من واقع الحياة(الإنسان أولاً)
د/ عبدالجليل الخليفه
عبدالله مهندس يعمل في إحدى الشركات منذ عشر سنوات و يحصل شهريا على راتب يبلغ خمسة عشر الف ريال، و له زوجة و ثلاثة أطفال. أشترى منزلا (دوبلكس) بأقساط شهرية قدرها أربعة الاف ريال. و قبل ستة شهور أشترى سيارة لزوجته بأقساط قدرها ثلاثة الاف ريال شهريا. يدفع عبدالله شهريا تكلفة الكهرباء و هي حوالي خمسمائة ريال و تكلفة الماء و هي حوالي اربعمائة ريال، و تكلفة الأتصالات له و لزوجته و هي ستمائة ريال شهريا، و تكلفة الوقود للسيارتين و هي خمسمائة ريال. و بذلك يتبقى لعبدالله مبلغ ستة الاف و خمسمائة ريال ليصرفها على عائلته شهريا. لذلك لا يستطيع عبدالله أن يوفر من هذا المبلغ المتبقي، و لا أن يلحق ابناءه بالمدارس الأهلية التي لايستطيع دفع رسومها. لحسن الحظ، والد عبدالله متقاعد و يحصل على خمسة الاف ريال شهريا كمستحق تقاعدي فهو لايحتاج لابنه عبدالله ماديا و ان كان لايستطيع تقديم العون له.
في بداية عام 2020 م تلقى عبدالله رسالة من شؤون الموظفين بالشركة تخطره بأن الشركة ونتيجة للظروف الأقتصادية العالمية قرّرت الأستغناء عن خدماته. وقعت الرسالة كالصاعقة على عبدالله فحاول أن يجتمع برئيسه المباشر و بعده بنائب رئيس الشركة و لكن دون جدوى. حصل عبدالله على مستحقات نهاية الخدمة و هي حوالي مائة الف ريال. لايبدو أن الأمور ستتغير سريعا فأغلب الشركات قد سرحت موظفيها أو حولتهم على نظام ساند. لذلك قرّر عبدالله مع زوجته أن يستغنيا عن سيارة الزوجة و بذلك يستريحا من قسطها الشهري و يحصلا على تعويض قدره عشرون الف ريال عن قيمتها الحالية المسددة سابقا. تناقش عبدالله مع زوجته في أن يبيعا منزلهما و يستأجرا شقة سكنية، و لكن كان من الواضح أن الفرق بين قسط المنزل و ايجار الشقة لا يستحق المخاطرة بخسارة المنزل. و هكذا فقد عبدالله دخله الشهري و ليس لديه سوى مائة و عشرون الف ريال، صرفها عبدالله على عائلته خلال ستة شهور. و بحلول منتصف عام 2020، أصبح عبدالله يئن من الفقر و تكاليف المعيشة و قسط المنزل.
كانت الليالي طويلة يتململ فيها عبدالله على فراشه و هو يقلب أفكاره فلا يرى إلا طرقا مسدودة و أبوابا مغلقة. في الصباح، ينطلق حاملا أوراقه و خبراته للبحث عن عمل من مدينة الى آخرى. أستغنى عبدالله و عائلته عن كل الكماليات، و أكتفى بأشد الضروريات و لكن تكلفة المعيشة قد جففت موارده و عروقه. ذات يوم، رنّ جرس تلفونه و اذا بمدير إحدى الجمعيات الخيرية يعرض على عبدالله مساعدة عينية قدرها الفي ريال، شكره عبدالله و قبلها و إن كانت هي المرة الأولى في حياته. أستغرب عبدالله كثيرا من بعض زملائه القريبين الذين كانوا معه قبل تقلب الأحوال، فلم يعد يسمع منهم كلمة و لايرى لهم أثرا. أشفق عليه والده المسكين فقرّر أن يكتفي بثلاثة الاف من مرتبه التقاعدي و ان يعطي ابنه عبدالله الفي ريال شهريا. لاشك أن والد عبدالله و أمه و كذلك عبدالله و عائلته أصبحوا فقراء لايكفيهم دخلهم الشهري حتى لشراء الضروريات، دعك عن الكماليات.
لو سألنا ماسبب هذا الفقر، و كيف يمكن علاجه؟ لاشك أن فصل عبدالله من وظيفته هي سبب هذا الفقر. و هنا تبرز عدة احتمالات منها:
أولا: قد تنخفض مداخيل الشركات و مشاريعها فتضطر الشركات الى فصل الأفراد من أعمالهم و بذلك يصبحوا فقراء،
ثانيا: قد تستغل إدارة بعض الشركات الظروف الحالية بهدف تقليل تكاليفها فتعمد الى بند رواتب الموظفين و العمال كمصاريف تشغيلية يجب ترشيدها، و بذلك تفصل الكثيرمنهم فقط لزيادة أرباحها و ليس لمعالجة ظروفها الأستثنائية،
ثالثا: قد تكون الشركات مزيجا من الحالتين السابقتين، فهي قد أنخفضت مداخيلها واقعيا، و لكنها في ذات الوقت تتعمد المبالغة في فصل و تسريح العمالة لتقليل التكاليف و زيادة الأرباح.
و لكن كيف يمكن للشركة أن لاتفصل موظفيها و هل يمكنها تحمل بنود رواتب الموظفين و العمالة رغم نقص المشاريع و المداخيل؟ هنا برزت طريقتان لحل هذه المعضلة الأقتصادية:
الطريقة الأولى:
: (Keynesian Approach , Fiscal Stimulus(الطريقة الكنزية :جون مينارد كينز،
حيث تتبنى الحكومات المشاريع الكبيرة للبنية التحتية كالشوارع والجسور و القطارات و الموانىء و المطارات و بذلك تحقق حركة عمرانية و مشاريع تدعم بها عمل الشركات و تحقق لهم دخلا يكفي لتشغيل عمالتهم بدلا من تسريحها. و هذا ماعمدت له الحكومات الغربية بعد الكساد الكبير الذي أصاب العالم في ثلاثينات القرن العشرين. و سلبية هذه الطريقة أنها تزيد من مديونية الحكومات التي تتحمل تكلفة المشاريع.
الطريقة الثانية:
: (Quantitative Easing (مدرسة شيكاغو، ميلتون فريدمان، التيسير الكمي او النقدي،
و تعتمد هذه على توفير السيولة المالية من قبل البنوك المركزية و التي تخفض فوائد الأرباح على القروض و الودائع، مما يشجع المستثمرين على الأقتراض و النشاط التجاري و الأقتصادي فيوفر بذلك دخلا و عملا و مشاريعا تشجع الشركات على عدم تسريح عمالتها. وعادة ما تنطوي السياسة النقدية التوسعية على شراء البنك المركزي للسندات الحكومية قصيرة الأجل من أجل خفض معدلات فائدة السوق قصيرة الأجل. و قد تم استخدام هذه الطريقة إبان الأزمة المالية عام 2008. و خلال الأشهرالماضية من عام 2020م ، عمدت الحكومات الغربية على صرف معونات للأفراد المسرحين من الأعمال و للشركات و ذلك لمساعدتها في تحمل الانكماش الأقتصادي و الأبقاء على عمالتها دون تسريح. و سلبية هذه الطريقة هو رفع مستوى التضخم. و يشترط لنجاح هذه الطريقة ثقة البنوك في الأفراد و الشركات الصغيرة حتى تقرضها، أما اذا فقدت هذه الثقة فقد يفشل هذا التيسير.
الإنسان أوّلاً:
الطريقة الكنزية و التيسير الكمي قد يشجعان الحركة الأقتصادية و يضخان الدم في شرايين الشركات فترتفع مداخيلها و تحافظ على رأس مالها البشري و هي اليد العاملة و خبراتها المتراكمة عبر السنين. و لكن مع الأسف ليس دائما، فقد تستفيد إدارة بعض الشركات من الظروف الأقتصادية فتستفيد من التسهيلات النقدية و المشاريع الحكومية و مع ذلك كما هو موضح في الحالتين الثانية و الثالثة سابقا، قد تعمد الى تسريح موظفيها طمعا في تقليل تكاليفها و زيادة أرباحها. و ذلك لأنها تعمل بمبدأ (الأرباح أوّلاً).
و هنا يأتي التركيز على روح المبادئ الأدارية الجديد و هو مبدأ (الإنسان أوّلاً)، فاليد العاملة التي تثق بإخلاص ادارتها و حسها الأنساني ستبقى وفية لمبادىء الشركة و ستبذل الغالي و الرخيص في تحقيق أهدافها. و الإدارة الوفية لموظفيها ستبحث عن كل الوسائل و السبل لابقائهم في خدمة الشركة بينما تبحث الإدارة الجشعة عن أيسر السبل للخلاص منهم و تسريحهم. ما أحوجنا و نحن نمر في هذه الظروف الأقتصادية الحرجة أن نتذكر أن الإنسان هو أعظم استثمار للشركات و المجتمعات، لذا يجب العمل بحرص و شفافية لأحترام حقوقه الوظيفية ضمن مبدأ (الإنسان أوّلاً). و هذه مع الأسف من المبادئ الإدارية التي تغيب في وهج الحياة المادية الصرفة التي تعيشها المجتمعات حاليا.