أنا فيه يجي… وأنت فيه يروح

عماد آل عبيدان
دخل أستاذ البلاغة في محاضرته بجامعة البترول والمعادن عام 199، ليس باعتباره أستاذًا جامعيًّا جليلًا بل باعتباره فنانٍا لغويًّا استلقى على سُرُر العبث اللغوي متعمّدًا، تلفّح بجلباب ساخر، ثم ألقى بجملة سريالية كانت كفيلة بإسكات كل الحناجر وصبّ الحبر في القلوب قبل المحابر:
“إنتَ فيه يروح، أنا فيه يجي، أنت يجيب سامان ويعطي أنا…”
لحظة صمت… فابتسامات… ثم انفجار في الضحك والذهول معًا.
يا للهول! هل تحوّلت جامعة البترول إلى مسرح عبثي هندوعروبي؟
أم أن اللغة نُكِّست أعلامها وسُرقت أصواتها لتُدفن تحت بسطة بقالة منسية؟!
كانت تلك المحاضرة، كما تروي الذاكرة المغمّسة بالدهشة، استفتاحًا عظيمًا لحوار وجوديٍّ حول لغتنا…
لماذا نكسر اللغة العربية بأيدينا، ونركض خلف “سيم سيم” و”ما في معلوم”؟
وهل نحن، يا صاحبي، من يتكلم لغة الضاد، أم نرتديها فقط في الأعياد والمناسبات الرسمية، ثم نرميها كعباءة تقليدية حين نشتري بيضًا أو نطلب شاحنًا للهاتف من متجر ركني صغير يتقن صاحبه “يا بابا سكر كويس” أكثر مما يتقن “افتح الباب يُؤتَكُم رزقًا من السماء”؟
بين “ما في معلوم” و”قل ودل”: بقالة تُهزم فيها الفصاحة!
خذ على سبيل المثال المقارنات الساخرة بين اللغة الهندوعربية العاميّة والمثل العربي:
• “سكر باب مزبوط بعدين ما في يجي هوا” تقابلها بالفصاحة: “الباب الذي يأتيك منه الريح، سدّه واسترح!”
تخيل شاعرًا جاهليًّا يقول: “سكر كويس، باب ما يجي هوا!” … كانت ستنقلب المعلقات إلى ملصقات بقالة!
• وعبارة: “نفر ما يقدر يمسك عنب هو قول ما في حلو”، وهي النسخة الـWiFi من حكمة: “*اللي ما يطول العنب يقول عنه حامض.”
يا لها من نكسةٍ بلاغية، يكسوها الانهزام النطقي والتحايل الصوتي.
ولكن، هل الذنب ذنب “راجو” الذي يبيع الصابون ومعجون الأسنان ويقول لك “هذا واجد كويس ، فيه ريحة حلو ناعم”، أم الذنب ذنبنا نحن الذين ننزّل لغتنا من عرشها لنستجدي الفهم؟
عندما تتحوّل اللغة إلى حمالة سلع!
إنه لمن أعاجيب القرن الحادي والعشرين أن ترى لغة القرآن تُرمى في كيس خيش وتُصفّ في رفوف اللغات البائسة حين نتحدث مع عامل نظافة، أو نشتري حبة بصل.
والحجّة البائسة دومًا: “عشان يفهمني ”.
يا سيدي، إن كان راجو لا يفهمك، فلا تجرّم اللغة لتكسب الفهم، بل علّمه!
ما الفائدة من أن تقول: “هو يجي ساعة خمسة أنا فيه روح بيت”، وتعتقد أنك بذلك اختصرت الزمن، بينما اختصرت كرامة اللغة؟
هل يُعقل أن تُقايض بلاغة العرب بعلبة حليب؟ أن تهزم امرأ القيس لأجل طلب فاتورة واتساب؟
اللغة بين الوجع والفكاهة: حين تصبح السخرية فصيحة!
الطريف، أن كل هذا الخراب اللغوي فكاهي بشكل مدهش!
حين نسمع: “أنا وراجو سوا سوا نضرب نفرات مو هندي”، لا نملك إلا أن نضحك، لا على راجو، بل على أنفسنا!
على هشاشة الهويّة اللغوية، وسرعة انصهارها في قدر الضغط الاستهلاكي.
ويا لروعة المفارقة! في كل مثل “هندي-عربي” يقابله حكمة بلاغية عربية، كأنما تهز اللغة رأسها وتقول: “حتى حين تتنكّرون لي، ما زلتُ خلفكم، كظلّ لا يُمحى.”
“ ائتيني بالكساء”… درسٌ في الإعراب والوجدان
وانظر إلى رصانة الحديث الشريف:
“يا فاطمةُ، ائتيني بالكساء اليماني فغطيني به.”
• “ائتيني”: فعل أمر مبني، والفاعل مستتر تقديره “أنتِ”، و”ني” مفعول أول،
• “بالكساء”: جار ومجرور،
• “فغطيني”: فعل أمر معطوف، والضمير “ني” مفعول به.
انظر إلى البساطة المغلّفة بالفخامة. من هنا تبدأ الهيبة، ومن “إنتَ فيه يجي” تنتهي الرفعة!
إذن … ماذا بعد كل هذا الانهيار اللغوي؟
هل نكتفي بالضحك؟
هل نقول إن الزمن تغيّر؟
كلا.
الفصاحة لا تموت، لكنها تُسرق إذا نحن أهملناها.
فإذا أردتَ أن تُحسن إلى لغتك، تحدث بها… حتى في البقالة.
قل للعامل: “أعطني كيسًا من الطماطم، مشكورًا.”
وسيعرفها، لا محالة. وإن لم يعرف، علّمه… ولا تنزل بلغتك إليه، بل ارفعه هو إليها.
خاتمة تليق بجمال اللغة:
اللغة العربية ليست كبرياءً صوتيًا نتخلى عنه عند أول عثرة لغوية.
إنها شريان هوية، وهيبة حضارة، وشهادة انتماء.
فلنضحك من “مافي معلوم”، لكن لا نجعلها قاموسنا البديل.
ولنبتسم حين نقرأ “سيم سيم ٤٠ نفر”، لكن لا ننسَ أن اللغة التي أنزل بها الوحي *تستحق أن نكون على قدرها، لا دونها.
فلا تكسروا لغتكم… فاللغة التي تنكسر، تنكسر معها أرواحنا.