أقلام

طفل على سدة الخمسين : عندما يكتب الشاعر سيرته بالألم والنبوءة

عماد آل عبيدان

عن قصيدة الشاعر الأستاذ السيد علوي الخضراوي

هل سمعتم من قبلُ نبضًا يشبه القصيدة؟

عندما تتنفس الحروفُ وجعًا لا يشبهه وجع، ويتوسّد الحنينُ ذاكرته كطفلٍ يتيم، وتنتفض الكلمات على بياض الصفحة كما تنتفض الطيور عند إشراقة الرعد… نكون حينها أمام قصيدة ليست ككل القصائد.

قصيدة تمشي برِجْلٍ في الهوى، وبالأخرى في الهوية. قصيدة كتبتها روحٌ في الخمسين، ولكنها لا تزال تلهو في زقاق العشق الأول، وتلعب بالطين المقدّس، وتصرخ من شرفة الوطن كمن لا يزال يختبر صوته لأول مرة.

هذه الأبيات التي نقرأها، ليست أبياتًا وحسب.

إنها شهادة وعي شعري، ورسالة وجدانية، وعريضة احتجاج ناعمة على تناقضات القلب والزمان والمكان .

ومن هنا، تبدأ الحكاية.

بدايةً: النصّ في مرايا الرؤيا

منذ الشطر الأول:

نما حِسي وأنهكني ارتفاعي

ولولا الشوقُ لم يخفقْ شِراعي

يُعلن الشاعر نداءه: إن الوعي مكلف، وإن النضج لا يُكافأ بالتصفيق، بل بالإعياء.

هنا لا يقدّم الشاعر ذاتًا منتصرة، بل يعرّي نفسه أمام القارئ ليقول: “كل ما نلته من الحياة.. نزيفٌ في الأعالي”.

إنه التسامي المرهق، الذي لا يقف على قدميه إلا بالشوق، وكأننا أمام روحٍ ترتفع على أكتاف الحنين لا على أجنحة الطمأنينة. هذه مفارقة شعرية دقيقة، تُحيلنا إلى قصيدة التجربة لا قصيدة الزينة.

ثانيًا: المكان كتجربة شعورية

عندما يقول:

على بحر (القطيفِ) تأسَفتْ لي

جِراحاتي وصافحني ضيَاعي

وحين يصرّح:

أنا أُمي (القُديحُ) وذكرياتي

على جدرانِ عاشقتي مَتاعي

فنحن أمام شاعر لا يسكن في المكان، بل يسكنه المكان حتى نخاعه.

القطيف ليست ديكورًا، بل “بحر”، والقُديح ليست مسقط رأس، بل “أمّ”.

هنا ينصهر المكان في التجربة الشخصية حتى يغدو عضوًا حيويًا من أعضاء الوجدان.

ويُجيد الشاعر أن يجعل الذاكرة الطفولية والدموية والحنينية تتشابك كلها في بنية رمزية، حيث تصبح المدن شخصيات، والأماكن معشوقات، والبحار أحضانًا تواسي جراح الذات.

ثالثًا: النبوة الشعرية في قلب الألم

تُولجني الحنينُ وصفقتْ لي

طبولُ النارِ في عرسي الجماعي

هنا ننتقل من الحنين الفردي إلى الوجع الجمعي.

من عاشقٍ يبكي امرأة، إلى فقيهٍ يبكي أمّة، إلى طفلٍ يحمل طبل القيامة في يده.

نحن أمام شاعر يستعير نبرة النبيّ، لكنه لا يملك عصا موسى، بل يملك جمر الهوى.

أنا الوالي الفقيه بتمتماتي

وأطفال الملائك من جياعي

شاعرنا لا يقف عند الأطلال، بل يسير داخلها، يعجنها بدمه، ثم يرفعها قصيدة.

يرتدي ثوبًا فقهيًا، ويكتب بلغة العشاق، ويصرخ بنبرة المظلومين، ويختم بمرارة الطفل الذي كَبُر قبل أوانه.

رابعًا: صراع الهوى والوعي

ما أدهشني كنّاقد، هو تلك التحولات النفسية المتقنة التي ينقلنا الشاعر من خلالها بين الهوى والتعقّل، بين الهوس والاعتدال، بين “أحبكِ” و”حررّيني”، فيقول:

أحبكِ لا أحبكِ حررّيني

من الجهل المركب في صراعي

هنا يُمارس الشاعر شكّه الوجودي في أحلى تجلياته.

هو لا يكتب عن امرأة فقط، بل عن معركة داخلية بين قطبي الوجد والانعتاق.

وكأننا أمام مسرحية داخل الرأس، بطلها شاعر، وجمهورها.. ذاته.

وهذا التوتر الجميل بين الحب والشك، بين الإخلاص والانفجار، يصنع قصيدة تقف على حافة الجنون، ولكنها لا تسقط.

خامسًا: المقدّس في حضرة العشق

أينساني الحسين وقد أشارت

إلى العباس في قلبي ذراعي

بيتٌ يختصر مفهوم التضحية المعاصرة بلغة عاشقٍ لا يُفرّق بين معبوده وملهمته.

الشاعر هنا يُؤنسن الرموز، ويُقدّس الحسيّ، فيكتب حبّه بلغة الطف، ويقاتل لأجل العاطفة كما يُقاتَل لأجل القضية.

هنا تظهر مهارة شاعر يُقدّس دون أن يعظ، ويُجسّد دون أن يُدنّس، ويُفجّر المعنى دون أن يُحرِق الرمز.

سادسًا: العبث النبيل والمفارقة الباكية

أرى الخمسين مسرعة ونفسي

تخاتلني مع الدفع الرباعي

هنا ينزلق الشاعر إلى الضحك الموجوع.

إنه لا يحتفل بالخمسين، بل يتآمر معها على نفسه.

وكأن روحه طفلٌ يسرق نفسه من جسده، ويضحك سرًا من الزمن الذي لا يُمهل.

بيتٌ شديد العمق، شديد الخفة، وكأن القصيدة بأكملها وقفت لتبتسم ثم تُكمل الحفر في القلب.

خاتمة: حين يكتب الألم وصيته الأخيرة

يا لهذا الشاعر،

إنه لا يطلب القصيدة.. بل يتوسل النجاة منها.

ينزفها كما ينزف نبيّ قصيدته الأخيرة، دون أن ينتظر تصفيقًا أو تفسيرًا.

هذه القصيدة، ببساطة، هي سيرة روحية لذاتٍ لم تختر أن تعيش، بل اختارت أن تبوح.

سيرة قلبٍ على سدة الخمسين، يرى العالم من طوله.. فيخاف السقوط من نفسه.

قصيدة تُكتب مرة واحدة في العمر، لأنها مكتوبة بكل ما في العمر من مرّة.

ناقدٌ يحترف البكاء في قلوب القصائد، ويُدرب الحروف على السير فوق الماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى