إجازة الرواية عند العلامة الشيخ عبد الهادي الفضلي المنهج والخطوط الرئيسة 1/2
أحمد عبد الجبار السميّن
1ـ من إجازة التُّراث إلى إجازة الحديث
لم تكن ثقافة التَّدوين والكتابة من الأمور الرَّائجة عند العرب الأوائل؛ وكان نقل ثقافتهم من شعر وأيّام وخُطب وأمثال و… يعتمد في أغلبه على النَّقل الشَّفوي عبر مَن كان يُطلق عليهم (الرّواة)، فهناك (رواة الشِّعر) وهم المهتمّون بسماعه من أفواه الشّعراء وحفظه ونقله، وهناك (رواة الشَّاعر) إذ كان للشّعراء الكبار مجموعة من الرّواة الملازمين لهم في حلّهم وترحالهم لحفظ ما يقوله من شعر من أجل نقله والتّرويج له، وكان غرضهم من هذه الرّواية اكتساب ملكة الشِّعر ليصبحوا شعراء مرموقين، فمثلًا زهير بن أبي سُلمى كان راوية لأوس بن حجر، وهناك (رواة القبيلة) المهتمون بحفظ ونقل أنساب القبلية ومفاخرها وآدابها وأخبارها، وغيرهم من الرّواة.
فكانت الرِّواية عند العرب الأوائل ظاهرة (ثقافية ـ إعلامية) يهدف العربي من ورائها حفظ ونشر ثقافته؛ حفظها من النِّسيان والتَّغيير والتَّدليس ونشرها على نطاق أوسع في عصره وما بعده للأجيال التالية عليه.
وقد انتقلت هذه الظاهرة من الأدب والتأريخ إلى العلوم والمعارف خصوصًا بعد الإسلام؛ فاهتمّ المسلمون الأوائل بطرق نقل وانتقال العلوم من الأساتذة إلى طلابهم ومن جيل إلى آخر، وتركّز هذا الاهتمام بهذا الطريق في علوم الحديث ـ إلى جانب الدِّراسات الأصولية القديمة ـ؛ فقد عُدّت دراسة هذه الظاهرة واحدة من موضوعات علم الحديث، وربما يرجع هذا إلى الأهمّية القصوى والمركزية للحديث الشَّريف في الثَّقافة الإسلامية، لما يرتبط بذلك من آثار دينية أساسية.
ولو راجعنا مصادر علم دراية الحديث لوجدنا أن علماء الحديث خصّصوا بابًا من أبواب هذا العلم وهو الباب الأخير في الغالب لكيفيّة نقل الحديث، وأطلقوا عليه عناوين متعددة، منها: تحمّل الحديث وطرق نقله أو كيفية سماع الحديث وتحمّله، لاحظ مثًلا: (البداية في علم الدِّراية) للشَّهيد الثاني (911هـ – 965هـ)، (وصول الأخيار إلى أصول الأخبار) للشيخ الحسين بن عبد الصمد (918هـ -984هـ)، (الوجيزة في علم الدراية) للشيخ البهائي(953هـ -1030هـ)، (مقدّمة ابن الصلاح في علوم الحديث) لعثمان الشهرزوري (ت: 643هـ) وغيرها من مصادر دراية الحديث عند المسلمين.
هذا كلّه يبرز منزلة هذا الموضوع لدى علماء الحديث.
والطرق التي ذكروها كوسائل لنقل وانتقال الحديث الشَّريف هي:
أوّلًا: طريق السّماع؛ وهو أن يصغي التلميذ إلى ما يقوله شيخه من الحديث الشَّريف، سواء مما يحفظه في ذاكرته أو مما دُوّنه في كتاب.
وقد اعتبر علماء الحديث هذا الطريق من أعلى مراتب تحمّل الحديث الشَّريف().
ثانيًا: طريق القراءة؛ وهو أن يقرأ التلميذ الكتابَ الذي يرويه الشَّيخ على الشَّيخ نفسه، أو أن يكون القارئ شخصًا آخر والتلميذ يستمع لهذه القراءة، ويكون دور الشَّيخ هنا هو إقرار وإمضاء هذه القراءة أو تصحيحها.
ويُطلق عليها أيضًا (العَرض)؛ لقيام التلميذ بعرض الأحاديث على شيخه ليقرّه الشيخ عليها ويمضيها له.
وبهذا يحصّل للتلميذ طريق إلى الكتاب المقروء.
ثالثًا: طريق المناولة؛ وهو أن يعطي الشَّيخ تلميذَه الكتاب الذي يريد أن يرويه عنه، وذلك بأسلوبين:
1- المناولة المقرونة بالإجازة: فالشَّيخ في هذا الأسلوب يناول تلميذه الكتاب ويصرّح بإذنه وإجازته له برواية الكتاب عنه، كأن يقول له (اروِ عني أحاديث هذا الكتاب) وبهذا يكون للتلميذ طريقه لرواية الكتاب عن شيخه.
2- المناولة المجرّدة عن الإجازة: فالشَّيخ هنا يناول التلميذ الكتاب من دون أن يقرن هذا الإعطاء بأيّ إجازة لرواية الكتاب. وقد وقع خلاف بين علماء الحديث في صحّة هذا الأسلوب من المناولة().
رابعًا: طريق الكتابة؛ وهو أن يكتب الشَّيخ الكتاب أو الحديث أو يأمر أحدًا أن يكتبها له ثم يعطيها لتلميذه، وهي بأسلوبين ـ كما في المناولة ـ: مقرونة بالإجازة ومجرّدة عنها.
خامسًا: طريق الإعلام؛ وهو أن يُعلم الشَّيخ تلميذَه أن هذه مروياته وهذا كتابه، ولكن من دون أن يناوله إياه أو يكتبه له.
وقد وقع الخلاف بينهم في صحّة هذا الطريق().
سادسًا: طريق الوصية؛ وهو أن يوصي الرَّواي لتلميذه أن يروي عنه الكتاب أو الأحاديث، وقد وقع خلاف بينهم في صحّة واعتبار هذا الطريق من الرواية().
سابعًا: طريق الوِجادة؛ وهي في اللغة مأخوذ من (وَجَدَ)، وهو أن يجد الأحاديث أو الكتاب من دون أن يكون له طريق إليه، وينسبه لمؤلِّفه بملاحظة خطّه، فيقول: (وجدت بخطّ فلان كذا وكذا).
وقد وقع خلاف في صحة هذا الطريق أيضاً().
الثامن: طريق الإجازة؛ وهي الإذن في الرِّواية؛ فأجاز الشَّيخُ تلميذَه بمعنى أذِن له بأن يروي عنه مروياته.
وهي: التَّجويز والإذن بالروية().
وقد عرّفها الشَّيخ آقا بزرك الطهراني (الذَّريعة إلى تصانيف الشيعة 1: 13، تحت عنوان (الإجازة)): (الكلام الصادر عن المجيز المشتمل على إنشائه الإذن في رواية الحديث عنه بعد إخباره إجمالًا بمروياته)، ثم أردف قائلًا: (ويُطلق شايعًا على كتابة هذا الإذن المشتملة على ذكر الكتب المصنفات التي صدر الإذن في روايتها عن المجيز إجمالًا أو تفصيلًا، وعلى ذكر المشايخ الذين صدر للمجيز الإذن في الرِّواية عنهم، وكذلك ذكر مشايخ كل واحد من هؤلاء المشايخ طبقة بعد طبقة إلى أن تنتهي الأسانيد إلى المعصومين (عليهم السلام)).
وقد قسّموها إلى قسمين رئيسين:
1- الإجازة الشَّفهية: وهي إجازة الشَّيخ لتلميذه أن يروي عنه ما صحّت روايته له شفاهيًا من دون أن يحرِّر له هذا الإذن أو الإجازة.
2- الإجازة التَّحريرية: هي تحرير وكتابة الشَّيخ الإذن في الرّواية في كتاب أو رسالة، وعادة ما تكون مقرونة بإجازة شفويّة.
وهذه الإجازة التَّحريرية على صور، هي:
أوّلًا: المختصرة، والتي يُؤذن فيها للتّلميذ أن يروي الكتب والروايات التي صحّت للشَّيخ روايتها عن مشايخه.
ثانيًا: المتوسطة، وهي تلك التي يضمّنها الشَّيخ إسنادًا كاملًا بدءًا منه إلى حديث أحد المعصومين (عليهم السلام)، وهي منتشرة كثيرة.
ثالثًا: الكبيرة، وهي التي يذكر فيها الشَّيخ المجيزُ كلّ مشايخه وأسانيدهم إلى المعصومين وترجمة لكل واحد منهم، وغير ذلك مما يثري الإجازة.
وقد اشتهرت مجموعة من الإجازات الكبيرة والتي تعدّ إلى اليوم من مصادر الحديث والتاريخ والتراجم والتراث، منها: إجازة العلامة الحلّي لأبناء زهرة، وإجازة الشَّيخ صاحب المعالم للسَّيد نجم الدِّين الحسيني وولديه، وإجازة الشَّيخ يوسف البحراني (لؤلؤة البحرين في الإجازة لقرَّتي العين)، وإجازة السَّيد عبد الله الجزائري (الإجازة الكبرى)، وإجازة السَّيد حسن الصَّدر (بغية الواعاة في طبقات مشايخ الإجازات)، وغيرها.
2ـ العلامة الفضلي من الاستجازة إلى الإجازة
كان وما زال من دأب طلاب العلوم الدِّينية أن يستجيزوا مشايخ الإجازة للحصول على طريق إلى الكتب والروايات، وكان المشايخ فيما مضى يسيرون على طريق القراءة ثم الإجازة، وفيما بعد اندثرت هذه الطريقة ليحلّ محلّها بشكل مطلق تقريبًا الإجازة في الرِّواية المجرّدة من أيّ شيء سوى مدوّنة يحرِّرها الشَّيخ المجيز للتلميذ المجاز.
في العشرة الأخير من شهر محرّم سنة (1374هـ) صدرت من الشَّيخ آقا بزرك الطهراني (1293هـ- 1389هـ) للشَّيخ عبد الهادي الفضلي إجازة رواية، وكان حينذاك طالبًا في حوزة النجف الأشرف لم يتجاوز العشرين سنة.
وهذه الإجازة الوحيدة التي يمتلكها الشَّيخ الفضلي، فلم يستجز أحدًا من أعلام الإجازة حتى والده الميرزا محسن الفضلي (1409هـ) الذي يمتلك إجازة من الشَّيخ حبيب بن قرين الأحسائي (1363هـ).
وربما هذا يشير إلى مدى الاعتزاز الذي يحمله الشَّيخ الفضلي تجاه شيخه الطهراني وإجازته له، ومما يؤكّد هذا الاعتزاز السّلوك العملي الذي انتهجه الفضلي تجاه الطهراني أيّام كان الفضلي طالبًا وأستاذًا في حوزة النجف الأشرف؛ فهناك ما يشير إلى تردّد الدكتور الفضلي على شيخه الطهراني في مكتبته الخاصة، من ذلك أنَّ الطهراني ذكر الفضلي في كتابه الشهير (الذَّريعة إلى تصانيف) في موضعين:
1- عند ذكره كتاب (بداية الهداية)، قال: ((بداية الهداية) في علم التجويد، للشَّيخ عبد المحسن بن الشَّيخ محمَّد بن الشَّيخ مبارك اللّويمي البلادي الأحسائي المتوفى بسرجون سنة 1250، عند عبد الهادي ابن ميرزا محسن الفضلي في البصرة)().
2- عند ذكره كتاب (التّحفة)، قال: ((التّحفة) في سيرة الشهيد المظلوم، للشَّيخ عبد المحسن بن الشَّيخ محمَّد بن الشَّيخ مبارك اللّويمي الأحسائي، فرغ من رسالته الفقهية سنة (1206)، والتحفة عند عبد الهادي الفضلي بن الميرزا محسن في البصرة)().
ومما يؤكّد هذا الاعتزاز ما نقله الفضلي أكثر من مرّة وفي أكثر من مناسبة من أنّه كان يذهب بزوّاره الذين يأتونه من خارج النجف لزيارة شيخه الطهراني، منها: اصطحابه هو والسَّيد محمد تقي الحكيم (1339هـ – 1423هـ) لرئيس معهد الدِّراسات الإسلامية في جامعة بغداد الدكتور صالح أحمد العلي المتخصِّص في التأريخ الإسلامي، وكانت له شهرته على المستوى العالمي في الجامعات الأمريكية والأوروبية والاتحاد السوفيتي، والذي نقل للشيخ الطهراني إعجاب الأكاديميات العربية والأجنبية به وبكتابه (الذَّريعة)().
يصف العلامة الفضلي بعض مشاهداته للسِّيرة العملية للآقا بزرك الطهراني بقوله:
(ومن الظَّواهر التي رأيتها عنده: كان يؤّم صلاة الجماعة في كلّ ليلة بمسجد الشَّيخ الطوسي، ليذهب بعد الصلاة لزيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي كلّ أربعاء يذهب إلى مسجد الكوفة ليؤدّي أعمال المسجد بكاملها مع ضعف بدنه، ثمّ يخرج مشيًا على الأقدام من مسجد الكوفة إلى مسجد السّهلة ليؤدي أعمال المسجد ويؤمّ الجماعة هناك.
وفي يوم الخميس من كلّ أسبوع يذهب إلى وادي السَّلام المقبرة العامّة في النَّجف الأشرف.
هذا كلّه إلى جانب أعماله الضخمة التي لا يقوم بها فرد بل هي أعمال جماعات ولجان علمية، كان رجلًا كلّه عمل فلا تجده في حياته بدون عمل ينتفع به لنفسه أو ينفع به الآخرين)().
منذ أن أُجيز العلامة الفضلي برواية الحديث في سنة 1374هـ لم تصدر عنه أيّة إجازة لآخرين إلّا بعض مضي أكثر من ثلاثين سنة عليها، وهي بحسب تسلسلها التَّاريخي:
17. هذا بالإضافة لإجازة صدرت للأستاذ أحمد الشعيبي الأحسائي لكنّها مفقودة لذا لم نحدد تاريخ صدورها.