلًا بثقل الذكرى، حيث واجه محبّوه تحديًا كبيرًا: كيف تُعرض وتُروى سيرة حافلة بالعطاء والتحوّلات، تتطلّب التوثيق والرصد، وجمع المادة من شتات المصادر؛ من أرشيف الصور، وقلوب المحبّين، وعيون الأقرباء، وكل من كانت له به صلة؟
▪️ورغم الضغوط، والظروف الراهنة، وضيق الوقت – خاصة أن الشيخ رحل في شهر رمضان المبارك، وحلّت الذكرى بعد عيد الفطر السعيد – فقد ازداد العبء في ترتيب الحفل، وتنسيق فقراته، وتحديد المدعوّين والحضور. ومع كل ذلك، رست سفينة التأبين أخيرًا في مسجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، الذي كان الشيخ إمامه الراتب منذ افتتاحه المبارك.
▪️وجدير بالذكر أن مسجد الرسول الأعظم قد تأسّس في الخامس عشر من شهر شعبان عام 1427هـ، وافتُتح في يوم الغدير الموافق للثامن عشر من شهر ذي الحجة عام 1431هـ، بحضور سماحة السيد علي الناصر، وجمع من أهالي المنطقة ورجال الدين.
▪️وكان سماحة الشيخ، الذي أُطلق عليه لقب “صاحب القلب السليم”، محور حفل التأبين، حيث استهلّ الأستاذ الشاعر باسم العيثان الحفل بمقدمة مؤثّرة، تلتها كلمة سماحة الشيخ عبد الله محمد النمر، التي عبّرت عن مشاعر الأخ والصديق، ومثّلت أيضًا عائلة النمر بما حملته من ألم وحزن لرحيله. فقد كان الشيخ عبد الله يتقاسم مع الفقيد همّ الأسرة والأبناء، وكذلك همّ المجتمع، وحملات الحج، وإقامة الصلاة في المسجدين، والتنسيق التام، بحيث لم يشعر المجتمع بوجود فوارق علمية أو خصائص ومميزات شخصية.
▪️كما شارك الضيوف بكلمات عبّرت عن تقديرهم ومكانة الشيخ الراحل، وتخللت الفقرات مقاطع مختارة من كلمات الشيخ (رحمه الله) أُعدّت بعناية، ورافقتها صور مؤثّرة جسّدت مسيرته، وأثارت مشاعر الخشوع والترحّم في نفوس الحاضرين.
▪️كما تضمّن الحفل قصيدة شعرية عبّرت عن الأبوة، وصورة الشيخ المُربي والعالم، الذي إذا فُقد، ثُلم في الدين ثُلمة لا يسدّها شيء.
▪️أما فقرة حوزة الإمام الصادق (عليه السلام) التي قدّمها السيد هاشم السلمان، فكانت كلمة أخوية معبّرة عن صداقة وعوامل مشتركة بين حياة الفقيد وسماحة السيد، وتأثر الحضور بألم فراق الأخ والصديق وزميل الدراسة والبحث، وصاحب الهمّ المشترك في نشر العلم وتوعية المجتمع وتلمّس احتياجاته في مختلف الميادين.
▪️وأُلقيت كلمة مسجد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، التي حملت مشاعر الحنين، ولوعة الفقد، وألم الفراق.
▪️أما لوحات الأوبريت، فقد كانت فنية راقية، اختيرت بعناية لتعكس أبعاد المناسبة العاطفية والروحية.
▪️وفي ختام الحفل، صدح صوت السيد أحمد التاريخ بالنعي الحسيني، بأداء مميز، اختُتمت به هذه المناسبة الحزينة.
▪️وقد كان الحضور من مختلف أطياف المجتمع: من العلماء، وأهل الفضل، وأبناء الفقيد وإخوته، وجيرانه، والمصلين في المسجدين، الذين كان لهم إمامًا ومربيًا ومعلمًا ومرشدًا.
▪️والشكر موصول لكل من ساهم في هذا العمل المبارك، الذي لا يعني نهاية العلاقة بالشيخ، بل بداية لتجديد العهد بإحياء تراثه، وطباعة مؤلفاته، والحفاظ على إرث العلماء في حياتهم، حتى لا نقع في فخ النسيان. وكما يُقال: “ضاع علمٌ بين جُهّال، ولا نشعر بقيمته إلا بعد رحيله.”
▪️وقد يتساءل البعض من خارج المنطقة:
▪️”ماذا قدّم لكم؟”
▪️والجواب:
يحتاج الأمر إلى مراجعة شريط الذكريات.
▪️وأخيرًا، نسأل الله أن يتغمّده بواسع رحمته، ويحشره مع محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
▪️رحم الله من يقرأ له سورة الفاتحة، مسبوقة ومتبعة بالصلاة على محمد وآل محمد.