أقلام

الحكم الفقهي والتشخيص الذاتي والذكاء الصناعي

أمير الصالح

يطرق مسامعنا بين الحين والحين جملة: اعمل حسب تكليفك الشرعي! ونسمع كذلك بين الحين والحين جملة: اعمل حسب تشخيصك لحالتك ووضعك لتطبيق الفتوى الشرعية! وفهم الغالبية أن كلا الجملتين يُراعى في التشخيص الفقهي السياقات الاجتماعية والسياسية والزمكانية. كنت ولأكثر من مرة في مقصورة طائرات لمختلف خطوط نقل جوي أجنبية في عدة رحلات جوية على امتداد سنوات وتحت ظروف وتوترات سياسية عالمية مختلفة، وشاهدت تغيرات متعددة في سلوك المسافرين جوًا من المسلمين عند دخول وقت الصلاة وهم في رحلة جوية طويلة المدة باتجاه أقصى الغرب أو أقصى الشرق. ففي فترة غابرة من الزمن وفترات لاحقة لاحظت أنه عند ولوج وقت الصلاة بالرحلات الجوية: أرى بعض من الركاب يصلون كما يصلون في المساجد من وقوف وركوع وسجود في ممر ركاب المسافرين بالطائرة وبالقرب من أبواب الطوارئ للطائرة أو بالقرب من مساحات مداخل الحمامات بالطائرة، ورأيت آخرين يؤدون الصلاة جلوسًا في مقاعدهم، وأرى عددًا آخر يؤجلون صلاتهم حتى مع علمهم بأن وقت وصول رحلتهم للمحطة الأرضية المقصودة يواطئ وقت خروج وقت أداء الصلاة المفروضة!

عند أثارة النقاش مع كل فئة من أولئك الأشخاص قد تسمع لكل منهم مسوغات وتشخيصات وتبريرات مختلفة لفعل ما فعله بالشكل الذي رأيته؛ وبعض تلكم التبريرات غير مطابقة لروح النص القرآني، ولكنه يطابق تشخيصه. فالمصلي من جلوس يقول بأنه كان يخشى الضرر ودفع عن نفسه المشاكل بإمكانية خضوعة لمسائلة أمنية أو قانونية والقاعدة الفقهية تنص على أن الدين رفع الحرج عن أتباعه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الاية وكذلك (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلّا وُسْعَها).

والمصلي من قيام قال إن الأصل هو الإتيان بالصلاة في صورتها المطلوبة وليس من جلوس إلا بعذر طبي؛ والقاعدة الفقهية تنص على أنه لا اجتهاد قبال النص. والمؤجل لصلاته قال بأن الأصل لا ضرر و لا ضرار وأن احتمالية التعرض للإيذاء والمسائلة من أمن الطائرة في بعض الخطوط الجوية ولا سيما مع تمدد ظاهرة الإسلاموفوبيا تحتم التأجيل في وجهة نظره حتى بلوغ مكان آمن والصلاة فيه، فالأصل الفقهي لتشخيصه هو أن “الضرورات تبيح المحظورات”. وهذا الأخير شطح بإسقاط واجب أداء الصلاة.

هذه الاجوبة والردود المتفاوتة أثارت في ذهني مسألة صحة وموازين تشخيص الإنسان المُكلف شرعًا عن انجع طرق تنفيذ الحكم الشرعي لمسألة ما، وهل الإنسان يوفق في تشخيص حالته وتكليفه أم أنه ينحاز عاطفيًا لما تربى عليه؟ أم أن ذوبان هويته وصل حد الاستخفاف بدينه وبقيمه وخنق نداءات ضميرة وأخرس عقله بذاته حتى أسقط صلاته وأهدر حقوقه.

في مكان وزمن آخر، أرسل أحد الأصدقاء مقطع فيديو داخل قروب رقمي لشيخ في دولة مجاورة، كان يشرح فيه حكم فقهي يعالج موضوع تجاوز حكم وضع ما يصح السجود عليه على السجاد في الروضة النبوية الشريفة، وضرورة التجانس مع الآخرين بعناوين: المداراة ودفع الحرج. لاحقًا استفسرت عن صحة الكلام وقيل لي: إن ما قاله الشيخ صحيح مع مراعاة خصوصية المكان. فاستفسرت عن الحكم وتشخيص تطبيقات الحكم وحدود المداراة ومواضع رفع الحرج، فقيل لي إن من يحدد تشخيص تطبيق الحكم هو الإنسان المُكلف، والفقيه فعليًا يحدد الحكم العام ولا يشخص تطبيقاته وإنما يطرح بعض الأمثلة فقط لتقريب الصورة.

نستعرض بصورة موجزة العناوين التالية بعد ذكر الأمور السابقة.

الحكم الفقهي: الحكم الفقهي هو الحكم الشرعي المستنبط من الأدلة الشرعية، مثل القرآن الكريم والسنة النبوية والإجماع والعقل، ويتعلق بتنظيم سلوك الإنسان في مختلف جوانب حياته. يتناول الفقه الإسلامي الأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها، ويهدف إلى توجيه المسلمين نحو السلوك الصحيح والمستقيم وفقًا للشريعة الإسلامية وأدبياتها.

أقسام الأحكام الشرعية حسب فهمي لها من قراءات متعددة:

1. الأحكام التكليفية

وهي المتعلقة بأفعال المكلفين، وتشمل خمسة أقسام:

– الواجب (الفرض): ما يُثاب على فعله ويُعاقب على تركه، مثل الصلاة والصوم.

– المندوب (المستحب): ما يُثاب على فعله ولا يُعاقب على تركه، مثل صلاة الليل.

– المباح: ما لا ثواب ولا عقاب عليه، مثل الأكل والشرب المباحين.

– المكروه: ما يُثاب على تركه ولا يُعاقب على فعله، مثل الإسراف في الماء أثناء الوضوء.

– الحرام: ما يُعاقب على فعله، مثل الربا والزنا.

2. الأحكام الوضعية:

تتعلق بوصف الأفعال ونتائجها، مثل:

– الصحة والبطلان: كصحة العبادات أو بطلانها لعدم استيفاء الشروط.

– السببية والشرطية: مثل وجوب الصلاة عند زوال الشمس (سبب) أو الطهارة شرطًا لصحتها.

بعد هذه المعالجة الخاطفة نرجع لسؤالنا عن موضوع تشخيص المُكلف شرعًا.

التشخيص الموضوعي:

الإنسان بطبعه منحاز تفضيليًا أو عاطفيًا لما يحمله من قناعات سابقة ورواسب ثقافية ومؤثرات اجتماعية وخلفية تربوية حتى لو كان فقيهًا أو صاحب مشروع أممي، إلا أن الموضوعية العقلية والبصيرة العلمية لدى كل إنسان متفاوته طبقًا لدرجات حكمته ونفاذ علمه وحرصه على السعي نحو الكمال، وتهذيب رغباته وتربية نفسه. الإنسان البسيط يمارس كثيرًا من أعماله طبقًا للأعراف والعادات والتقاليد، فعلى سبيل المثال يرى البعض في منطقة الأناضول والشمال الغربي الأفريقي والجنوب السوداني العربي أن التاتو والوشم مقبول اجتماعيًا ولا تعارض بينه وبين حكم الفقه الإسلامي. بينما آخرون في بعض الدول الإسلامية يفتون بكراهته، أو عدم حليته وتفسيق صاحبه.

سؤال: ماهي أفضل الأدوات المبرءة للذمة، والتي يمكن للمكلف من المسلمين استخدامها في تشخيص نطاق تطبيقات الفتوى الشرعية؟

في الإسلام، يتطلب اتخاذ القرار الأنسب والأفضل منهجية متوازنة تجمع بين الالتزام بروح النص الشرعي والتحليل العقلائي مراعيًا كل الظروف الزمكانية والحدود الممكنة للتطبيق. فيما يلي بعض الطرق لتشخيص واتخاذ القرار الأمثل وفق الرؤية المنطقية والواقعية. قد يكون تحليل العواقب والمصالح (قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد) هو إحدى الأدوات. وكذلك عقد دراسة المخاطر باستخدام أدوات مثل تحليل SWOT (نقاط القوة، الضعف، الفرص، التهديدات) أداة أخرى ثانية.

التدرج في التفكير وتحليل المشهد

1. تحديد الموضوع (مثال: أصل الموضوع، أداء الصلاة أثناء رحلة جوية طويلة المدة؛ الفرعيات اختيار مكان أداء الصلاة داخل الطائرة والوقت المتاح لأداء الفريضة).

2. جمع المعلومات(مثل: أدبيات وقوانين الناقل الجوي، والتركيبة الديموغرافية للركاب).

3. البدائل (ناقل جوي آخر آكثر تعاونًا وأريحية وملتزم بأدبيات احترام الممارسة العبادية للمسافر المسلم).

4. التقييم بناءً على معايير معينة، مثل:

– الشرع → الحِلّ أو الوجوب أو التحريم.

– العقل → المنفعة.

– القلب → الطمأنينة.

5. الاعتماد على الأدوات التقنية الحديثة في فلترة التشخيص

– استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي طبقًا للموضوع والموضوعية ولقيم المعلومات المتوافرة وصياغة الاستفسار؛ فهنالك برامج تُحلل الخيارات بناءً على بيانات دينية واقتصادية وجيوسياسية (بعد التأكد من موثوقية المصادر).

– تشجيع أبناء الجيل الحالي على تبني مشروع مماثلة simulation لمعالجة التشخيص لأفضل سلوك يتم تبنيه بناء على مدخلات وسيناريويهات معينة situational cases

ختامًا:

تداخل الامور وتشعب المؤثرات خلق أجواء هلامية لدى البعض وخلق أيضًا أجواء تطرفية عند البعض الثاني وخلق روح انهزامية لدى أقوام آخرين وخلق اختبارات خيارات اليقين وصدق البراهين في فهم وتطبيق روح النصوص والأحكام الشرعية أو خذلان النفس واتباع الشيطان. الكمال لله ومن الجيد بين الحين والحين اختبار أدوات التشخيص وبناء القرار الأنسب وإبرام التقويم المستمر والدوري عبر مراجعة النتائج وتعديل المسار إذا ظهرت مفاسد غير متوقعة أو أمور تخرج النفس عن مسار سكة الإيمان والتقوى.

تنصل: هذه المقالة تعبر عن وجهة نظري لموضوع تدارسته وحاولت جادًا أن أرسم خطوط معالجة بسيطة للبعض ممن أجل الواجب متذرعًا بعنوان التشخيص علها تسهم في ترسيخ روح الوعي والإيمان والتقوى وحب البلاد والعباد. وأطلب ممن له إضافة ودراية من أهل الاختصاص بطرح معالجاته وحلوله ومنا له الدعاء بحسن التسديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى