أقلام

حين تُوزَن اللحظة الأخيرة مفترق المصير

أحمد الطويل

مقدمة:

تخيّل عدّاد الزمن يُغلق على رقمٍ أخير. لحظة واحدة تفصل بين الدنيا والآخرة، بين الاختيار والنتيجة، بين السرّ والعلن. يسأل سائل: أهي هذه اللحظة الفاصلة التي تُحدِّد المصير؟ وماذا عن الليالي التي قضيناها في السعي؟ عن العبرات في الخلوات، والخطايا التي بُحَّت بها الأرواح توبة؟ أيمكن للحظة واحدة أن تُبطل كل شيء؟ أم أن العدالة الإلهية أعمق من أن تختصر الحياة في ومضة؟ السؤال محيِّر… لكن الجواب أعجب، أعمق، وأشدّ إثارة.

اللحظة الأخيرة ساعة الحقيقة لا السحر

اللحظة الأخيرة هي لحظة كشف لا لحظة خلق. ﴿فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (ق: 22). هنا تنجلي الحقيقة، ويظهر ما أخفيته في مسيرتك. إنها لحظة حصاد وليست لحظة زراعة. يقول الإمام الباقر عليه السلام: “والله، ما بين أحدكم وبين أن يغنى إلا أن يُقبض، فيرى ما له عند الله إن كان مؤمنًا، وإن كان كافرًا فإلى عذاب الله” (الكافي، ج2، ص453).

فلا تظن أن لحظة الموت تعني أن الله فجأة غيّر مصيرك، بل هي إعلان نتيجة ما سعيت له عمرك كله، حتى وإن خُتم بخاتمة سعيدة أو مؤسفة.

السعي هو المعيار ولكن

القرآن صريح: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى﴾ (النجم: 39-41). السعي هو ما يُقدَّم، وهو الذي يُوزن، وهو الذي تُبنى عليه الخاتمة.

ولكن! ماذا لو سعى الإنسان، ثم ختم سعيه بكفر، نفاق، أو ارتداد عن الولاية؟ هنا تأتي الآية: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ (الفرقان: 23). فالآية تتحدث عن من يعمل “أعمالًا” دون إيمان، أو دون ولاء، أو لخدمة ذاته لا الله. الإمام الصادق عليه السلام فسّر هذه الآية قائلاً: “هم قوم عملوا بغير ولاية، فأبطل الله أعمالهم” (تفسير القمي، ج2، ص102).

إذن: السعي مطلوب، ولكن يجب أن يكون في الاتجاه الصحيح، وبنية خالصة، ومُختوم بخير.

الخاتمة تكشف لا تُلغِي

لو نظرت بعين العقل، هل يُعقل أن يُكافأ من سعى طوال حياته للخير، ثم خان في آخر لحظة، كمَن لم يسعَ قط؟ العقل يجيب: لا، لأن الخاتمة لا تَنسِف، بل تُبرِز. فلو كانت طائرتك تطير بأمان ثم انحرفت قبل الهبوط، فالخلل في النهاية لا يعني أن الطيران لم يكن جيدًا، بل أن النهاية كشفت الخلل الذي كان في الداخل.

ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: “إنما الأعمال بالخواتيم، والمقصود بالخاتمة ما تموت عليه نفسك، لا ما يُقال على لسانك فقط” (نهج البلاغة، الحكمة 131).

الخاتمة ليست سحرًا بل ثمرة

حين نقول إن الخاتمة مهمة، لا نقصد أنها عبوة مفاجئة تغيّر المصير، بل هي الثمرة لما زرعت طوال عمرك. فلو عشت تحب أهل البيت، تتوب حين تخطئ، وتعود إلى الله كلما سقطت، فإن الله لا يتركك في لحظتك الأخيرة. بل قال الإمام الصادق عليه السلام: “ما أحبّ عبدٌ الحسين عليه السلام، ومات على حبه إلا غفر الله له ذنوبه كلها” (كامل الزيارات، ص151).

الصحيفة البيضاء تُكتب بالسعي، وتُختم بالنية

من عاش القلب فيه نقيًا لله، فإن آخر لحظة تُزهِر، حتى لو كانت اللحظة عصيبة. ألا تذكر الحر الرياحي؟ رجلٌ قاتل الحسين عليه السلام، ولكنه لحظة الصفاء، غيّر بها مسار أبد الدهر. لم تكن لحظة سحرية، بل كانت نتيجة صدق، ندم، وبصيرة جاءت بعد سعي صادق، وإن متأخر.

قال الإمام علي عليه السلام: “لا ينفع الإيمان إلا بالعمل، ولا العمل إلا بالنية، ولا النية إلا بالإصابة، ولا إصابة إلا باتباع الهدى” (غرر الحكم، 2604).

لا تخف، الله أعدل من أن يُضيّع دمعة

تظن أن ربك ينسى سعيك؟ أن توبتك لا تُحتسب؟ كلا. الله لا يظلم أحدًا. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120). والخاتمة ما هي إلا إعلان درجة الامتحان، ليست تصفية مفاجئة!

قال الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: “وعمري ما أراك إلا كريمًا، لا تخيب من رجاك، ولا تطرد من دعاك، ولا تخذل من قصدك”.

الخلاصة:

اللحظة الأخيرة ليست سحرًا، بل كشف لما خبأته روحك طوال العمر. هي مرآة السعي، لا مقصله. من أحبّ الله وسعى بصدق، فإن الله لا يخذله. ومن عاش ينافق، فمهما أظهر الخير، سيُكشف زيفه في النهاية.

عش لله، اسعَ بحب، وتُختَم بخير. واحذر أن تجعل الخاتمة مسكنًا زائفًا لأخطاء السنين، أو عصا سحرية تلتف بها على العدالة. النجاة ليست في اللحظة الأخيرة، بل في الطريق الذي قاد إليها.

واذكر دائمًا:

“من أحبنا لله حشره الله معنا، ومن أحبنا للدنيا فجزاؤه على الدنيا” (بحار الأنوار، ج27، ص84).

اللهم اجعلنا من الذين يعملون بإخلاص، ويحبّونك ويحبّون أولياءك حبًا صادقًا، لا رياء فيه ولا نفاق. اجعل يا ربّ قلوبنا طاهرة لا يعرف النفاق إليها طريقًا، وأعمالنا زادًا لنا لا علينا، وخاتمتنا خاتمة خير، تُرضيك عنا وتقرّ بها أعيننا يوم نلقاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى