أقلام

المعاد الرحلة التي تبدأ من العقل وتنتهي في الوحي

أحمد الطويل

مقدمة:

إمكان العالَم الآخر هو الخطوة الأولى نحو الإيمان الكبير.

في طريق الإيمان بالمعاد، لا يقف أئمة الفكر والعقيدة عند المشهد الأخير من البعث والنشور، بل ينطلقون من الجذور، هل وجود عالم آخر ممكن في نفسه؟

هذا التساؤل لم يكن فلسفيًا بحتًا، بل ضرورة عقلية تمهّد للقبول العقائدي. فالمعاد مليء بالعجائب التي قد تظنها العقول مستحيلة، مثل رجوع الأرواح، وبعث الأجساد، والحساب، والثواب والعقاب.

ولذا، نجد المحقق الطوسي والعلامة الحلي وغيرهم من أعلام مدرسة الإمامية، يبدأون ببيان إمكان هذا العالم الآخر عقلًا، ليرتفع بذلك وهم الاستحالة، ويفسح المجال للنقل القطعي ليأخذ مكانه في البيان والتفصيل.

إذا ثبت الإمكان، سهل التصديق. قال العلّامة الحلي: “حكم المثلين واحد، فإذا جاز وجود هذا العالم، جاز وجود غيره.”

فبُني الطريق بعقل، وزُيّن بنور النقل.

الخلاء الموهوم: عقبة الفلاسفة التي كسرها التوحيد

ادّعى بعض الفلاسفة أن وجود عالمٍ آخر يؤدي إلى “الخلاء”، لأن الأجسام تحتاج إلى حيّز، والحيّز كله مشغول!

لكن مدرسة أهل البيت عليهم السلام ترفض هذه النظرة الحسية الضيقة، وتقول: الله لا يُقيد بقوانين الفضاء والمادة. فهو الذي خلق الكون من عدم، أفلا يخلق عالمًا آخر خارج هذا الإطار؟!

قال الإمام الصادق عليه السلام: “إن لله عز وجل اثني عشر ألف عالم، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين…”

(بحار الأنوار، ج27، ص44). والقرآن نفسه يعلّمنا هذا التعدد: “الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”. العوالم جمع، فهل يمكن حصر القدرة الإلهية بعالمٍ واحد؟

الفاعل الذي لا يُعطّل: الخلق الجديد لا يعني الفراغ

ذهب بعض المتكلمين إلى إنكار فناء هذا العالم وخلق عالم جديد هو عالم المعاد، ظنًّا منهم أن ذلك يُفضي إلى “تعطيل الفاعلية” الإلهية!

لكنهم أخطأوا في فهم طبيعة الفعل الإلهي.

الله فاعل بالاختيار، لا بالطبع. يفعل متى شاء، ويدع متى شاء، وكل ذلك كمال لا نقص فيه.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: “كان الله ولا مكان، ولا زمان، ولا شيء معه…”

(نهج البلاغة، الخطبة الأولى).

فهل كان معطّلاً؟ أبدًا!

قدرته لا تتوقف على وجود المخلوق، بل وجوده هو مصدر كل كمال.

مجزرة الحياة وشهود الإحياء الإلهي

قصة إبراهيم عليه السلام ليست حكاية استئناس طيور، بل ملحمة إحياء بعد الفناء.

الله أمره أن يأخذ أربعة طيور، يذبحها، يقطّعها، يخلط أجزاءها، ثم يضع كل جزء على جبل، ثم يناديها، فإذا بها تعود حيّة تطير إليه!

هذا هو الإحياء الذي يُطمئن القلب.

قال الإمام الصادق عليه السلام: “ذبحهنّ وقطّعهنّ، وخلط أجزاءهن، ثم وضعها على الجبال.”

(تفسير العياشي، ج1، ص146).

اللغة تؤكد المعنى:

“فصرهنّ” تعني قطّعهن، لا كما زعم البعض أنها تعني “قرّبهنّ”!

وسياق الآية: “كذلك يُحيي الله الموتى” (البقرة: 260)

هو شاهد صريح على أن المراد هو إعادة الموتى للحياة بعد تفرّق الأجزاء.

عقيدة لا يزلزلها العقل بل يؤكدها

حين يتلاقى البرهان العقلي مع البيان القرآني، يولد الإيمان المتين بالمعاد.

فالله الذي أنشأنا أول مرة، قادر على أن يُعيدنا.

“كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ” (الأعراف: 29)

وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: “العجب ممن يشك في النشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى!”

إنه منطق العقول السليمة، ومنهج أهل البيت عليهم السلام الذي يجمع بين نور العقل وسراج الوحي.

نسأل الله العلي القدير، أن يجعلنا من المؤمنين الموقنين بالمعاد، المتبعين لنهج محمد وآل محمد، وأن يرزقنا الثبات على الحق، ونور البصيرة، ورضاه الأكبر، وجنات النعيم مع النبي وآله الطاهرين. إنه سميع الدعاء، قريبٌ مجيب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى