أقلام

مــدونة الـــذاكـــرة ” كتـب في كــتاب”

إبراهيم بوخمسين

أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ … وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ

ما ألذ وأحلى وأجمل أن تختزل تجارب الآخرين خلال سنين في أيام معدودات وتستفيد من تجاربهم وتطلع على معلومات كتبت ودونت خلال قرون. تجدها بين يديك مائدة جاهزة تتنقل بين أطباقها.

أن تقرأ كتابا في موضوع واحد في حد ذاته انجازًا وإضافة لمخزونك المعرفي، فما بالك إذا قرأت كُتبًا في كِتاب واحد. ذلك هو: مدونة الذاكرة للصديق والحبيب السيد علي باقر الموسى. الكتاب جاء في ٤٠٠ صفحة استغرق قراءتها بضع أيام ليلًا ونهارًا، وذلك للذة المعلومة وسلاسة الأسلوب وترابط المواضيع بالرغم من تنوعها. وجدت في هذا الكتاب الكثير من المعلومات عن تراث منطقتنا الأحساء وعلماؤها ومفكريها. هي جديدة بالنسبة لي، هل ذلك جاء لغفلتي عن قراءة تاريخ المنطقة أو لقلة بحثي واهتمامي. ربما تختلف معي أيها القارئ لو قرأت هذا الكتاب أو تتفق.

افـْتِـتحت هذه الفسيفساء “المدونة” بشرح مستفيض عن كتاب مخطوط في الطب من القرن العاشر الهجري للشيخ أحمد بن علي بن أبي جمهور الأحسائي. ومن ثم مخطوطة مهاجرة من القرن العاشر الهجري ” معدن العرفان في فقه مجمع البيان لعلوم القرآن للمحقق إبراهيم بن حسن الدراق- الوراق. وثالثة عن ” موضح الدراية لشرح باب البداية” وهي موسوعة فلسفية للتعاليم الإشراقية من تصنيف ابن أبي جمهور الأحسائي. تلتها تحقيق للمؤلف عن صيغة “وقفنامة “من إنشاء العلامة الشريف ماجد بن هاشم بن علي الأحسائي البحراني وقد عُبرَّ عنها” بأنها في غاية البلاغة ونهاية البراعة. وقد أجاد السيد علي في تحقيقها.

تقرأ في هذا الكتاب أدب الرحلات وما جاء فيها من المعلومات المفيدة والدقة والتفصيل في وصف المكان حتى يخيل إليك أنك تتجول فيه، وفي وصف الأشخاص ومكانتهم الاجتماعية والدينية ومسؤوليات كل واحد منهم. جاء في هذا الفصل رحلتان للكاتب، هما الرحلة الشيرازية معرفية تاريخية، والرحلة الهندية معرفية تاريخية، وما عليك إلا قراءتهما لترى صدق ما أنبئك به. علاوة على ذلك تزويد القارئ والباحث بأسماء ومكان المخطوطات الأحسائية لعلمائها وحركة هجرتهم. مما يثير دهشتي، لماذا هذا الكم المعرفي موجود خارج المنطقة؟. طبعًا ليس هذا ينطبق فقط على ما اخْبَرت به هاتان الرحلتان، بل على الباقي مما ورد في الكتاب من الأبواب الأخرى. هذا الفصل من الكتاب يمكن أن يكون كتابًا مستقلًا إذا ما أضيف له مزيد من التفاصيل أو رحلات أخرى. وسوف نذهب الآن مع الكاتب في جزء من هاتين الرحلتين:

الرحلة الشيرازية: وجاء فيها… ” وقد كتبت تفاصيل هذه الرحلة من لحظة الخروج حتى نهايتها، علما أن الزيارة لم يكن هدفها سياحي فحسب بل كان هدفها كذلك معرفيًا وعلميًا يرتبط باهتمامي بالبحث عن مخطوطات أحسائية. وفي مقطع آخر منها يقول: وخلال تفحصي للفهرس الذي يقع في فصلين متخصصين بالتراث المخطوط في إيران وجدت نسخة نادرة من مخطوطة لكتاب ” الأنوار العلوية في شرح الألفية” وهو كتاب فقهي في شرح الألفية للشهيد الاول في فقه الصلاة اليومية لمؤلفه الفقيه الشيخ أحمد بن محمد السبعي الأحسائي سنة ٨٥٣ هجرية.

الرحلة الهندية: وجاء فيها… “مدينة رامبور، وهي مدينة قديمة وغير متطورة، يلقاك في بداية الدخول مشروع جديد تحت الإنشاء عبارة عن سوق مركزي بصورة دائرية، تجاوزناه واتجهنا إلى مركز المدينة القديمة وهي مسورة بسور كبير وقديم، عمره أكثر من 200 سنة تقريبًا ولها بوابة عتيقة، تدخل منها السيارات…… ثم يقول: وبعد تلكم الجولة في قاعة المتحف الجميل توجهنا إلى قاعة المكتبة وخلال بحثي وجدت في فهرس المجلد الثاني نسخة بعنوان مجموعة فوائد الشيخ أحمد الأحسائي.

وصفه لتاج محل: وعند الصعود لمبنى تاج محل تجد عظمة البناء، وهو مبني بالحجر أو الرخام الأبيض، وتجد المنارات شاهقة بجمال لا يوصف، والبناء كأنه بني للتو.

وكل هذه الرحلات مدعمة بالصور للوثائق والمخطوطات التي اطلع عليها الكاتب وأخذ نسخا منها، وكذلك للأماكن السياحية والدينية.

في فصل آخر جاء في الكتاب ترجمة ثرة لكوكبة من علماء الأحساء والمنطقة وحركة هجرتهم وتنقلهم وبعض الأحداث التاريخية المهمة في حياتهم، ومن هؤلاء الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي، وأسرة آل أبي شبانة، والشيخ يوسف بن أُبي القطيفي، والعلامة الشيخ عبد الكريم الممتن، والشيخ إبراهيم الدراق القطيفي، والسيد ماجد البحراني. والشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي وأبناؤه ” وقد أسهب السيد علي في ذكر سيرة الشيخ أحمد بن زين الدين وأبناؤه”

هذه السير والتراجم أيضا تصلح أن تكون كتابًا مستقلًا. تجد في هذه الفصول ترجمة وافية لكل واحد وحركة هجرته وكيف تمكن هؤلاء بعلمهم وأدبهم من تزعم السيادة الدينية والاجتماعية في المهجر وأصبحوا مراجع لتلك المجتمعات وما جاورها من المناطق والبلدان. ناهيك عن المكانة العالية لدى السلطات الرسمية لما كان لهم من البسط والرجوع إليهم في المسائل الشرعية والدينية.

الملفت في هذا الباب ذِكْر الكثير من المخطوطات الموجودة في المكتبات العالمية والحوزات الدينية والمراكز العلمية والجامعات التي لو قيض لها التحقيق والطباعة لتوافرت المعلومة المفيدة لكل باحث وكاتب ومحقق مهتم بمنطقتنا. ذِكْر الشخصيات المصاحبة لهؤلاء الأعلام كالأساتذة والطلبة وإنجازاتهم العلمية ونتاجهم الفكري أضفى شيئًا من الكمال والجمال لهذا الفصل. لفت انتباهي الكثير من المصادر المستخدمة لتوثيق المعلومة في هذا الفصل. أيضًا تجد هنا أسلوب الكتابة والإبداع في السجع وتركيب الجمل في تلكم المخطوطات. الشعر كان له حض وافر في هذا الكتاب في ضمن الترجمات وهو شعر جميل يمكن للدارس معرفة مدرسة الشعر وأسلوبها وعادات أهلها في تلك الفترة، من القرن الثامن والتاسع والعاشر الهجري. جاء الشعر في جميع الحقول كالمدح والرثاء والغزل.

ولا نستطيع تجاوز هذا الفصل دون ذكر بعض العطاء عن تلك الشخصيات العلمية.

زيارة الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي لبلدة الدرعية في القرن التاسع الهجري: وفي محاورة جميلة بينه وبين بعض المتصوفة الإباحية. وذلك أنه نقل لي – وأنا يومئذٍ مقيم بأرض نجد ببلاد يقال لها الدرعية – أن في جبل لها رجلًا منقطعًا عن الناس معتزلًا بنفسه…..فرأيت رجلًا نبيلًا حسن المنطق عليه أثر الصلاح، فأحدثته في فنون العلم، فرأيت له ذوقًا جميلًا.

وبعد حديث وحوار جميل يقول: فسحرني بكلامه وبهر عقلي بزخارف تقريراته، حتى غلب عليَّ الوهم بأنه محق أو قريب من التحقيق، ثم أيدني الله بمنه، فرجعت إلى نفسي وتُبتُ إلى عقلي وقلت له في الحال بلا إمهال: ليس بالوصول ينقطع العمل ولا لأجله تُتْرك الأوامر الشرعية، فإن ذلك وهم شيطاني وخيال إبليسي مرد، بل الوصول عند أهل الوصول ترك ملاحظة العمل لا ترك العمل.

فسكت وانقطع عن الجواب وبقي ساعة متفكرًا، ثم قال: يا هذا لقد أشغلتني عما أنا فيه، فلا تكثر عليَّ الكلام ولا تعاودني بشيء من الخطاب. فقم عني عجلًا ودعني وشغلي، فما انقطعت في هذه المغارة إلا خوفًا من أمثالك.

الحوار جميل وهو عرفاني فلسفي، ولا يتخيل جماله وفائدته إلا بقراءته كاملًا.

ومن نماذج الشعر الجميل هذه الأبيات لأبي عبدالله السيد محمد بن عبد الحسين بن إبراهيم بن حسن آل شبانة البحراني، هاجر إلى الهند وعاش فيها زمنًا طويلًا وقد اشتاق إلى وطنه هجر:

مـضت في حـروب الـدهـر غـايـة قوتي … فأصبحت ذا ضعف عن الكر والفـر

إلى سؤال: إلام بأرض الهند أذهب لذتي … ونـضرة عـيشي في مـحاولة النضر

إذا لم تـــكن في الهــند أصنـاف نـعــمـة …. فـفي هجر أحظى بنصف من التمر

ولــي والـــد فـــــيــها إذا مـا رأيــــــتــه … رأيـت به الخـنساءَ تبكي على صخر

ومن شعر العلامة الشيخ عبدالكريم الممتن الأحسائي الجبيلي، وهو من شعر الحِكم:

أيّها الغــافــل لا نلــتَ نـــجاحا … خالف النفسَ ودع عنكَ المِلاحا

وأفِــق من ســكــرةِ الـــغي ولا … تحسبَـنَّ الجــدَّ من قولي مِزاحا

كم تمادى في الهوى لا ترعوي … وغرابُ البـينِ يَدعوكَ الرَّواحا

كيف لا تُــقــلِـع عن معــصيــةٍ … ونذيرُ الشيـب في المفـرق لاحا

آذنــت فيــكَ اللـــيالي بالـــفـــنا … ودَنا الــموتُ مَــساءً أو صباحا

ومن شعر السيد ماجد البحراني متغزلا:

قالــت ترحلــت عـنا قلـت طيفـكم …. عندي وقلبي لديكم غير منساقِ

ما فرّق الدهر بين اثنين قد علقت … يمــيــن كل من الثـاني بمــيـثاق

لله وقــفــة تـــوديع شـــددت بــها …برمّة من حــبال الوصـل أخلاقي

جزت بها حدق الحسناء من حدقي … رمـزًا بــرمز وإطراقًا بإطراق

لا ضُمَّ صدر إلى صدر يبل صـدا … قلــبًا ولا لي أيــد فــوق أعناقي

ومن شعر الرثاء للشيخ علي نقي بن أحمد الأحسائي لزوجته نوار:

بـنـفــسـي ذات الشـيـح والعنــبـر العـــطـر … لــقـد مـلكـت قـلبـي ظـبـا سـاكـنـي هـجـر

ســتــرت الهـوى حـتـى إذا مـا تـــرحـلـت … تــخــلعـــت عـن ثــوب التـكـتـم والسـتــر

لحـــى الله قــــــومـًــا هـمــهـم عـــذل والهٍ … وتــعــنــيـف مـشـتـاقٍ وتـقـريـع ذي ضـر

يـقـولون لي صـبـرًا فـأنــت أخـو الـــعــزا … وقـد كـذبوا مالي عـلى الهجــر من صــبر

ومـن أيـن لي صـبـرٌ وأيــن أخـــو الأسـى … من الصـبر لا كان المعــزى على الهـجـر

يــقــولون قــيـسٌ لم يــلاقِ مـــن الــهــوى … ولا وجــد خــــنـسـا إذ تـحـن إلى صـخـر

كــمـثـل الــذي لاقـــيـــت يـومـًا بـحــــبـهـا … فــقـلــت رويـــدًا مـا لكـم بـي مـن خــبـر

فـــهـــل مــــثــل آسٍ إذ تــأود غـــــصــنــه … يــقــاس بــقــيــسٍ أو يـقـاس إلى صـخـر

وكــيــف بـصـبـر الصـــبِّ عـن فـــقـد إلــفـه … ولم يــرج مــنــه أوبـــةً مـــدة الـعــمـر

عــجــبــت لبــدرٍ ضــمــت الأرض جــرمــهُ …ومـــا ضـــم أرضٌ قــبــل ذلك مــن بــدرِ

نـــوارٌ لــقـــد حــلــت بــتــــربــك رحــــمــةٌ … تــعـطــر مـنـهـا سـاكـنُ الــبــر والبـحـر

يختتم هذا الكتاب الشيق بفصل مخصص للحوارات وفيه ثلاثة حوارات لرموز دينية وتاريخية أجراها الكاتب مع العلامة الدكتور الشيخ عبدالهادي الفضلي. وحوار مع العلامة الشيخ حسن بن موسى الصفار. وحوار مع الباحث عبدالخالق الجنبي.

هذه الحوارات المفيدة والجميلة نُشِر اثنان منها في صحيفة الوسط البحرينية، أما حوار العلامة الصفار فنشر في صحيفة المدينة.

والجدير بالذكر بأن من قدم لهذا الكتاب هو العلامة الشيخ حسن بن موسى الصفار.

بهذا نكون قد أجرينا قراءة مبسطة عن هذا الكتاب القيم. فشكرًا للسيد علي باقر الموسى على هذه المعلومات القيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى