سرّ عظمة السيدة الزهراء عليها السلام
السلام على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته
مدخل:
لاشك أن الحديث عن امرأة عظيمة كالسيدة الزهراء ليس حديثا عاديا بل هو حديث استثنائي، وذلك أن السيدة الزهراء ليست امرأة عادية بل هي امرأة استثنائية بكل المقاييس، وإن الحديث عنها صلوات الله وسلامه عليها يعني -في حقيقته وواقعه- الحديث عن أعظم شخصية بشرية نسائية عرفها التاريخ، إذ لم يعرف التاريخ في كل مراحله وأدواره امرأة لها من سمو المنزلة والمنزلة السامية، ورفعة المقام والمقام الرفيع، وعظمة المكانة والمكانة العظيمة، وقدس الجلالة وجلال القداسة…كالسيدة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها.
فهي المرأة المتفردة بكل صفات الجمال والكمال، والتي فيها ما في سائر النساء وليس في سائر النساء ما فيها من عظيم السجايا والمثل والقيم التي عزّ نظيرها وندر وجودها، وكلها تمثلت في شخصها الطاهر، وتجلت للناس بأجلى الظاهر، وبوأتها صلوات الله عليها المنزلة العظمى والمقام الرفيع عند الله ورسوله والراسخين في العلم من آل النبي صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حتى استحقت وبكل جدارة وبشهادة أبيها النبي المعصوم الذي {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} أن تكون سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
هذه المرأة القدسية التي حلّقت في سماء المجد والعظمة، حتى بلغت مرتبة لم تبلغها قبلها امرأة، ولن تصل إليها بعدها امرأة…وحسبك من علّو مرتبتها السامية، وسمو درجتها العالية أنها عليها السلام كوثر البشارة في {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ومشكاة نور الله في {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} (مثل نوره كمشكاة} وأم أبيها، وسيدة نساء أهل الجنة، بل سيدة نساء العالمين، وهي المرأة التي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، بل هي المرأة التي فطم الخلق عن معرفتها حق المعرفة صلوات اله وسلامه عليها.
مولدها الطاهر ونشأتها المباركة:
ولدت صلوات الله وسلامه عليها في العشرين من شهر جمادى الآخرة في مكة المكرمة، بعد البعثة النبوية الشريفة بخمس سنوات، ونشأت في بيت الوحي والتنزيل، ترضع ثدي الإيمان، وترشف نمير القرآن، وتتلمذ على يدي أبيها النبي الذي كان صلى اله عليه وآله يغمرها بحبه الفياض، ويغدق عليها من عاطفته الجياشة الشيء الكثير، ويرفع لها في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرها بالاقتداء به…إلى أن خرج الفرع على أصله، وأشبهت البنت أباها، فكانت على هديه في كل أمور الحياة.
علاقتها بالله عز وجل:
لقد تعمقت صلوات الله وسلامه عليها في معرفة الباري حق المعرفة، فرأته سبحانه وتعالى الكمال المطلق المنزّه عن كل نقص، فشغفها حباً، وذابت في عشقه بكل كيانها، فتوطّدت العلاقة بينها وبينه، فعبدته بصدق وإخلاص، وطالما صفت قدميها في محرابها وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وهي عليها السلام تتململ تململ السليم، وتبكي بكاء الحزين، في صلاة خاشعة، وتلاوة حزينة، ودعاء صادق، واستغفار نابع من قلب متيم بحب الله عز وجل.
ولا شك أنها من أولئك النفر العظام الذين {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ، وقد نقل لنا ولدها الحسن الزكي هذه الصورة المشرقة من عبادتها فقال: رأيت أمي فاطمة عليها السلام قائمة في محرابها ليلة الجمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتى انفجر عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت: يا أماه، لـم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟
فقالت: يا بني، الجار ثم الدار.
وإنه لموقف كما يكشف لنا النقاب عن علاقة السيدة الزهراء بربها، واتصالها الروحي به سبحانه وتعالى، لهو أيضا درس عملي لنا في العلاقات الاجتماعية، وكيف يجب أن تكون مبنية على الحب والإخاء، والإكثار من دعاء المؤمنين لبعضهم البعض لاسيما في ظهر الغيب، تماما كما ورد في مضمون الحديث القدسي الشريف: ادعني بلسان لم تعصني به.
وقد فسر بدعاء المؤمنين لبعضه البعض.
وكان عاقبة هذه العبادة وذاك الانقطاع أن جزاها الله أحسن الجزاء، فكساها من نوره وأسبغ عليها نعمه ظاهرة وباطنة، وأذهب عنها الأرجاس، وطهرها من الأدناس، وافترض مودتها في الكتاب، وجعلها قدوة لأولي الألباب.
مع أبيها النبي:
كما أنها سلام الله عليها كانت لأبيها بنتاً لا كالبنات، تخدمه وتطيعه وتمتثل أوامره، وتجله أيما إجلال، وتحترمه أيما احترام، وتكبره أيما إكبار…إلى درجة أنه حينما نزل قوله تعالى: { لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا} تهيّبت عليها السلام أن تناديه صلى الله عليه وآله: يا أبه، وأخذت تناديه: يا رسول الله.
فأقبل صلى الله عليه وآله عليها قائلاً: يا بنية، لم تنزل فيك ولا في أهلك من قبل، أنت مني وأنا منك، وإنما نزلت في أهل الجفاء والبذخ والكبر، قولي: يا أبه، فإنه أحب للقلب، وأرضى للرب.
ثم قبلها صلوات الله عليه وآله في جبهتها، ومسحها بريقه، فما احتاجت إلى طيب بعده.
وكما كانت صلوات الله عليها له بنتاً كذلك كانت له أماً، تهتم به وترعاه، وتخشى عليه كل سوء، وتخاف عليه كل مكروه، وتعينه على أداء رسالته بشد أزره، ومواساته في كل ما يلقاه من كفار قومه، وتخفف آلامه وأحزانه، وتضمد جراحه…وكان النبي صلى الله عليه وآله يبادلها حباً بحب، وودا بود، وإجلالاً بإجلال، وإكباراً بإكبار…حتى أنه لم يكن صلى الله عليه وآله يعاملها معاملة الأب لابنته، بل كان يعاملها معاملة المثل للمثل، فإذا أقبلت عليه يقوم لاستقبالها، ويجلسها بجانبه، ويقبل عليها بالحديث، وإذا أرادت الذهاب إلى بيت زوجها يقوم صلى الله عليه وآله إجلالاً لها، ويشيّعها إلى الباب داعياً لها بالتوفيق والسعادة.
وطالما قبلها صلى الله عليه وآله في يدها وجبينها وأكثر من تقبيلها، حتى سألته السيدة عائشة متعجبة: أتقبلها وهي ذات بعل؟
فقال صلى الله عليه وآله: إني أشم منها رائحة الجنة.
وكان صلى الله عليه وآله كثير الشوق إليها، لا يصبر على فراقها ساعة، وإذا أراد السفر كان آخر بيت يخرج منه بيتها، وإذا عاد من سفره كان أول منزل يدخله منزلها عليها السلام، وأحاديثه الشريفة في الإشادة بها والتنبيه إلى فضلها تكاد لا تحصى كثرة.
برفقة بعلها الوصي:
أما بعلها أمير المؤمنين سلام الله عليه فقد كانت صلوات الله عليها له الزوجة الوفية المخلصة المحبة الصادقة…تبحث عن سعادته، وتحرص على راحته، تبادله المودة والرحمة، فلم ترهقه من أمره عسراً، ولا كلفته ما لا طاقة له به، فلم يعهدها أبو الحسن خائنة ولا كاذبة ولا خالفته منذ عاشرها، بل هي عليها السلام أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من أن يوبخها بمخالفته، أو يتهمها بالتقصير في حقه، وكان عليه السلام إذا نظر إليها انجلت عنه الهموم والأحزان.
وقد أنجبت له رياحينه الأربعة الذين ملئوا البيت عليهما غبطة وسروراً وسعادة: الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم (على خلاف في وجودها) فقامت بتربيتهم خير قيام، تحمل هذا، وتضم ذاك، وتضحك لهذه، وتبتسم لتلك…وتحث الجميع على أن يقتدوا بأبويهم النبي والوصي، ويكونوا على هدي القرآن وتعاليمه الراشدة.
الجهاد المقدس:
أما جهادها في الدفاع عن تراث أهل البيت المنهوب، وحقهم المغتصب، مطالبة بإعادة الحق إلى أهله الشرعيين، فهو مما يعجز عن وصفه اللسان، ولا يمكن أن يحيط به البيان، وقد تناولنا ذلك بشيء من التفصيل في كتابنا (علي سمو الذات وعظمة الشخصية) فراجع.
وبكلمة: فإن الزهراء صلوات الله وسلامه عليها هي القدوة الحسنة، والمثل الأعلى لكل امرأة تبحث عن السعادة في الحياة الدنيا، ونيل الكرامة الإلهية في النشأة الأخرى.
في رحاب الزهراء:
وفي عام (1413هـ) قام نخبة من شباب (مدينة الجفر بمحافظة الأحساء) بـإعداد كتيب عن هذه المرأة العظيمة، بعنوان (في رحاب الزهراء) وذلك بمناسبة ذكرى مولدها المبارك، وطلبوا مني المشاركة في الكتيب بكلمة فأجبتهم شاكراً، وكتبت في مساء يوم الثلاثاء السابع من شهر جمادى الآخرة لعام (1413هـ) كلمة بعنوان (سرّ عظمة الزهراء) وأحب أن أسجل هنا بعضها حفظاً لها من الضياع، فقد كان مما قلته فيها: (…إن الحديث عن امرأة كالسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ليس بالسهل اليسير، فإن الزهراء ليست بالمرأة العادية التي عاشت على هذا الكوكب الأرضي حفنة من السنين، ثم ماتت ودفنت تحت التراب دون أن يكون لها أي أثر في الحياة، وإنما هي أقدس وأعظم امرأة في دنيا الوجود.
لذلك يجب على الباحث الذي يريد أن يتحدث عن بضعة محمد، وحبيبة علي، وأم الريحانتين، أن يعلم ويتيقن -أولا وقبل كل شيء- أنه يتحدث عن أعظم شخصية بشرية نسائية عرفها التاريخ، فيجهد نفسه في البحث والتحقيق والتنقيب حتى يستطيع أن يفي البتول حقها من التقديس والتبجيل، وإن كنت لا أحسبه يستطيع ذلك مهما آتاه الله من سعة في الاطلاع وقوة البيان.
وما عساه أن يقول في امرأة قدسها الرحمن، وبجلها القرآن، وعظّمها النبي، وأكرمها الوصي، واعترف بجلال قدسها وقدس جلالها المسلم وغير المسلم من أصحاب الضمائر الحية والقلوب السليمة.
وربما اعتقد البعض أن سرّ عظمة الصديقة الطاهرة سلام الله عليها يكمن في كونها ابنة محمد المصطفى صلى لله عليه وآله، ذلك الرجل العملاق الذي ثلّ عروش الكفر، وحطّم كبرياء المشركين، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الحق والصراط المستقيم.
ولأنها زوجة علي المرتضى، شبيه النبي وصنو الرسول، الذي سئل عنه الإمام الشافعي فقال كلمته الجامعة الخالدة: ما أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً وقد شاع من بين ذين ما ملأ الخافقين.
ومن هذه الكلمة الشهيرة أخذ السيد تاج الدين قوله:
لـقـد كـتـمـت آثـار آل مـحـمـــد
محبوهم خوفا وأعداؤهم يغضا
فـشـاع لـهـم بين الخافقين نبذة
بها ملأ الله السمـوات والأرضـا
ولكونها أم الريحانتين، ومنجبة الزكيين الحسن والحسين، أحباب رسول الله، ومهجتي قلبه، وفلذتي كبده، وهما الامتداد الطبيعي لجدهما، ولولاهما لما بقي لهذا الدين من أثر.
أقول: ربما اعتقد البعض ذلك كما أشار إليه فيلسوف الباكستان الكبير الأستاذ محمد إقبال في قصيدته الرائعة العصماء، حين قال مادحاً لسيدة النساء صلوات الله عليها:
نسـب المسـيـح بـنـى لـمـريـم سـيـرة
بـقـيـت عـلـى طـول المـدى ذكـراهــا
والمـجـد يشـرق مـن ثـلاث مـطــالــع
فــي مهــد فــاطــمــة فــمــا أعــلاهـا
هي بنت من هي زوج من هي أم من
مـن ذا يــداني فـي الـفـخــار أبــاهـــأ
وقول الآخر:
إن قيل حوا، قلت: فاطم فخرهـا
أو قيل مريم، قلت: فاطم أفضـل
أفـهــل لـحـوا والـد كـمـحـمــد
أم هل لمريم مثل فاطـم أشبـل؟!
ولا شك أن الفخر في الانتساب إلى محمد، والشرف في الاقتران بعلي، والاعتزاز في إنجاب الحسن والحسين، ولكن لا يمكننا أن نعتبر ذلك هو السرّ الحقيقي في عظمة الزهراء وجلالتها، لاسيما وأن الإسلام قد رفض قانون التفاخر بالآباء والأنساب، فها هو دستور محمد الخالد يهتف في نوادينا ويقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}.
فمع عظمة النسب الهاشمي إلا أنه ليس السر الحقيقي في عظمة السيدة الزهراء عليها السلام، وقديما قال أحد الشعراء:
ليس الفتى من قال كان أبي
إن الفتى من قـال هـا أنـا ذا
ولا أريد بقولي هذا أن أقلل من شأن الانتساب إلى رسول الله صلى الله وعليه وآله، كلا وحاشا، بل كيف يكون ذلك وقد قال النبي المفدى عليه وآله أفصل الصلاة وأزكى السلام: (كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة ما خلا سببي ونسبي) قال صلى الله عليه وآله: (إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله وذريته، فلا تذهبن بكم الأباطيل) والأئمة الأطهار عليهم السلام قد افتخروا بانتسابهم إلى رسول الله، وعدّوا ذلك شرفاً لا مثيل له، فمن ذلك قول الإمام الحسن الزكي عليه السلام: (أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا ابن الذي أرسله الله رحمة للعالمين…).
وقال السبط الشهيد عليه السلام:
أنا بن علي الطهر من آل هاشم
كفاني بهذا مفخـرا حـيـن أفـخــر
وفـاطـم أمــي ثــم جـدي مـحـمـد
وعمي هو الطيار في الخلد جعفر
والزهراء سلام الله عليها افتخرت بشرف الانتساب إلى الرسول صلى الله عليه وآله، وذلك حين قالت في خطبتها الشهيرة التي ألقتها في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله بعد أن غُصب حقها، ونُهب تراث بعلها: (…أيها الناس، اعلموا أني فاطمة وأبي محمد، أقول عوداً على بدء، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} ، فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا بن عمي دون رجالكم…).
فأنا لا أنكر شرف هذا الانتساب وفضله، ولكني أقول: أنه ليس هو السرّ الحقيقي أو الوحيد في عظمة الزهراء عليها السلام، وإلا فكم غيرها صلوات الله وسلامه عليها من الرجال والنساء ينتسبون إلى هذا البيت الطاهر، ولكن ليس لهم من العظمة ما لها.
وإذا آمنا بذلك وصدّقنا به، فلابدّ لنا أن ننتقل إلى لون آخر من البحث، عسى أن نجد من خلاله ضالتنا المنشودة، وهي البحث عن سرّ عظمة الزهراء روحي فداها.
ولعل قائلاً يقول: إن سرّ تلك العظمة العظيمة التي لا يعرف مداها إلا الله سبحانه وتعالى، هو ما ورد في حق الحوراء الإنسية من آيات قرآنية وأحاديث نبوية، كان لها الأثر الكبير والدور الفعال في صنع عظمتها، ورفع مقامها السامي، ومكانتها المرموقة.
فإن الأوسمة الأهلية والشهادات النبوية من شأنها أن ترفع الإنسان من الحضيض إلى العلو والرفعة، وهذا هو ما حدث لسيدة نساء العالمين صلوات الله وسلامه عليها التي ورد في حقها من القرآن مثل آية التطهير، ومن الحديث أن الله ورسوله يغضبان لغضبها ويرضيان لرضاها.
ونحن مع احترامنا لهذا القول، وتقديرنا له، إلا أننا لا نقبله ولا نركن إليه، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية -مع جلالتها- إلا أنها لم تصنع مجد فاطمة وعظمتها، لأن فاطمة عظيمة سواء نزل في حقها القرآن أو لم ينزل، وسواء أشاد وحدّث بفضلها الرسول أو لم يُحدث، ونحن إذا جردنا فاطمة من الآيات والأحاديث، وافترضنا أنه لم يرد في حقها شيء من ذلك، فإن عظمتها لن تتغير ولن تتبدل، لأن عظمة الزهراء ليست بما جاء في حقها سلام الله عليها من قرآن وحديث، وإنما بروحها الكبيرة، ونفسها العظيمة، وخلالها الكريمة، ومزاياها الجليلة، وصفاتها النبيلة…هذا هو سرّ عظمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها.
وبتعبير آخر: نحن لا نشك في عظمة الأوسمة الإلهية، والشهادات النبوية، وما لها من أثر في الكشف عن عظمة الإنسان الذي ترد بحقه، وبيان فضله ومكانته، لكننا نقول: إن هذه الأوسمة وتلك الشهادات لا يتم منحها من الله ورسوله اعتباطا، وإنما لمن يستحقها وهو مؤهل لها من الناس، فهناك شيء سابق لمنحها هو استحقاق ذلك الإنسان لها بما يملكه من مؤهلات ذاتية وقابليات شخصية، جعلته محل اللطف الإلهي وتحت عنايته، تماما كما هو الحال في سيدة نساء العالمين صلوات الله وسلامه عليها، فهي كانت مؤهلة لتلك الأوسمة بما تملكه من نقاء قلب، وطهارة روح، وسمو نفس، وعظمة شخصية، لذلك تم منحها تلك الأوسمة والشهادات من قبل الله ورسوله، ليس لتصنع عظمتها، وإنما لتكشف عن جوانب تلك العظمة في هذه الشخصية العظيمة.
فالسيدة الزهراء عظيمة بما تحمل من قيم ومبادئ، وما تتصف به من صفات وخلال، وما تتحلى به من مزايا وجلال…وما جادت الآيات والأحاديث بمدحها صلوات الله وسلامه عليها إلا لتكشف لنا عن مثلها العليا، وأخلاقها الرفيعة، وآدابها السامية، التي لو اتصفت بها المرأة في جيلنا الحاضر لنالت سعادة الدارين الدنيا والآخرة…)