جائحة بطابع ”قضية الرأي العام“
هود ابراهيم
مع إطلاق فكرة مشروعنا ”بودكاست ترجمات – أنهينا خمس حلقات حتى الآن“ بدأنا في أول حلقة تبدو أنها الأنسب حيث كانت تطرح تفصيلا حول مراحل تكون النظرية العلمية، وتجيب على أسئلة من قبيل “ما النظرية العلمية وما المراحل التي تمر بها أي نظرية من مرحلة اعتبارها فرضية أو أي فكرة غير مثبتة إلى مراحل تراكم الأدلة الكافية لدعمها وبالتالي تنتقل عبر المنهج العلمي إلى أن تكون نظرية يتم قبولها في الأوساط الأكاديمية وذات متانة ووضوح.
وكما جاء في المقالة التي قمنا بتسجيلها صوتيا ”النظرية العلمية ليست النتيجة النهائية للمنهج العلمي هي يمكن أن تثبت أو ترفض تماما مثل الفرضية، يمكن اضافة أي تحسينات وتعديلات إلى النظرية العلمية عند جمع المزيد من المعلومات ولذلك تزداد دقة النظرية في التنبؤ بمرور الوقت. النظريات هي أساسات للمزيد من المعرفة العلمية والاستفادة من المعلومات المجموعة كما أن النظريات تختلف عن القوانين“ انتهى النقل
أتيت بهذه المقدمة لكي أبين أن التراكم المعرفي وتراكم المعلومات و معرفة العلماء لبعض المناهج يعطيها الفسحة لكتابة الآراء المستندة على الأدلة المتينة. والتي بدورها تقوم على توجيه الناس ومساعدة المختصين لتخطي بعض الأزمات، بالضبط كما هو الحال في “دليل الإسعافات الأولية – مثلا” فهذا الدليل لم يكن ليظهر بهذا الترتيب ويكسب كل هذه الثقة إلا بسبب التراكم المعلوماتي والتجربة. وهو حال بقية العلوم على وجه الأرض… كل العلوم
وهذا كله يفسر ما يجري حول المقترحات العلمية الحالية حول جائحة كوفيد19. فالفيروس جديد على العلماء فمن الطبيعي أن الأجوبة لكثير من الأسئلة لا تكون موجودة. وإن من صفات العالم الحقيقي او المتعلم لأي علم كان هو إقراره بتواضع عقله وإمكانياته حيث لا يجد حرجا من قوله: ”ليس لدينا معلومات كافية او لا نعرف الإجابة حتى الآن“. لأن المنهج العلمي يستدعي التداول والأخذ والرد والتوضيح والهدم والبناء والمناقشة والتجربة ودراسة الأحوال وقراءة التواريخ والإحصاء وحالة التجارب والنتائج الواردة وعدد الفحوصات وكيفيتها وحال الفاحصين والمفحوصين والأعمار والجنس والحالة النفسية والمعرفية والإدراكية و و و ….الخ والنظر إلى كثير من المتغيرات حتى يتم الاستقرار على رأي وقرار يدعم إنشاء دليل قوي ورصين يصلح للزمن الحالي والقادم بعد كل هذه الخبرة الطويلة ”التي عادة تكون بالسنوات والكثير الكثير من الدراسات“ كما في “دليل الاسعافات مثلا”. بين كل هذه المراحل التي تمر عادة في جو علمي بحت في القاعات الجامعية او عبر التقارير العلمية او الدراسات المحكمة او المؤتمرات ، وهي بروتوكولات معتمدة ومعروفه لدى أهلها، ظهر من أستهوى القنية الحالية وقام بالتداول العلني عبر وسائل التواصل الاجتماعي إما حماسا أو جهلا أو قصدا.
ولأن الناس لا هم لديها حاليا إلا هذا الموضوع، حيث أنه صار هو المتداول الأول والأخير ومن كل الوسائل والأعمار فقد تحولت أمور الجائحة ذات الأصل والموضوع العلمي إلى …“قضية رأي عام”!!!
ومن المعلوم أن قضية الرأي العام توضع لوصف حالة من دخول أكثرية فئات المجتمع بكافة الأعمار والمستويات في نقاش ”قضية معينة وتحليل أبعادها والجدال حول آراءها“. وما زاد الطين بلة هو قلة الخبرة “الإعلامية” للطاقم الطبي الذي وجد نفسه محاطا بالكاميرات الرقمية لمعرفة المستجدات او للرد على التصريحات المقابلة او الرأي الآخر من طبيق دولة مجاورة او التجربة التي قامت بها وزارة الصحة في الدولة المعينة او التوصيات الحالية من منظمة الصحة العالمية او الرد على التفسيرات السياسية التي تتهم الصين مثلا او الفيروس المصنع اوتبدل التوصيات وتشديدها عند دولة وترخيتها عند أخرى والكثير من الحالة الإعلامية التي لم يعتد عليها الممارس الصحي بهذه الدرجة من تسليط الأضواء والضغط. إذ لا ترفيه ولا أخبار رياضة ولا فن ولا شيء سوى تناقل الأخبار الطبية التي أصبحت تقود العالم بكل مفاصله وتفاصيله …
إن ما ترونه اليوم أمامكم هو صورة واضحة للتداول العلمي البحت في المجامع العلمائية، وما تغير التوصيات إلا تسجيل معرفة تراكمية تطلبت التعديل على هذا البروتوكول او ذاك. وما التدني في المستويات التفسيرية والتطيُر ببعض الأخبار ونزول المعلومة لمستوى المجتمع بهذه الطريقة إلا لدخول علم جديد آخر يحاول قيادة المنظومة العلمية الطبية حاليا “الإعلام”، لذلك أوجهه هذه الكلمات الأخوية للمارسين الصحيين على كل المستويات … كاميرتك وُجدت لخدمتك، ومنها ما تقوم به لتثقيف المجتمع والناس حول هذه الجائحة، فلا يكون همُك السبق الصحفي ولا الإثارة … فقد ورد في قَسْم أبقراط الذي تلوتَه في التخرج: ( وسوف أحافظ على طهارتي وفني بطهارتي وتقواي ) وفي قَسم الطبيب الوارد من نقابة الأطباء الأردنية قولهم: ( وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقيا مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. والله على ما أقول شهيد ).
وتذكر قوله تعالى قبل أي سبق صحفي علمي تحاول الإدلاء به {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.
*وهُنا نقترح على وزارات الصحة فتح المجال لتخصصات تهتم بالإعلام “الطبي” يكون القائم عليها طبيبا متخصصا في مجاله ودارسا في مجال الإعلام والتعامل المعلوماتي في هذا الزمن