الذكاء الاصطناعي مرجئة العصر الرقمي رسالة إلى كل المعنيين بالشأن الاجتماعي

محمد الطاهر النمر
في العام 2016، أجرت شركة غوغل عبر شركتها التابعة DeepMind أول تجربة تقنية كبرى في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تمكن البرنامج الذكي “AlphaGo” من هزيمة بطل العالم في لعبة Go، وهي لعبة معقّدة تعتمد على التفكير الإستراتيجي. وقد اعتُبرت هذه اللحظة إعلانًا حقيقيًا عن ولادة عصر جديد للذكاء الاصطناعي.
وفي أواخر عام 2022، أطلقت شركة OpenAI منصتها الشهيرة ChatGPT، لتكون الشرارة الأولى لثورة معرفية وتكنولوجية كبرى، حيث تحوّلت أجهزة الحاسوب من أدوات تخزين وتنظيم بيانات، إلى أنظمة ذكية قادرة على توليد محتوى ضخم، وتحليل اللغات البشرية بمستوى يحاكي أنماط التفكير البشري.
هذه النماذج باتت اليوم قادرة على توليد الأفكار والردود الدقيقة، والاقتراب من آليات اتخاذ القرار بشكل شبه حدسي، باستخدام شبكات عصبية اصطناعية تتطور باستمرار وتتفوق في نواحٍ كثيرة على القدرات البشرية.
وقد دخلت حكومات العالم في سباق محموم، من بينها بلادنا العزيزة المملكة العربية السعودية التي أعلنت مؤخرًا عن مبادرات ضخمة، تشمل برامج ابتعاث ومشاريع تدريب لتأهيل مليون سعودي في هذا المجال. بينما احتلت إسرائيل مراتب متقدمة عالميًا، من بينها المرتبة الأولى في تركيز المواهب.
إلى هنا قد تبدو هذه المعطيات مألوفة لكثيرين. ولكن السؤال الجوهري الذي يجب أن نطرحه هو:
هل هذه الصورة مقلقة؟ ما الذي يجب أن نعرفه عن المستقبل؟ وهل يمكننا أن نفعل شيئًا؟
لقد راودني هذا القلق منذ مدة، وانتظرت أن أسمع أو أقرأ خطابًا يعالج هذه الإشكالية من الزاوية الاجتماعية والتربوية، لكن للأسف لم أوفق لذلك ولا أرى مؤشراتها الكافية.
ما يجري اليوم هو ثورة تكنولوجية مفتوحة المصدر، لا مركزية، تقودها كيانات وأفراد بصورة غير منظمة. وهي تتعاظم بسرعة فائقة كما لو أنها كرة ثلجية تتدحرج دون توقف، مما يجعل نتائجها المستقبلية غامضة غير واضحة، وتحتاج إلى وعي وتدخل مبكر لاستثمارها وتجنب آثارها السلبية.
ولا نحتاج إلى خيال واسع، بل فقط إلى نظرة في السنوات القليلة المقبلة (2 إلى 5 سنوات)، لنرى ملامح التحولات القادمة:
أولًا: تأثير الذكاء الاصطناعي على حجم التغيير في الأدوار الاجتماعية والتربوية.
على الرغم من إدراكنا للتأثيرات الهائلة التي أحدثتها أدوات مثل الإنترنت وأجهزة الاتصال خلال العقدين الماضيين، إلا أن الذكاء الاصطناعي يمثل دخيلًا جديدًا أكثر تعقيدًا وسرعة في الانتشار. فهو لا يقتصر على تسهيل الاتصال أو الوصول إلى المعلومات، بل يعيد تشكيل الأدوار نفسها: دور الأب، المعلّم، المرشد، والمفكر. تأثيره لن يقف عند حدود الاستخدام، بل سيتغلغل في صميم المهام والوظائف التي اعتدنا أن نؤديها بأنفسنا، بما في ذلك أدواركم أنتم كمعنيين بالتربية والإصلاح الاجتماعي.
ثانيًا: الصدمة المعرفية وتبدّل المرجعيات
ستتمكن أدوات الذكاء الاصطناعي خصوصًا ما يسمى بمستوى الذكاء العام “قريبًا” من البحث والاستدلال والإثبات والنفي مع شرح أدوات البحث نفسها، مما يخلق ما يمكن تسميته بـ “الصدمة المعرفية”. حيث ستميل الأجيال الجديدة لاستبدال مرجعياتها التقليدية بتلك الرقمية، بما فيها الدينية والأخلاقية، وستتعلّم عبر هذه الأدوات صياغة الأسئلة والأوامر للحصول على أجوبة دقيقة وسريعة.
ثالثًا: تحوّل الإنسان إلى مادة رقمية
الحياة ليست فقط بالمحتويات المكتوبة كما قد يتصور البعض، بل نحن أنفسنا، بنشاطاتنا وأفكارنا وسلوكنا، نتحول يومًا بعد يوم إلى بيانات ضخمة يتم رقمنتها بشكل متسارع. هذه البيانات تدخل وتنسجم أكثر فأكثر مع مكائن صناعة الذكاء، لتجعل منا ليس مجرد مستخدمين، بل محتوى في حد ذاته. سنصبح حاويات معلوماتية مفككة، تحمل معلومات دقيقة عنّا – قد لا نعلم بعضها نحن أنفسنا – مما يجعلنا أدوات متقاطعة مع هذه الأنظمة. وبهذا تكون مهمتنا كمجتمعات وأفراد ومؤسسات، في خطر التحوّل إلى عناصر قابلة للتمكين أو التقوية أو التحجيم أو التصنيف أو التوجيه أو حتى التسويق والبيع، دون أن نعي كيف ولماذا.
رابعًا: هل سيحل المساعد الديني الذكي محل المربي؟
يجب أن نتوقع دورًا واسعًا للمساعدين الآليين القادمين، بما في ذلك المساعد الديني والأخلاقي والروحي، الذي سيتولى مهام النصح والتوجيه والتذكير والتلاوة والإجابة على الأسئلة الفقهية والعقائدية، بناءً على فكر المرجع الذي يحدده المستخدم نفسه. هذا سيؤدي إلى تقلص الحاجة للكثير من الأدوار التي اعتدنا الاعتماد عليها في مجتمعاتنا، وقد لا نستطيع بسهولة تخيل الحياة من دونها.
خامسًا:تغيرات سلوكية واجتماعية لا يسع لحصرها.
هناك أنماط سلوكية واجتماعية عديدة ستتغير لا يسع المجال لحصرها الآن، ولكن بوادرها تلوح في الأفق.
سادسًا: مسؤولية تشكيل الوعي الجمعي قبل أن يتشكل تلقائيًا
في ظل هذا التغيّر المتسارع، ستتشكل قناعات الأجيال الجديدة وأفكارها بشكل تلقائي من خلال تفاعلها مع أدوات الذكاء الاصطناعي اليومية. ومن دون تدخل تربوي وفكري منهجي، فإن القيم والمعايير السائدة ستكون هي ما تنتجه هذه الأدوات، لا ما يُغرس بوعي وتربية. من هنا، تبرز مسؤوليتنا الجماعية في المبادرة إلى توجيه هذا الوعي، وتحديد معاييره، وبناء مناعة فكرية وثقافية تعزز من حضور الإنسان الواعي، لا المتلقي المستهلك.
ومن منطلق اهتمامي الشخصي كمتابع ومهتم بالمجال التقني، أرى أن هذا التحول لا يمكن تجاهله، بل يجب استثماره بوعي. ولهذا أوجه هذه الرسالة لكل معني بالشأن الاجتماعي والتربوي والديني، وأقترح ما يلي:
تكثيف البحث والدراسة في هذا المجال.
عقد ورش عمل وجلسات نقاش علمي وتربوي.
دعم الطاقات الموهوبة وتشجيع المبادرات المحلية.
وقد يكون لهذا الحديث فروع كثيرة تحتاج إلى من هم أقدر وأعلم، ولذلك أضع هذه الرسالة بين أيديكم، سائلًا الله أن يجعلها نواة لتفكير جاد ومسؤول في هذا المفترق الخطير.