أقلام

عاطفة الوالدين: منبع القوة التي لا تهرم

عماد آل عبيدان

مع تقدُّم السنين، تتهاوى الجدران الجسدية للإنسان؛ يرقّ العظم، وتخور القوى، ويبهت البصر، ويضعف السمع. كل شيء في الإنسان ينحني أمام الزمن، إلا شيء واحد، لا يشيخ، بل يزداد توهّجاً كلما تراكمت الأيام: عاطفة الوالدين. إنها القوة التي تتغذّى من الضعف، وتشتدّ في اللحظات التي يظنّها الناس نهاية.

الوالدان لا يحبّان لأنك قويّ، ولا لأنك ناجح، ولا لأنك تشبه أحلامهما، بل لأنك أنت. لأنك مرآة الروح، لأنك البداية التي لم تُغلق ابداً، لأنك الامتداد الطبيعي للنبض الذي ما انفكّ يعلن عن نفسه في صدريهما منذ لحظة ولادتك.

المعنى العميق للدور الوالدي: أكثر من مجرد رعاية

ما نغفل عنه كثيراً هو أن الأبوة والأمومة ليستا أدوارًا اجتماعية مكتسبة، بل هما غريزتان أصيلتان، ومن أقدس ما وُهب الإنسان من عطايا الله. ليست مهمة الوالدين في منح الطعام والشراب، بل في منح الانتماء، والاتزان، والهوية، والقدرة على الحلم دون خوف، والانكسار دون أن يُكسر المرء. الوالدان، حرفيًا، هما الوطن الأول. لا وطن بدون أم، ولا أمان بدون أب.

حين قال تعالى:

“وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا” [العنكبوت: 8]

لم يكن هذا التوجيه مجرد أدب اجتماعي، بل تشريعاً كونيًّا يُذكّرك أن وجودك في الحياة مرتبط بكيانين هما من أسباب بقاء الرحمة في الأرض.

الوظيفة النفسية والروحية للوالدين: خريطة السلام الداخلي

الطفل لا يولد وهو يعرف ذاته، بل يتشكّل وعيه بها من خلال والديه. الأم هي المرآة التي يرى فيها مشاعره، والأب هو الجدار الذي يستند عليه كي ينهض من الخوف. حين يُحرم الطفل من هذا الحضن، لا يكبر ناقص العاطفة فقط، بل مكسور البوصلة. وهنا تكمن أعظم وظائف الوالدين: التوازن النفسي والروحي.

حتى في أشد الحضارات قسوة، كانت الأمومة رمزًا للتسامح والاحتواء، والأبوة رمزًا للعدل والسند. وفي المجتمعات الحديثة، رغم محاولات تقليص دور الأسرة، ثبت علميًا أن الأطفال الذين ينشأون في بيئات تفتقر للعلاقة العاطفية المتينة مع والديهم يعانون لاحقًا من اضطرابات في الثقة، والهوية، والانتماء.

الزمن لا يبهت العاطفة.. بل يكشف عمقها

من المفارقات العجيبة أن الشاب حين يشتدّ عوده يظن أن عاطفة الوالدين خفّت، لأنهم لم يعودوا يحتضنونه كما في طفولته. لكنه لا يرى أن الحنان تحوّل من لمسة إلى صبر، ومن دلال إلى دعاء، ومن ملاعبة إلى خفقٍ مستمر على عتبات الانتظار.

في شيخوخة والديك، لا تظن أن صمتهم برود، أو أن قِلّة الطلب استغناء. إنهم فقط يخافون أن يُثقلوا عليك، فيخفون ضعفهم تحت طبقات من الدعاء لك. عاطفتهم الآن ليست طاقة طائشة، بل نور خفيٌّ يستقرّ في الدعاء، وفي التوصية، وفي التنهيدة الحزينة حين تتأخّر في زيارتهم.

الوظيفة الاجتماعية للوالدين: بناء أجيال لا تنهار

الوالدان لا يُربّيان أبناءهما فقط، بل يصنعان بهم مستقبل أمة. فكل طفل سويّ خرج من حضن والدين صالحين، هو حجر بناء في مجتمع سليم. وما يُعانيه العالم اليوم من فقدان للهوية، وتفسخ أسري، وارتفاع معدلات الاكتئاب والعنف، ما هو إلا نتيجة منطقية لاهتزاز هذا الركن العظيم.

في المجتمعات القديمة، كانت الأسرة نواة كل شيء: التعليم، القيم، المعتقد، وحتى الاقتصاد. واليوم، وفي زحمة التكنولوجيا والتفكك، بات من الضروري أن نعيد تعريف هذا الدور، لا بردّه إلى ما كان، بل بإحياء روحه: أن يكون الوالدان مرجعية نفسية وعاطفية وروحية دائمة، لا تختزل في توفير الحاجات المادية فقط.

تحوّلات العصر ودور الأبوة والأمومة: من المألوف إلى المعجزة

في زمن يُقاس فيه الحب بعدد الرسائل، والاهتمام بعدد النقرات، باتت عاطفة الوالدين هي المعجزة التي لا تزال ترفض أن تتحوّل إلى رقم. ما زالت الأم تبكي في صمت، وما زال الأب يدّخر من عمره ليسدّ حاجةً قد لا تطلبها، فقط لأنه يخشى أن تُحرجك حاجته إليها.

إن تمييع هذا الدور وتحويله إلى مجرد وظيفة بيولوجية، هو أكبر خطر على توازن الإنسان. وما لم نفهم أن الأبوة والأمومة هما رسالة وجودية، لا مجرد تتابع جيني، فسوف نبني أجيالاً مشوشة، ضائعة، لا تعرف لماذا تحب، ولا لمن تنتمي، ولا كيف تسكن.

رسالة: لا تطفئ النور ببرودة يدك

عاطفة الوالدين ليست حقًا لك بل نعمةٌ فيك. فإياك أن تقابلها بفتور المشاعر أو الجفاء. إنهم لا يحتاجون منك كثيراً، بل قليلًا من دفء، وبعضًا من السؤال، ولمسة من ود، وابتسامة تقول: أنا أراك، كما كنت تراني طفلًا لا يعرف السير.

فيا من كبرت على أكتافهم، تذكّر أنك لم تزل طفلاً في قلوبهم، وأن في لحظة ضعفهم يكمن أقوى أنواع الحب: حبٌ لا ينتظر مقابلًا، بل يكتفي بأن تبقى حيًّا، سعيدًا، وإن كنت بعيدًا.

وما خُتمت هذه الرحلة إلا بما قاله ربك، إذ قال:

“وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صغيراً” [الإسراء: 24].

وما أعظمها من وصية، حين يكون الرحمة جزاء الرحمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى