الشّبعان جبل العرب المفقود
علي محمد الحاجي
ربما تُفقد طائرة ركاب ضخمة كما حدث للطائرة الماليزيّة التي حيّرت العالم، وربما يفقد بلدٌ كامل من الخارطة كما اختفى نصف السّودان مثلاً، بل من عجائب الدنيا التي عشناها مؤخراً فقدان شعب بأكمله كما حصل للأيزيديين بالعراق، ففي صباح اليوم التالي اختفوا من بيوتهم ومدنهم وأصبحوا إمّا أسرى أو قتلى أو مطاردين في القفار .
غير أن هذه الاختفاءات الغامضة والمحيّرة والمحزنة لها أسبابها الكثيرة التي تراكمت إلى أن قلبت المشهد فجأة أمام أنظار العالم .
لكن كيف يختفي جبلٌ كبير تحيط به أربع قرى بعضها يصنّف كمدينة، وتحيط بهذا الجبل مزارع ضخمة من النخيل؟!
كيف يحدث هذا وهو لم تُلقى عليه قنبلة نوويّة مثلاً، أو لم يدمّره زلزال عنيف؟ فهذا الجبل العريق يقع في منطقة آمنة مطمئنة مستقرّة بفضل الله تعالى ونعمه وإحسانه .
عندما نستقرأ التاريخ والأدب والشعر العربي العريق نجد ملاحم نُسجت لهذا الجبل وحوله، ملاحم من بطولات المعارك ومن نخوة العرب ومن أيّامهم الشّهيرة وتراثهم وصناعاتهم وتمورهم وأنهرهم الفياضة بالماء، ونقرأ أيضاً عن إحدى أشهر مدن العرب التي نشأت حول هذا الجبل، إنّها مدينة هجر العريقة الراسخة في تاريخ وأذهان وأمثال العرب والتي من أشهرها: (كجالب التمر إلى هجر). ومن ينافس تمر هجرٍ وقد أهداه بنو عبد القيس إلى الرسول الأعظم عندما قدموا اليه مسلمين.
وهجر مدينة العرب التي يُضرب بها المثل وقد قامت حول السّفح الشمالي لجبل الشّبعان وتحديداً في قرية التويثير حالياً بقرحائها العريقة في التاريخ، كإحدى قرى بني عبد القيس.
ومن أدب العرب في أشعارهم أبيات كثيرة وقصائد بليغة ذَكرت هذا الجبل الأشم كأحد معالم العرب الرّاسخة والشّهيرة وذائعة الصّيت حتى يُخيّل لك أن كلّ عربي ينتمي لهذه المعلم (كإنتماء قصص العشق إلى ليلى وقيس).
ألم يقل بن عدي بن زيد : تزود من الشّبعان خلفك نظرةً … فإن بلاد الجوع حيث تميم.
وقال ابن حمراء : أبا الشّبعان بعدك حر نجد … وأبطح بطن مكة حيث غارا.
هل أثرتُ فضولكم عن جبل الشّبعان هذا؟! جبل العرب الشّهير وقاعدة مدينة هجر العريقة؟!
لكن كيف اختفى هذا الجبل عن الوجود ماسحاً باختفائه تاريخاً عريقاً وأمجاداً عربيّة كبرى؟!
هل تتخيّلون معي أنّه اختفى (بجرّة قلم) معلناً خطأ الشّاعر حين قال: (السّيف أصدق أنباءاً من الكتب)، فكلمة واحدة مسحت من الوجود جبلاً كبيراً مترامي الأطراف بلا عناء ولا عدة ولا استعداد ولا قتال ولا دماء.
لقد أتعبت وأضنت هذه الكلمة الباحثين والمُحققين في الأدب والتاريخ والمواقع الأثريّة، حين تحول إسم هذا الجبل قبل سنوات قليلة فقط، قد لا تصل لأربعين سنة إلى مسمى “جبل القارة”.
هل أدركتم معي الآن فداحة الخطب وكيف لكلمة أن تقلب التاريخ وتخفي جبلاً عن الوجود وتفعل ما يعجز عن فعله آلاف البشر!
ورغم الخطأ المهني والعيب اللغوي الفادح في المُسمى حيث نصّت معاجم اللغة على أن (قارة) تعني الصّخرة العظيمة أو (الجُبيَل الصّغير) إلا أنّه للأسف لم تهتم أيّ جهة بتصحيح هذا الخطأ، علماً أن جبل القارة التاريخي والأثري والجميل في شكله، لا يزال موجوداً في قرية القارة يتوسط منازلها كقلبها النّابض بالحياة.
ومن تعريفات معاجم اللغة لكلمة (قارة): الصّخرة المستديرة لها عنق مستدق في السماء، وهذا وصف متكامل لجبل القارة الجاثم بوسطها، والذي تنتشر له صور جوية غاية في الجمال والرّوعة، حيث تُحيط به النّخيل من جهة، ومنازل القرية من جهة أخرى، بخلاف جبل الشّبعان الكبير والذي يُحيط هو بأربع قرى في أركانه الأربع ويُحيط أيضاّ بالكثير من المزارع.
لقد استرعى انتباهي كاتب من شقيقتنا القطيف أصدر مؤخراً كتابا يدّعي فيه أنّ مدينة هجر هي في القطيف وليس الأحساء، وقبل أن أعتب عليه وأناقشه بالدليل العلمي الموثوق، رجعت لنفسي وقلتُ لها: ألسنا نحن السّبب في ذلك؟! عندما سمحنا لأنفسنا بالتجاوز على تراثنا وتزييفه بتغيير مسمياته كالإخفاء القسري لجبل الشّبعان وهو قاعدة هجر وقصبتها الأعظم، فمن الطبيعي بعدها أن يتجرّأ إلآخرون بسرقة باقي تراثنا والعبث به.
وكيف أُناقش هذا الكاتب الذي نقل هجر كعرش بلقيس إلى القطيف إذا سألني أين قصبة هجر العظمى وقاعدتها الأشم الشّبعان؟! ماذا أقول له إذاً نظرنا إلى الخرائط الحديثة وقد اختفى منها جبل العرب الشّهير (الشّبعان).
فلا اراني أقول بعدها: إلا هنيئاً له بهجر فقد جنت على نفسها براقش، ومن لا يحفظ تاريخه ومعالمه وتراثه فلن يحفظه له أحد وسيكون عرضة للعيث والتزوير .