أقلام

لعبة الفهد الحلقة الأولى

إبراهيم الرمضان

تدور أحداث رواية لعبة الفهد حول شاب قضى عشر سنوات في السجن بتهمة لا يقرّ بها. تمتاز الشخصية الرئيسة بسخرية فلسفية تُعبّر عن رؤيته الفوضوية للعالم، ويواجه مجتمعه المتشكك ونظرات الإدانة التي تطارده أينما ذهب. تسلّط الرواية الضوء على صراعه الداخلي بين محاولة التكيّف مع الحياة بعد السجن والبحث عن العدالة المفقودة.

على الجانب الآخر، تكشف الرواية عن عالمٍ يسوده الجشع والنفوذ، يتجسّد في شخصية (أبو مشاري) ذي الهيمنة والقسوة، الذي تفرض مواجهته تحدياتٍ لا تقل خطورة عن صدامات فهد مع المجتمع. يلجأ فهد إلى سرقاتٍ يبرّرها بأنها “لعبة عدالة”!! بينما تتصاعد الأسئلة حول الخط الفاصل بين الصواب والخطأ، وتتضح تدريجيًا مؤامرات تحيط به من كل جانب.

تمزج الرواية بين الدراما والإثارة، وتقدّم رحلةً مليئةً بالمفاجآت والحوارات الممتعة التي تلامس مشاعر القارئ وتجعله يتأمّل مفاهيم العدالة من خلال أحداثها التصادمية والمشوّقة. الفصل الأول: بداية جديدة… أم عودة للفوضى؟

–     كنتُ أعتقد أن هذا المبلغ ضخمٌ… لكن يبدو أن كل شيء تغيّر خلال السنوات العشر التي غبتُ فيها.

هكذا تمتم فهد في نفسه، وهو يضع قبضته على حافة مكتب الضابط، يتأمّل شريط الفيديو الذي صوّرته كاميرات المحلّ. ظهرت فيه ملامحُه بوضوح، ومع ذلك كان يتمتم بسخرية مُحاولةً منه لإخفاء ارتباكه الداخلي.

الضابط (ملتفتًا إلى أبي فهد بصوتٍ يحمل نفاد صبر واضح):

–     لقد سمعته بنفسك، اعترف أمام الكاميرا وهو “يفكّر بصوتٍ عالٍ” بأنّه سيقتحم المحلّ من أجل 500!

تنهّد أبو فهد بوجهٍ متجمّدٍ بين الخجل والغضب، قبل أن يلتفت إلى فهد ويصرخ:

–     500 يا أحمق؟! أهذا ما يجعلك تُلصِق بنا العار؟!

رفع فهد نظره ببطء، وهو يحاول السيطرة على توتره الداخلي، ثم أطلق ضحكة ساخرة قصيرة:

–     كنتُ أظنّ أنّ هذا مبلغٌ كبير؛ ولكن يبدو أن الدنيا تغيّرت، وصارت قيمته لا تستحقّ كلّ هذا الصخب. طالت غيبتي، وهذه أولى مفاجآت الواقع الجديدة!

لاحَظ الضابط تغير تعابير فهد بين الحين والآخر؛ شيئًا أشبه بخليط من الارتباك وعدم المبالاة المصطنعة. مدّ الضابط يده لإيقاف الفيديو وقال بنبرةٍ أكثر جدية:

–     اسمع، لسنا هنا للحديث عن التضخّم في أسعار الأسواق. القانون واضح؛ سرقة موثَّقة بالصوت والصورة.

كان صاحب المحل يتفرج على الوضع، واضعًا يده على خده:

–     لا أريد تعويضًا منه؛ لا أريد أن أراه أصلًا. فليتعهّد فقط ألّا يمرّ من أمام محلي. لو لمحته الكاميرا مجدّدًا، سأمسح بوجهه الأرض!

تكلّم فهد بلهجةٍ فيها تحدٍّ ظاهري، وإن بدا في عينيه شيء من القلق:

–  جميل، إذن أستطيع المغادرة دون خطبة عصماء؟ أشكرك على رحمتك يا صاحب المحل.

قبل أن يتحرّك فهد خطوة واحدة، لوّح الضابط بيده بقوة:

–     قف مكانك! لا يزال هناك حق عام.

قال أبو فهد، متنهدًا بتهكم:

–     طيّب … خذوه واحبسوه مجدّدًا إن شئتم… أنا تعبت منه!

وبينما كان الضابط يُقلّب بعض الأوراق متوجّهًا نحو “الإجراء الرتيب”، التفت إلى رفاقه من رجال الأمن الجالسين في التوقيف ورآهم يشيرون إليه بفزع، وكأنهم يقولون له بحركات عشوائية مذعورة: “لا لا لا، ليس مجددًا!!” بدا وكأن فهد قد أصبح مصدر قلق حتى لأكثر الموظفين خبرة في التعامل مع الموقوفين.

أخذ الضابط نفسًا عميقًا، ثم قال بلهجة فيها شيء من الحسم:

–     حسنًا، سنكتفي بتعهد خطّي هذه المرّة… ولكن يا فهد، لو تجرّأت على حماقة أخرى، فلن ترى منّا أي تساهل! هذا تحذير شديد اللهجة.

اقترب أحد رجال الأمن من فهد وأمسكه من ذراعه، وقد بدا فهد كمن يلبس قناع “الثقة الزائفة” ليخفي ارتباكه؛ سار ببطء مصطنع نحو الباب، ثم التفت بابتسامة جانبية:

–     تحذير شديد اللهجة؟ تقصد مثل ملصق على باب منزلي: “احذر! لصّ لطيف يسكن هنا”؟؟!

شعر الضابط برغبة في الانفجار غضبًا، لكنه أشار إلى الباب:

–     اخرج قبل أن أغيّر رأيي وأجعلك تنزل ضيفًا عندنا من جديد!

عاد أبو فهد بابنه بسيّارته عند الثانية صباحًا تقريبًا، وما إن دخلا المنزل حتى دفع الأبُ بابنه ليسقط فهد على أرضية الصالة:

–     اذهب لغرفتك، سود الله وجهك! لم أعد أحتمل فضائحك.

تنهّد فهد تنهيدةً طويلة، وقال بصوتٍ خافت حتى لا يسمعه أبوه:

–     عشرُ سنوات في السجن… وعدتُ لأجدني في عالمٍ مختلف.

سرعان ما ارتفع صوته الساخر، يخاطب نفسه:

–     لكن عليّ التأقلم، أليس كذلك؟ وقت الفراغ الطويل في الزنزانة علّمني ألا أستسلم.

ذلك هو فهد: شابٌّ تجاوز الثلاثين من عمره، قضى عشر سنوات من حياته خلف القضبان وخرج منها قبل أكثر من شهر، ولا يزال هناك شيء غامض في سبب سجنه، فهو يصرّ باستمرار أنه لم يكن مذنبًا بالكامل، ولكنه لم يستطع إثبات براءته. كما أن فهد لم يكن مجرد شخص دون تعليم، بل كان طالبًا ذكيًا، التحق بكلية الهندسة – ذات التخصص الذي درسه والده – ولكنه طُرد منها بسبب مشكلة انضباطية أدت إلى فصله، مما عزز لديه قناعة راسخة بأن “النظام” يقف ضده ولا ينصف أمثاله!!

علاقته بوالده كانت دائمًا مضطربة، ولكنها لم تكن كذلك منذ البداية. في طفولته، كان يحاول جاهدًا أن يكون الابن المثالي، ولكنه كان يقابل دائمًا بالإحباط والانتقاد اللاذع بسبب مشاكله وأفعاله الطائشة، حتى فقد الأمل في نيل رضا أبيه نهائيًا، وقرر أن يتوقف عن محاولة إثبات أي شيء.

رفع عينيه إلى السقف ببعض الضيق، ورفع صوته لكي يسمعه والده في غرفته المغلقة:

–     لا تقلق يا أبي… لن أزعجك هذه الليلة. نم هادئًا وأنا سأهتمّ بنفسي.

دخل فهد وهو يتوقّع نسمةً باردةً من المكيّف بغرفته، ولكنّه وجده مطفأً تمامًا. حدّق في السقف بضيقٍ لم يلبث أن تحوّل إلى صياحٍ غاضب بعد أن خرج من غرفته:

–     عَلِي! علِي! أين أنت أيها الناعس؟!

اعتلى صوتُ فهد أرجاء الصالة حتى سُمِع حفيف بطانيّة في الغرفة المجاورة؛ كان علي، شقيقه الأصغر ذو الخامسة عشرة، قد استيقظ مذعورًا.

علي (وقد ظهر من الغرفة نصف نائم):

–     فهد؟ غريب! كنت بالشرطة البارحة، ماذا تريد؟ أتريد إزعاج الحي كلّه؟!

فهد، مقاطعًا بغضب:

–     قبل تلبيتي لضيافة الشرطة تركت المكيف بوضع التشغيل، من الذي أطفأه؟!

رد علي، مدافعًا:

–     ظننت أنك ستُسجن قرونًا، وهل تعتقد بأني سأتركه يعمل طوال فترة سجنك؟ دع المكيف يرتاح، فقد عمل أكثر منك!

فهد (وقد تغيّر صوته من حدّة إلى نبرة ساخرة متفلسفة):

–     عجيب… ألم نتجاوز العصور الوسطى في مفهوم الملكية الخاصة؟! متى كانت غرفتي “مشاعًا عامًا”؟ يبدو أنكَ لم تطّلع على النظريات الفلسفية التي تناولت مفهوم “الحق الطبيعي”، جون لوك كان سيُصاب بالجنون لو سمع كلامك هذا!

رد علي:

–     لست بحاجة إلى إذن. مكيفك سيستهلك من الفاتورة الكثير دون فائدة طالما أنك غير موجود.

فهد، غاضبًا أكثر:

–     وهل أنتَ أمين الصندوق في هذا البيت؟ هل أصبحتَ أنتَ من يدير الميزانية؟ من الذي يدفع الفواتير أصلًا؟ أنت أم أبي؟!

أجاب علي:

–     أنا المتضرر من ذلك!! بسببك لم نذهب إلى المطعم الشهر الماضي بسبب فاتورة الكهرباء المرتفعة.

فهد، متأملًا سقف الغرفة وكأنه يلقي محاضرة فلسفية:

–     أوووووووه، والدك بخيل لدرجة أنني أتساءل إن كان سيتحمل تكاليف دفني يومًا ما! تُذكّرني بميكافيلي حين نصح الأمراء بعدم الإسراف في الإنفاق على رفاهية الناس، حتى لا يفقدوا ثرواتهم سريعًا! يبدو أن والدك أخذ نصيحته بحذافيرها، فهو يخشى أن يفقد ثروته… والضحية؟ مكيفي المسكين! كأننا ندير مصنعًا سريًا للطاقة داخل هذا المنزل!

علي محاولًا الدفاع:

–     طالما من يسكن المنزل ثلاثة فقط، لماذا تقوم بتشغيل مكيفين بوقت واحد؟ بغرفتك وبغرفة الجلوس على مدار الساعة دون توقف؟ كل هذا لكي تحافظ على أجوائك باردة وتعيش كالملوك؟!

رد فهد، ساخطًا:

–     أعيش كالملوك؟ يا أخي، هذا مكيف، ليس طاقم خدم ملكي! حتى العظماء يحتاجون إلى أجواء مناسبة ليبدعوا، نيوتن لم يكتشف الجاذبية وهو يتصبب عرقًا! لذا، اغرب عن وجهي قبل أن يتحول الأمر إلى تجربة علمية جديدة عن تأثير ضربة الشمس على التفكير الإبداعي!!

دخل الغرفة وأغلق باب الغرفة في وجه علي.

علي (مقلدًا صوت الشمس):

–     آه، أنا الشمس، آسفة يا فهد، لم أقصد أن أكون السبب في معاناتك! كل ما أردته هو أن أدفئ العالم، ولكن يبدو أنني حولتك إلى ضحية مكيف مسكين.

تجاهله فهد واتجه إلى السرير، لكن صوت طرق الباب أعاده مجددًا.

فهد، فاتحًا الباب بغضب:

–     ها أنت مجددًا؟ ماذا تريد؟!

علي، بهدوء:

–     أود تذكيرك بأنه عصر غدٍ سنقوم بزيارة والدتنا مثل كل أسبوع. أتمنى ألا تقوم بتعطيلنا كما هو عادتك.

فهد، ساخرًا:

–     أها، سيكون يومًا حافلًا بالنوائح إذن! ولكن لا تقلق، سأوفر مناديل ورقية للجميع.

علي بعصبية وعينيه تكاد تخرج منه الشرر:

–     يااااا فهههددددد!!!!.

فهد، ضاحكًا:

–     كفى كفى لا تغضب! وفر دموعك حتى ذلك الحين، أعدك بأني لن أتأخر عن وقت الخروج يا سيدي صاحب القلب المرهف والرقيق.

علي:

–     حسنًا. تراجع قليلًا للوراء لأغرب عن وجهك بأقل قدر من الأضرار.

فأغلق علي الباب بعنف شديد.

فهد، متنهدًا:

–     يا إلهي، حساس أكثر مما ينبغي.

غالبًا ما ينظر فهد إلى الحياة بمنظور ساخر، يتعامل مع الواقع بتهكم واستهزاء، وكأنه يحاول بذلك خلق حاجز بينه وبين قسوة التجارب التي مر بها. يتمتع بفكر تحليلي يميل إلى الفوضوية، حيث انغمس في كتب الفلسفة وعلم النفس، ليس بحثًا عن الحقيقة، بل ليعيد تفسير الواقع وفقًا لرؤيته الخاصة. ولكنه لم يستخدم هذه المعرفة بالطريقة التقليدية، بل أعاد تشكيلها لتبرير سلوكه العبثي وقراراته غير المتوقعة.

كان سجنه محطة غير متوقعة لصقل هذا الجانب في شخصيته. لم يكن السجن كما تتجلى صورته النمطية في الأذهان؛ لم يكن مكانًا مظلمًا يعج بالسلاسل والقيود، بل على العكس، المؤسسات العقابية في البلاد تسعى إلى توفير بيئة إصلاحية وتأهيلية للنزلاء مع مراعاة احتياجاتهم المختلفة، إضافة إلى إتاحة بعض التسهيلات التي منحت السجناء خيارات أوسع لتمضية الوقت. أحد هذه التسهيلات كان إمكانية الحصول على الكتب عند الطلب وذلك لتعزيز المعرفة والقراءة خلال فترة العقوبة، ما سمح لفهد بالتوغل في عوالم الفلسفة وعلم النفس، حيث وجد في هذه القراءات مساحةً يعيد فيها بناء أفكاره بطريقته الخاصة.

أما علاقته بشقيقه الأصغر، علي، فهي معقدة كغيرها من علاقاته. رغم أنها تحمل مشاعر الأخوّة الحقيقية، إلا أن عليًّا لا يظهرها بشكل مباشر، بل يفضل إخفاءها خلف جدار من السخرية والمشاحنات اليومية. ربما كان ذلك خجلًا من تصرفات فهد غير المتوقعة، أو تهربًا من مواجهة حقيقة وضعه، خاصة في ظل نظرة المجتمع التي وضعت حول أخيه وصمةً يصعب محوها. ومع ذلك، في لحظات نادرة، كانت العلاقة بينهما تكشف عن شيء أعمق من مجرد المزاح المتبادل… ربما كانا أقرب مما يريدان الاعتراف به.

بحلول العصر…

ركب أبو فهد السيارة مع ابنه علي، الذي كان يحتضن بين يديه باقة ورد حمراء اشتراها صباحًا، استعدادًا لزيارة والدتهما. كان الاثنان ينتظران فهد، الذي – كالعادة – تأخر عن الموعد المحدد. كاد أبو فهد أن يفقد صبره، وهو يضرب مقود السيارة بإيقاع متململ، حتى ظهر أخيرًا من باب المنزل، يرتدي أنظف ثيابه وأزكى عطوره، وكأنه في طريقه إلى حفل زفاف.

أبو فهد، متأملًا ابنه فهد:

–     أظنك تعرف إلى أين نحن ذاهبون!

فهد، مازحًا:

–     دعني أخمن… إلى ديزني لاند؟ أم أننا سنشتري لك سيارة جديدة؟

أبو فهد، بجدية:

–     لا تمازحني. أولسنا ذاهبين لزيارة أمك؟

فهد، وهو يشبك يديه خلف رأسه مسترخيًا:

–     أوه نعم، بالطبع! فقط أردت أن أتأكد أنك لم تنسَ الهدف النبيل من رحلتنا.

أبو فهد، وقد عقد حاجبيه:

–     ولكني أراك ارتديت الملابس التي اشتريتها لك لحضور زفاف عمك قبل أن أزفك لقفصك الأسود الذي يسمونه (سجن)!!

ابتسم فهد بخبث، ومرّر يده على ياقة ثوبه وهو يقول:

–     فعلًا، للتو أدركت أنه كان لك ذوقًا رائقًا حين اشتريتها يا أبي… آه، زواج عمي الذي فاتني، يا له من حدث تاريخي! خلال السنوات التي كنت فيها غائبًا، أنظمة بأكملها انهارت، بينما عمي حقق إنجازه الأعظم… إنتاج مخلوقات بيولوجية صغيرة تخصصت في إزعاج البشرية، وبصراحة، أعتقد أن غيابي عن الحفل كان خسارة كبيرة لكم جميعًا! لكن يجب أن تكون فخورًا بأنني ساهمت بشكل غير مباشر في حفل الزفاف، فقد جعلت من قصة سجني “الحلوى” التي أضافت نكهة درامية لهذا الحفل الممل! على الأقل، المدعوون لم يضطروا لمناقشة جودة الكبسة أو نوع العصير!

أبو فهد، متنهدًا بضيق:

–     لا تكثر من الثرثرة، ألا ترى أن وجهتنا لا تستدعي كل هذه المبالغة في الأُبهى والشياكة؟ ثم إنك عطّلتنا لأكثر من ربع ساعة ونحن ننتظرك!

فهد:

–     ولماذا لا؟ أليس من حق أمي أن تراني بأفضل صورة؟! إنها قد تفتقد لمسة الأناقة في عائلتنا… ثم ولماذا كل هذه العجلة؟ ما دمنا نزورها كل أسبوع؟ هل تعتقد أنها ستوبخنا إن تأخرنا ربع ساعة؟!

من خلفهما، جاء صوت علي (الأخ الأصغر):

–     على الأقل احترم أمَّك في كلامك! أنا جاهز منذ الصباح، وأنت ما تزال تمطّ الوقت كالعادة.

التفت إليه فهد ببطء، وتأمل الباقة في يده قبل أن يعلّق ببرود:

–     حسنًا حسنًا… سيبدو اليوم حافلًا بالنصائح والمحاضرات.

صمت لبرهة ثم رفع حاجبيه وهو يشير إلى الباقة:

–     بالمناسبة، ما الذي تنوي فعله بكل هذه الورود؟ أمك ليست مريضة لتُهديها وردًا على سرير المستشفى!

تنهد علي بملل، ثم التفت إلى أبيه متجاهلًا الرد على فهد:

–     أبتاه، أرجوك انطلق، أخشى أن نتأخر.

انطلقوا حتى وصلوا إلى وجهتهم، نزلوا من السيارة مع باقة ورود حمراء يحملها علي ليهديها لوالدته، ساروا حتى وصلوا لمكانها حيث ترقد بسلام، نثر علي ابنها على مثواها الورود، ثم قرأوا على روحها الفاتحة.

أبو فهد:

–     رحمك الله يا أم فهد، سنة مرت على رحيلك، نطمئنك بأننا جميعًا بصحةٍ جيدة، وهذا ابنكِ “علي” كما عهدتهِ مثابرًا وعلى وشك أن ينهي المرحلة المتوسطة بدرجات عالية، وها هو ابنكِ الأحمق والسافل “فهد” كما عهدتيه وعرفتيه، لقد خرج من السجن أخيرًا، ولكنه يبدو أنه مشتاقٌ إلى العودة إليه مجددًا.

فهد:

–     يبدو أن هذا اليوم لن يمر بسلام، ألن تسمعها كلامًا جميلًا عني؟؟!!

أبو فهد:

–     ماذا تتوقع أن أقول لها عنك؟ منذ مغادرتك السجن لم نرتح من مشاكلك.

علي:

–     أبي، فهد، يكفي… دعونا نظهر أمام والدتي كما تحب.

فهد:

–     رائع رائع، عزيزي علي، هلا تلطفت علي وأظهرتني بشكلٍ أجمل أمام والدتنا؟

علي:

–     أمممممم، أتطلع بأن تصبح إنسانًا سويًا وراشدًا، محبًا للخير وتسعى لمساعدة الفقراء والمساكين.

فهد ملفتًا إلى قبر أمه:

–     أسمعتِ يا أماه؟ تفضلي!! انظري إلى صاحب الخيالات الوردية ماذا يقول؟ محب للخير وأتصدق على الفقراء والمساكين مثل روبين هود تمامًا، كأنك تعلم يا علي بأن هذا ما فعلته البارحة بالفعل لأني آخذ المال من التجار الشحيحين لأساعد الضعفاء، ربما يجب أن أبدأ جمعية خيرية وأضع صورتي شعارًا!

أبو فهد:

–     وهل تتوقع أن أصدق ذلك أيها الكاذب؟ لا تبرر أفعالك الحقيرة بعنوان أنك محب للخير!!!

فهد:

–     لا يهمني ما تقول يا أبي، بالتأكيد أمي ستصدقني أنا، هي الوحيدة التي كانت تصدق ما أقول.

أبو فهد موجهًا كلامه ناحية القبر:

–     لا تصدقيه، إنه يخدعكِ كالمعتاد.

صاح أحد الزائرين:

–     الزما الصمت رجاءً، لقد أزعجتم الزوار.

أبو فهد:

–     وماذا أصنع مع هذا الأحمق الذي يثير جنوني ويكذب على أمه؟

أجابه:

–     تحدثانها كما تحادثان الأحياء منكم؟

علي:

–     أمي الآن تسمعنا، متأكد من ذلك، تمامًا كما نسمعك أنت.

أجابه:

–     على كلٍ لا أعلم ما قصة ابنكم هذا، ولكن جدالكم هذا قد يؤذيها، اكتفوا بالدعاء لها فحسب وأسمعوها ما يؤنس وحشتها.

التزم الجميع الصمت لفترة وجيزة، فالجدال بصوت عالٍ بدا نشازًا لا يليق بهذا المكان الذي يعمّه الهدوء.

هنا، كان الهمس هو اللغة الرسمية، تتخلله أصوات نحيب مكتومة في زوايا متفرقة، من ذوي المتوفين الذين أتوا ليشاركوا أحباءهم ذكرى الرحيل. ومع ذلك، أبطالنا استمروا في مخاطبة المرحومة كما لو أنها ما تزال تجلس بينهم، تستمع، وتردّ عليهم بصمتها.

أبو فهد (بعد تنهيدة خفيفة):

–     هيا قوموا، حان الوقت لنرحل.

فهد:

–     اذهبا وسألحق بكما لاحقًا، لدي حديث سأقوله لأمي على انفراد.

أبو فهد:

–     ما شاء الله!! لا تزال هناك أسرار تدور بينكما حتى بعد مماتها!! لا أدري ما طبيعة هذه الحوارات السرية التي كانت بينكما خلال فترة سجنك.

فهد:

–     لا أسرار!! إنما والدتي كانت تتفرد بي لأنك تقوم بمقاطعتي وتكذيبي دائمًا ولا تصدقني أبدًا.

أبو فهد:

–     إذن ما تلك الحديث الذي ستقوله الآن والذي يستلزم أن يكون على انفراد؟ لا تنسَ أننا في مكان عام، وأخشى أن يُعتقد أنك تحاول الاحتيال على الأموات هذه المرة.

فهد:

–     سأسمعها كلامًا جميلًا يؤنس وحشتها!! أنت تعرف يا أبي أني دائمًا لدي ما يُقال، وليس بالضرورة أن يعجبك.

علي:

–     يؤنس وحشتها؟! هل ستقرأ عليها قصائد رثائية أم ستعدها بأن تصبح شخصًا محترمًا؟

فهد:

–     أين ذلك الزائر اللطيف الذي حادثنا قبل قليل؟! ألم يقل إن جدالكم مزعج؟ سأحرص على أن أترك انطباعًا أفضل، وعلى انفراد!

أبو فهد:

–     حسنًا، لنرى ما ستقوله، ولكن تأكد من أن كلامك لن يجعل أمك تندم على إنجابك حتى في عالم الأموات.

فهد بابتسامة ساخرة:

–     اطمئن يا أبي، أمي تحبني بكل حالاتي، حتى وإن كنت “الأحمق والسافل” كما تقول.

أبو فهد:

–     حسنًا حسنًا يا علي فلنرحل الآن، سيقول كلامًا ينبغي ألا يسمعه أحد في عالم الأحياء!!! يستطيع العودة راجلًا، فالمنزل ليس بعيدًا لهذه الدرجة.

علي:

–     نعم هذا أفضل، فرصة جيدة لكي يخسر بعض الكيلوات الزائدة في جسمه.

غادر أبو فهد وعلي ببطء، تاركين فهد وحده أمام القبر، ويبدأ حديثه بصوت خافت يملؤه مزيج من الحنين والشكوى كما لو كان يبوح بأسراره لأقرب الناس إليه.

فهد:

–     أهلًا أماه، أتمنى أن تكوني بأفضل حال في عالمكِ الجديد، حيث لا وجود لأشخاص حمقى مثل الموجودين هنا… لا تقلقي، ما سمعته مني ومن أبي وأخي ليس الحقيقة كلها. أما بخصوص تلك السرقة التي يتحدث عنها الجميع، فأرجوكِ لا تصدقي أني لص محترف أو فقير معدم. لقد كانت مجرد لعبة، كما تعلمين، أنا دائمًا كنت أحب المزاح حتى في أصعب الأوقات. أخذت المال لأعيده لاحقًا، وكان الأمر كله متعة بريئة… حسنًا، ربما ليست بريئة تمامًا.

فهد (بابتسامة حزينة):

–     أتذكرين صاحب محل الورود الذي خدعكِ ذات مرة وباعك ورودًا مغشوشة؟ أنا قمت برد اعتبارنا على طريقتي الخاصة، سرقت منه حينها وأعدت المال في درج المحل نفسه، ولكنه لم يفهم الدرس لأنه أمضى النهار يصرخ ويبكي أمام الشرطة.

تعود بفهد الذاكرة إلى قبل 12 سنة، حيث الشرطة في محل الورود وصاحب المحل يصرخ وينتحب.

الشرطي:

–     ما الذي تم سرقته بالضبط هذه المرة؟ لقد مللنا من بلاغاتك.

صاحب المحل:

–     مبالغ كبيرة، كل ما في هذا الدرج اختفى!

يفتح الشرطي الدرج ليجد كل الأموال موجودة.

صاحب المحل:

–     كيف؟ كنت متأكدًا بأنه كان فارغًا!!

الشرطي:

–     نعم، اعتدنا على كلامك الفارغ في كل مرة تتصل بنا، هذه المرة ستُحتجز بتهمة إزعاج السلطات.

فهد يعود للواقع وهو يضحك:

–     أظنكِ تذكرين القصة يا أماه. لهذا أصبح أصحاب المحلات يتجنبون الإبلاغ، لقد جعلت من خزائنهم بنوكاً مجانية تقوم بالتسليف دون فوائد! أراهن أنكِ فخورة بي الآن… أو ربما لا.

فكرة السرقة لم تكن نابعة من الحاجة أو الفقر، بل بدأت معه في مراهقته كمجرد “لعبة”، كان يسرق من الآخرين ومن ثم يعيدها إلى مكانها ليجعل ضحاياه في حالة ضياع، تماماً كما كانت والدته في صغرها، لكن الفرق أنها لم تتطور إلى شيء أكبر كما حصل مع ابنها لاحقًا. حيث إنه مع مرور الوقت أدرك أن السرقة لم تعد ماتعة، فحوّلها إلى نوع من “الاختبار” أو “الدرس” للآخرين، يأخذ المال ثم يعيده في وقت لاحق دون أن يُكتشف، ليخلق حالة من الهلع والارتباك لدى ضحاياه. كما أنه تأثر بأفكار مثل “القانون الذي لا يحمي الضعفاء قانون فاسد”، وبدأ يرى نفسه كمُصلح، ولكن بأسلوبه الخاص. في نظره، هو لا يسرق، بل “يعيد توزيع الثروة”، يأخذ من “الأغنياء الشحيحين” كما يقول، ويمنحها لمن هم بحاجة إليها، وطبعًا، يأخذ لنفسه جزءًا بسيطًا كمكافأة، بعنوان أنه من “العاملين عليها”!!!

فهد (يتنهد):

–     آه يا أمي، كم أفتقدكِ. كنتِ الوحيدة التي تفهمينني وتصدقينني عندما كان العالم كله يراني مذنبًا دون دليل، الآن، حتى أبي وأخي ينظران إلي كما لو أني كارثة متحركة. وكما أنكِ تعلمين تمامًا، سجني لم يكن بسبب السرقة بحد ذاتها، بل كان نتيجة مؤامرة قذرة حيكت ضدي.

يتنهد مرة أخرى، ويرفع صوته قليلًا:

–     ولكن لا تقلقي، سيعلم الجميع قريبًا الحقيقة، وسيدفع الأوغاد ثمن ما فعلوه بي. أعدكِ بذلك.

يقطع حديثه صوت خطوات قادمة، حيث يظهر أبو فهد وعلي وهما يبحثان عن شيء.

فهد:

–     ها قد عدتما! ماذا هناك؟ هل فقدتما شيئًا؟

أبو فهد:

–     نعم، لقد أضعت مفتاح السيارة، أعتقد أنه وقع في مكان ما هنا.

فهد (بابتسامة عريضة):

–     أرأيتِ يا أماه؟ مهاراتي لم تضع بعد كل هذه السنين. هذا مثال حي.

أبو فهد:

–     مـ.. مـ.. ماذا قلت؟؟!!!

فهد:

–     هل كنت تتوقع فعلًا بأني سأعود إلى البيت راجلًا؟! هذا هو المفتاح.

أبو فهد غاضبًا:

–     أعطني إياه الآن!

فهد:

–     لا تقلق يا أبي، سأسبقكما للسيارة وأتأكد من أنها لن تهرب!

يمشي فهد باتجاه السيارة بينما أبو فهد وعلي يرمقانه بنظرات متشككة.

فهد (متمتمًا لنفسه):

–     أتعلمين يا أماه؟ في بعض الأحيان أتساءل… لو كنتِ هنا، هل كنتِ ستتفقين معهم أم ستقولين لي فقط: دعهم وشأنهم، أنت ابني وستظل كذلك مهما حدث.

صمت قليل، ثم تنهيدة طويلة:

–     أفتقدكِ كثيرًا…… يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى